قراءة وكتابة

تجربتي مع الكتابة

سررت كثيرًا بانبثاق فكرة مدرسة الكتّاب إلى الواقع، وهي تابعة لعالم المهارات، وأحد مشاريع مسرعة أدب الأطفال واليافعين الذي تموله وترعاه وزارة الثقافة. وكم أتمنى أن يتطور هذا العمل إلى ما يشبه برنامج جامعة أيوا للتدريب على الكتابة الإبداعية، وهو تجربة عريقة قديمة جديرة بأن يفاد منها ويقتبس حسب الملائم لنا، والفرصة مواتية من خلال الكتابة لمشروعات جذب ثقافي واقتصادي وسياحي عديد المزايا والمحاسن.

ثمّ إني سعدت بالدعوة للحديث في اللقاء الأول من لقاءات مدرسة الكتّاب عبر مساحات تويتر عن تجربة كتابية عشتها عمرًا مضى، وسأكمل المسير معها فيما يأتي بحول الله وقوته. وأغتنم المناسبة لحث جميع المستمعين والمستمعات على حضور لقاءات المدرسة القادمة ابتداء من السبت القريب، ومن لم يستطع فيمكنه البحث عن تسجيل تلك المساحات والاستماع إليها.

مقدمات ضرورية:

أود قبل أن أبدأ في سرد هذه التجربة والإجابة عن المحاور التي وصلتني من منظمي لقاء اليوم الاثنين أن أشير إلى مقدمات مهمة، هي:

  • أفتخر بتجربتي وإن كنت لا أعدها تامة أو سالمة من القصور، وأقول هذا لحضّ الكتّاب والكاتبات على الثقة بأنفسهم، والبعد عما عهدناه من أناس يظهرون تواضعًا لا يعتقدونه في قرارة أنفسهم غالبًا. وهذا لا يعني الكبر، ورفض النقد، واعتقاد الكمال، وإنما هي ثقة ذاتية تحفيزية، وموقف ينبئ عن الشغف الإيجابي.
  • لا أزال أتعلّم وأستفيد حتى ولو مضى عليّ عمر غير قصير مع الكتابة محاولًا، وممارسًا، ومشاركًا في شؤونها، ومدربًا عليها أو متحدثًا عنها أو مستعرضًا لكتبها وتجاربها أو مشرفًا على مبادراتها، والتعلم المستمر مسألة مركزية يجب الّا يتنازل عنها الكاتب أو الكاتبة.
  • في مشوار الكتابة ليكن من قواعدك: أستفيد من أيّ أحد، أحرص على التنويع في المصادر والمعارف والقراءات، ألتزم بالاستمرار كاتبًا، أقاوم رغبات الانقطاع، وأتحرر من الملهيات والصوارف.
  • من المهم لكل إنسان له عمل يظهر للعلن، ومنهم الكتّاب والكاتبات السعي لامتلاك فضيلة التوازن في كلّ شيء قدر المستطاع، وهذا التوازن لا يعني أن نكون في منطقة رمادية أو متوسطة أو حيادية دومًا، وإنما المراد البعد عن النزق والتوتر والعجلة. ومن تطبيقات ذلك أنه قد تأتيك آراء متباينة تعليقًا على عملك الكتابي؛ منها ما يضعك فوق النجوم، وفيها ما يهوي بك إلى قعر من الأرض سحيق؛ فلا تصدق الأولى كما هي وإن حفزتك وأطربتك، ولا تكترث للأخرى مع الانتفاع بما فيها من وجيه النقد إن وجد.
  • تمر الكتابة بمراحل تشابه عمر الإنسان بما فيه من طفولة عذبة، وصبا منطلق، وشباب متوقد، وفتوة ذات قوة، ورشد بنظرة ثاقبة، واكتهال مع رؤية شاملة، وشيخوخة لها خبرة عميقة، وربما يدركها خرف أو اختلاط لا يسلمان من التخبط والمتاهات، ولكل مرحلة خصائص وواجبات؛ فعش مراحلك الكتابية واستمتع بتدرجها، فالتغيير سنة حياتية ثابتة، وعلامة على النضج في كثير من الأحيان.

عقب ذلك سأنطلق معكم للحديث مجيبًا عن الأسئلة التي وردتني من الفريق المعني بإقامة هذا اللقاء، وسأختصر حفاظًا على الوقت الممنوح لي، وكي تكون الفرصة أرحب للمستمعين بالنقاش والحوار؛ ذلك أن الأسئلة تنطلق من واقع الحاجة، وربما يكون قضاء الوقت معها أجدى.

بدايتي مع الكتابة:

فقد دخلت إلى عالم الكتابة مبكرًا، وأزعم أن دخولي إلى هذا العالم الآسر كان في المرحلة الابتدائية، حين كان الأساتذة يحرصون على مشاركاتي المكتوبة أو الملقاة في الإذاعة وأمام الزوار. وحدث ذات مرة أن طلبت إدارة المدرسة من التلاميذ أن يكتبوا حول موضوع ما، وظلّ الأستاذ يحوم حولي منتظرًا فراغي، وبعد أن سلمته ورقتي أخذ أوراق الآخرين دون أن يمهلهم. وفي الصف السادس صرح أستاذ مادة الإنشاء بأني الوحيد من بين قرابة أربعين طالبًا الذي يملك القدرة على الكتابة، وطلب من الزملاء التصفيق لي على ما كتبته، وشاركهم في ذلك.

استمر التشجيع في المرحلة المتوسطة، ثمّ شاركت في مسابقات محلية وفزت في بعضها بالمركز الأول. وكان مدرس مواد اللغة العربية يقضي أول الوقت في حصة الإنشاء مع دفتري، فيقرأ للطلاب بعض المقاطع من أوراقي بطريقة مسرحية، ولربما أنه ينادي بعض المعلمين ليطلعهم عليها، وأحيانًا يأخذ دفتري معه إلى غرفة المدرسين ليتداولوه فيما بينهم، وهو الذي حثني حثًا كبيرًا على المشاركة في المسابقات، وتابعها إلى النهاية. وعندما ألقي كلمة الفصل في الإذاعة المدرسية، يأتي إليّ أحد أقوى المدرسين شخصية فيقول أمام الآخرين: يصعب على فصلي منافسة كلمتك!

كما واصلت في المرحلة الثانوية الكتابة، وأذكر أن الزملاء اعترضوا على درجتي العالية في مادة التعبير مقابل درجاتهم المنخفضة، فقال لهم الأستاذ بالنص: هذا هو الوحيد الذي يعرف كيف يكتب! وفي تلك المدرسة وضع مديرها صندوقًا للمقترحات، وكنت أكتب فيه بين آونة وأخرى، وأظن أن شخصية الكاتب الذي رمز لنفسه باسمصديقغير معروفة؛ لأني أتحرز حين أضع الورقة في الصندوق. وقبيل التخرج كتبت كلمة وداعية، فلما صادفني المدير سلّم علي وقال: أجريت مدامعي! ثمّ أردف: حين تتابعت رسائلك جمعت أساتيذ العربية في المدرسة وسألتهم من هذا؟ فأجمعوا على أنه أنت! والمؤسف أني لم أحتفظ من تلك الرسائل بنسخ احتياطية.

أما في الجامعة فنشرت عددًا من المقالات في صحيفتها العامة، وفي الصحف الحائطية، وكتبت عدة كلمات للحفلات الختامية وألقيت بعضها. وعلمت فيما بعد نقلًا عن بعض المعارف أنهم كانوا يقرأون ما أكتبه في الصحيفة، ولكنهم حينها لم يخبروني بذلك؛ ربما خوفًا عليّ من الانقطاع والحياء إذا أحسنا الظن، أو ضنًا بالتشجيع والمؤازرة إذا شاركنا الشيطان بتفسير ذلك التصرف! وعمومًا هأنذا أكتب وأنشر، وسأترك الحديث عن بقية التجربة لموضع آخر؛ لأن ما ذكرته هو ما يتقاطع مع مرحلتكم العمرية المزهرة الواعدة.

ملهمات الكتابة:

للكتابة ملهمات كثيرة؛ بيد أن الملهم الأول الأهم هو نفسك، فإذا لم تكن مع إشراقة الصباح الجميل، أو في هدأة الليل الأنيس، تحدث نفسك النفيسة بأنك كاتب فلن يلهمك شيء آخر بمثل المقدار الذي تظفر به من روحك وقلبك ومشاعرك. ومن ملهمات الكتابة القراءة، وتخيّل الأثر، والاحتضان من قبل الأسرة والمحيط، والحمدلله أن حظيت بأسرة متماسكة ملتئمة، تحب الثقافة والمعلومة والقراءة، وتدور في مجالسها الخاصة الفوائد والأخبار التي تزيد من الحصيلة، وترفع الوعي، ولبعض جلاس الوالد رحمه الله ورحمهم أثر طيب عليّ سواء من أهل المملكة أو من غيرهم، وفيهم علماء وأدباء ومثقفون، وما أكثر بركة المجالس العامرة بروادها ومضامينها، وما أشنع التفريط بحضورها والظفر ببعض من وما فيها.

من يختار من؟:

من المحاور الجميلة التي وردتني السؤال عن الكتابة: أيختارها الكاتب أم هي التي تختاره؟ والجواب أن الأمرين صحيح، فمن حيث المبدأ الكتابة فعل يختاره المرء، ويمضي فيه، ويصنع لخدمته أشياء كثيرة، ولربما أنه يقدم ويؤخر لأجل هذا الشأن الذي رأى أن يدلف إليه ويكون من أربابه وربما من أساطينه ورموزه. ومع ذلك فلربما ألحت الكتابة على صاحبها حتى يكتب، ويأتي ذلك الإلحاح من تأثير فكرة، أو نتيجة لقراءة، أو بسبب انفعال موقف أو صورة، أو تجاوبًا مع إصرار آخرين، والشيء المفصلي هو أن يستجيب كاتبنا وكاتبتنا لوخزة الكتابة حين تصيبه وتلامسه؛ فهي وخزة لذيذة، وهي وخزة لا تؤلم بل تنتزع الألم، وإنها لوخزة لها قيمة وقداسة عند من وجد طعمها.

طقوس الكتابة:

لا يوجد للكتابة طقوس ضرورية، وعادات لا مفر منها، ولكن قد يبتلى بعض الناس بشيء من ذلك، والأفضل أن يتخلص الكاتب والكاتبة منها؛ لأنها تأسره في إطارها، وقد لا تتوافر له في كل مرة، ووقوع الإنسان بين أغلال عادة أو طبع يُعدّ من الضعف الموجب للمقاومة طلبًا للحرية. وإن لم يستطع فليغتنم هذه الطقوس، ويجعلها من وقود الكتابة وأكبر حاثٍ عليها من باب الاستجابة الطبيعية، وحينها عليه أن يكثر من شرب القهوة مثلًا، أو يستمتع بالمشي والسباحة والبستنة، أو غير ذلك مما يقوده إلى منطقة الكتابة. وبعض الطقوس يحيط بالمرء رغمًا عنه؛ مثل من لا يكتب وهو مغضب، أو جائع، أو في مكان مزعج، وهكذا، والمطلوب حسن إدارة الطقوس إن وجدت، والسعي الرشيد لتهذيبها، والتفوق عليها، دون الدخول في معركة صفرية استئصالية معها.

إغراء الكتابة:

إن عالم الكتابة في الوقت الحالي عالم يزداد إغراء وجاذبية وإقبالًا، وأدل شيء على ذلك كثرة المؤلفات حوله، وتزاحم الراغبين في حضور برامج التدريب على الكتابة التي تجد رواجًا وسوقًا. وربما أن سهولة الكتابة عبر وسائل التواصل، وتطبيقات التراسل الفوري، مما زاد في ولع الناس بالكتابة، وعجل في فشو القلم. ومع ذلك فيقتضي التنبيه إلى أنه عالم يزداد خطرًا، وربما يغدو ورطة؛ فكلمة تصدر عنك ستبلغ الآفاق وإنك لمسؤول عنها في الدنيا والآخرة، هذا غير اختلاف الأفهام، والسبق إلى المعاني المحرجة، والوقوع في شَرَك السياق الزماني والمكاني والحالي، ومن عرف مصائر الكتّاب فلن يستكثر هذه الالتفاتة للتنبيه والتحذير.

الكتابة والثراء:

تحقق الكتابة دخلًا ماديًا من خلال الكتابة المباشرة، والتأليف المتنوع، والتحرير، وصناعة المحتوى، والتقييم، والتدريب على الكتابة. ولها فوائد أخرى؛ فمثلًا هي طريق للشهرة، وللمناصب والتاريخ القديم والمعاصر يشهد على كثرة الوزراء الكتّاب، وبعض المناصب المهمة تحتاج إلى كاتب مثقف لقن قادر على الحديث وإيصال الرسائل. ومما يستشهد به في هذا المقام أن عددًا غير قليل من أعضاء مجلس الوزراء عبر تاريخه كانوا من مشاهير الكتّاب، وأنّ جلّ أعضاء مجلس الشورى في دورته الأولى عام (1414) كانوا من أهل الكتابة أو القريبين منها. ومثل هذه الإضاءة تفتح الشهية باتجاه دنيا الكتابة؛ لكن ليس هذا هو الهدف الأساسي، ففي الكتابة رسالة، وشفاء، وخلود، وتأثير، وإصلاح للنفس قبل إصلاح الآخرين، وهي سبب لزيادة العلم، وارتفاع الحصيلة المعرفية، وتنامي الثروة اللغوية، وطريقة لرهافة الحس، وسلامة الشعور، ورفاهية الروح.

هل تكفي الموهبة وحدها للكتابة؟

يرد سؤال بكثرة وفحواه: هل الموهبة وحدها تكفي للكتابة أم يجب التعلم، و هل يحتمِل أن يصبح متعلم الكتابة كاتبًا عظيمًا حتى وإن افتقر للموهبة؟ وللجواب أقول: الموهبة تفيد المتعلّم وتصقله وتجعله أكثر بروزًا وإبداعًا، وتتيح له سبق غيره، والتقدم المستمر، لكنها ليست شرطًا لازمًا، والاتكاء عليها يفقد الكاتب حلاوة العلم، ومزايا التجديد. كما أن فقدانها لا يجعل من الكتابة أملًا محالًا، إذ يمكن أن تكون مكتسبة بالتعلم والمران، وإلّا لماذا اجتمعنا، وتحادثنا، وقرأنا، وتدربنا، وغير ذلك؟ وكم من كاتب لم تبدُ عليه في صغره وشبابه الموهبة، بيد أنه بزّ الآخرين بعد زمن من المران والتجريب يطول أو يقصر، والنوابغ في تاريخنا الأدبي مثال به يستشهد.

وصايا:

أخيرًا من الوصايا التي يحسن تقديمها إلى جمهرة الصاعدين إلى عتبة الكتابة، أن يديموا القراءة دون أن يستأسروا لها، أو أن تكون المصدر الوحيد لهم، فالتفكير والملاحظة والسماع والمشاهدة مصادر تثري الكاتب. ومن التوصية صرف الوقت الكافي لاكتساب اللغة عبر مفردات وتراكيب وشواهد فهي ميدانك وسلاحك. ومن جليل الحكمة أن يعي الكاتب بم يهتم وماذا يهمل، ومن فتح له باب فليلزم. وبعد ذلك يا رعاك الله لا تستعجل، ولا تتراجع، ولا تتقمص لمدة طويلة شخصية غيرك في الأسلوب والفكرة، واحرص على الاستزادة من مواردك الكتابية حتى تبدع أكثر، وكي تكون في حال دائم من التجدد والحضور الإيجابي البعيد كل البعد عن التكلف والاعتساف، ولتعلم أخيرًا أن كثيرًا من عمليات الكتابة لا تعدو في حقيقتها كونها أكثر من إعادة الكتابة، وإعادة الإنتاج مع براعة المعالجة!

الرياض

 ahmalassaf@

الاثنين 06 من شهرِ ذي القعدة الحرام عام 1443

06 من شهر يونيو عام 2022م

Please follow and like us:

4 Comments

  1. السلام عليكم ، جميل المقال وأجد حافزاً للكتابة عن تجربتي المختلفة فقد خرجت من الثانوية وخمس سنوات جامعية ولم تظهر عندي أي موهبةبل لم أكن أتجاوز خمسة من عشرة في الثانوية ولكني اقتحمت عالم الكتابة حتى أصبحت كاتباً ويكفي أن تطلب منّي الكتابة في موضوع وفي خلال دقائق أكون قد دبّجت المقالة وصار باسمي عدد من الكتب وبعضها أصبحت مرجعاً في فنها والحمد لله ، فلك الشكر على إثارة هذا الموضوع الشيق مازن المطبقاني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)