التاريخ ومصطلحه في مجلس دراية
هذا هو مجلس دراية الثالث الذي ينعقد للحديث عن كتاب مصطلح التاريخ لأسد رستم، ومن الطبيعي أني لن أعيد كتابة عمل نشرته فيما مضى كما هو، فالأصل أن يكون مع الجديد تجديد، أو تغيير رأي، أو إثارة مسألة، ففي الإضافة إحياء موات أو زيادة حياة للحي، ولهذا سأتحدث عن بعض الجوانب على عجل تقدمة للحديث حول ما اجتمعنا لأجله، وأول شيء أشير إليه هو التنبيه إلى أهمية علم التاريخ، وتظهر منزلته لنا من خلال:
- كثرة الأخبار في القرآن الكريم والسنة المشرفة؛ بل إن سيرة الجناب الكريم في أساسها تاريخ وهي أحد أهم منطلقات هذا الحقل لدى المسلمين والأول منها.
- التاريخ ركن من أركان ثقافة أيّ أمة، وجزء من حضارتها، ومن ليس لديه تاريخ يعيش في أزمة، ويحاول صنع تاريخ بأيّ ثمن، وأذكر أن سفيرًا مصريًا جاب البلاد ثمّ لاحظ تأثر الأمريكان من فقدانهم لعمق التاريخ، وإذا أدرك الأقوياء الكدر بسبب هذه المنقصة فما بالكم بغيرهم من الضعفاء محدثي النعمة والتاريخ!
- الإلمام بالتاريخ صفة مركزية من صفات رجل الدولة، فالتاريخ مدرسة الساسة، وحدثني عن رجل دولة عظيم ليس له بصر بالتاريخ!
- التاريخ لصاحبه عقل ثان، وتجارب تراكمية، ومدخل معين لاستشراف القادم، والنبوغ في دراسة علم المستقبل.
- يوصف التاريخ بأنه أبو العلوم؛ لأنه مرتبط بكل علم تقريبًا، وبين التاريخ وبعض العلوم صلة وثيقة مثل علوم البلدان “الجغرافيا” والأنساب والشعوب واللغة وغيرها. وللتاريخ علاقة وثيقة بعلوم الدين؛ فما أكثر المؤرخين من علماء الأديان، وفي حضارتنا نجد أسماء لامعة مثل الطبري، وابن كثير، وفي تاريخنا السعودي نعرف ابن غنام، وابن عيسى، والبسام، والأمثلة كثيرة.
وقد ابتلي التاريخ بعامة أو تاريخنا على وجه الخصوص بمقولات عامة أو جامدة وظالمة، بيد أنها تذوب مع الفحص حتى تسيل في ممرات الذهن؛ لتجف مع بزوغ أول أنوار البصيرة عليها، ومنها:
- التاريخ يكتبه المنتصر، والحقيقة تثبت أن التاريخ حكاية متاحة يستطيع كل أحد تسطيرها، وإنما الفرق في القدرة على النشر والذيوع، وفي الروح التي توجد لدى كاتبه، وفي النهاية لا يكاد أن يبقى شيء طي الكتمان.
- التاريخ يعيد نفسه، والأحداث لا تعود بتفاصيلها، وإنما هي السنن التي تأتي بغير ما صورة، والشيء اللافت أنه على كثرة تكرار العبر فإن عدد المستفيدين منها قليل، وتلك عبرة جديرة بالتأمل!
- تاريخنا مزور! تاريخنا دموي! ولقد كبرت كلمة تخرج من أفواههم؛ فكيف يكون تاريخنا مزورًا وهو الذي نقل كلّ شيء بمنهج دقيق باهر! وأين هي الدماء قياسًا للمجموع العام من تاريخ عصور قوتنا التي لم نشعل فيها حروبًا كونية، ولم نقترف إبانها عمليات إبادة أو تهجير؟ وفي حين بقي النصارى واليهود في البلاد التي فتحها المسلمون؛ يحقّ لنا أن نسأل عن مصير مسلمي الأندلس! وماذا عن حرب المئة عام في أوروبا، والحروب العالمية وحروب الأوبئة والذكاء الاصطناعي ونهاية التاريخ! ومن الذي أباد شعوبًا كاملة بوحشية واتخذ من يوم القتل المروع عيدًا وطنيًا؟!
- التاريخ للزعماء والملوك وللحروب والمعارك، ويجاب عن هذه المقولة بما صاغه فولتير رائد إحدى مدارس تفسير التاريخ حين كتب: صار نيوتن أهم من قيصر!
وآخر إشارة قبل الدخول للحديث المختصر عن الكتاب ستكون حول نصارى العرب؛ فقد ظهر منهم قادة وزعماء وعلماء وأدباء كبار، رزقهم الله الإنصاف وحسن التصرف، فالسياسي المصري القبطي مكرم عبيد يؤكد أنه قبطي بثقافة عربية إسلامية واجبة التقدير والتوقير، ويدافع السوري فارس الخوري عن الشريعة الإسلامية في مجلس المبعوثان العثماني حتى نزع شيخ عمامته وخاطبه بقوله: أنت أحق بها مني يا أبا سهيل!
كما تعمق المؤرخ والبلداني الفلسطيني د.نقولا زيادة بدراسة تاريخ المسلمين حتى غدا تدريسه لمناهجه أحسن من بعض المسلمين، وموقفه منها موقف المحب المنافح، وهو نفس الموقف الذي استولى على ذهن مؤلفنا أسد رستم كما سيأتي. وفي جانب الأدب لن ننسى اللبناني مارون عبود وبلديه بولس سلامة، وفي اللغة نتذكر العراقي إنستانس الكرملي، وفي علوم الاجتماع والإنسان يبرز لنا الفلسطيني إدوارد سعيد، كما نجد الفلسطيني وائل حلاق في أصول الفقه ودراسات الشريعة.
ولا يخفى علينا اعتراف بعضهم -مع أنهم أقل إنصافًا ممن سبقوا- بأثر القرآن على لغتهم وبيانهم كما صرح به القبطيان المصريان السياسي الدولي د.بطرس غالي، والكاتب د.لويس عوض. وللمؤرخ الأردني أحمد العلاونة كتاب يجمع شتات مثل هذه الأقوال المأثورة عن النصارى العرب في الثناء على الكتاب العزيز، وبيان آثاره عليهما، ولو ذهبنا نحصي لوجدنا الكثير من النماذج، وإبرازها يلقم بعض المتشدقين أحجارًا، ويلقي في بطونهم نارًا، ويملأ قلوبهم المريضة غيظًا.
أما قصة الكتاب ملخصها حسب سرد المؤلف لها أنه أسند إليه في الجامعة تدريس مادة التاريخ؛ فوجد فراغًا في هذا الحقل، ولذا قرر تلافيه ومعالجته. وبعد استخدام المراجع الأجنبية، فتح عليه بالعودة إلى كتب مصطلح الحديث لسببين هما: الاستعانة بمصطلحاتهم، وربط عمله بما سبقه من إرث أمته، فزاد ولعه بعلم المصطلح تبعًا لتعمقه فيه. وعندما حضر مؤتمرًا في دمشق للاحتفال بألفية المتنبي وقع على نسخة من كتاب القاضي عياض “الإلماع إلى معرفة أصول الرواية وتقييد السماع” فافتتن به وتماهى معه حتى جزم بعجز علماء الغرب عن الإتيان بمثله، وعزا تأخر علماء أوروبا في هذا العلم إلى جهلهم بما كتبه المسلمون، وصارحهم بأن ما يفاخرون به قد نشأ وترعرع في بلادنا وحضارتنا.
وعنوان الكتاب المقصود مصطلح التاريخ، تأليف: أسد رستم، وقد صدر عن مركز تراث للبحوث والدراسات في (251) صفحة من القطع المتوسط، ومعه مقدمة جميلة من المركز الذي يُشكر على إعادة طباعة هذا العلق النفيس الذي لا يعرفه بعض محبي التاريخ والمثقفين، وعندي منه نسخة قديمة بيد أن هذه الطبعة أجمل وأبهى طباعة واعتزازًا. ومن أجلّ مزايا كتابنا كما ذكر الناشر في المقدمة أن مؤلفه العالم والمؤرخ لم يحن هامته أو يسحق ذاته تحت وطأة المناهج الغربية، بل أفاد منها دون أن يجعلها الأساس، ويأمل المركز بأن يتوقف المؤرخون أمام هذا العمل طويلًا ويبنوا عليه.
ويُعدّ مؤلفنا أول عربي معاصر يستخدم مناهج الدراسة النقدية لفحص وثيقة البراق كما ذكر المؤرخ السوداني الراحل د.عبدالعزيز عبدالغني. وقد قسم رستم كتابه على أحد عشر بابًا، تنبئ عن منهجيته التي رصفها لمن جاء بعده، فصنعت من كتابه أساسًا مرجعيًا في بابه حتى لو مضى على طبعته الأولى أزيد من ثلاثة أرباع قرن، ومحتوى هذه الأبواب مختصرًا هو:
الباب الأول: التقميش، بجمع الأصول بلا انتخاب يقصر عن لمِّ أطراف الحقيقة، ومن مزايا هذا الاستقصاء الإحكام، وندرة الثغرات، والوصول إلى الحقيقة أو القرب منها؛ إذ لا يتوقف الباحث إلّا عندما تضمر المعلومات الجديدة، ويكثر التكرار، ويظن أنه قد استفرغ وسعه وطاقته.
الباب الثاني: العلوم الموصلة، وهي جزء أصيل من ثقافة المؤرخ لا يفلح بدونها؛ مثل دراسة تدرج معاني الكلمات، وأصول المكاتبة والمخاطبة، ورسوم الإدارة، وإجادة اللغات الأجنبية، والتبحر في العلوم الاجتماعية والفلسفية، كي يتصور طبيعة القوى، وأصول الخطاب والمعاني.
الباب الثالث: نقد الأصول، للتأكد بعد التريث من أصالتها وخلوها من الدس والتزوير، واختبار الدليل الظاهري وتحليل الدليل الباطني من نص الأصل نفسه، وتكمل هذه الأبواب الثلاثة موضوع النقد الخارجي.
الباب الرابع: تنظيم العمل بترتيب النصوص بناء على تواريخها لحفظ تسلسل الرواية، وللحيلولة دون تقديم المسببات على أسبابها، ويمكن التنظيم زمنيًا أو مكانيًا أو معًا لتجلية الحقيقة حسب الممكن.
الباب الخامس: تفسير النص، وبهذا الباب يبدأ النقد الداخلي من خلال تفسير النص ببيان ظاهره المراد وإدراك غرض المؤلف منه.
الباب السادس: العدالة والضبط، ونرى فيه أثر علم مصطلح الحديث على أسد رستم، وغاية هذا الباب الكشف عن مآرب المؤلف وأهوائه ودرجة تدقيقه في الرواية، فشك المؤرخ رائد حكمته. وأسهب رستم في النقل عن أكابر علماء الحديث، ومنها جملة معبرة من قول الإمام مالك: من جعل التمييز رأس ماله عدم الخسران وكان على زيادة.
الباب السابع: إثبات الحقائق المفردة بالحدث، فعلى الراوي الابتعاد عن الحوادث المفردة ولكن لا يسقطها وإنما ينقب لعله أن يجد بين الروايات المختلفة ما يزكي الرواية المفردة، وهو باب الاعتبار والمتابعات والشواهد عند المحدثين. وإذا وقع المؤرخ على تناقض بين الروايات أو توافق فلكل حال مسالكه اللازمة، والتوافق يثير الشك ويزيد من الريبة خلافًا لما يظن البعض.
الباب الثامن: الربط والتأليف، إذ يشرع المؤرخ في التأليف وربط الروايات المختلفة.
الباب التاسع: الاجتهاد، وهو قسمان سلبي وإيجابي، ولهما صفات وشروط.
الباب العاشر: التعليل والإيضاح، فلا بد من أسباب يُفسر بها ما جرى فالتاريخ ليس قصة تروى ظواهرها فقط، ففي بواطنها نظر وتحقيق، وتعين عليها دراسة طبائع النفوس والمجتمعات.
الباب الحادي عشر: العرض، فيوصي المؤلف الخبير بحثًا وتأليفًا وتدريسًا بحسن ترتيب المادة، وأمانة النقل والتعليل، مع التفريق بين المتن والهامش، وسبك النص بأسلوب جميل، وبيان راق، ونهج قصصي آسر.
إن ضبط التاريخ لا يكون بغير ضبط مصطلحه، وإدراك العلوم المتداخلة معه بشدة مثل اللغة والآثار والمسكوكات والوثائق وعلوم البلدان والعمران والمجتمع والنفس وغيرها، فبعضها تفسر الأجزاء غير المادية من التاريخ، وهو تفسير لا مناص منه للفهم والعظة. وجدير بالمثقف والقارئ فضلًا عن المؤرخ والمشتغل بالتاريخ أن يستفيد مما كتبه رستم وغيره، حماية لوعيه من أن يخترق، وحماية لقلبه وعقله من أن يصيبهما لوثة من أثر تلبيس أو تدليس، وكي يظلّ دومًا متمسكًا بعزته وشموخه النفسي والحضاري بلا انكسار ولا ذبول.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الثلاثاء21 من شهرِ ذي القعدة الحرام عام 1443
21 من شهر يونيو عام 2022م