علي بن عبدالله جابر: صوت لا ينسى!
تخيّل هذا الموقف؛ ففي ليلة الثالث والعشرين من شهر رمضان عام (1401)، وهي ليلة عشرية وترية تتحرى في مثيلاتها ليلة القدر، والجموع مزدحمة في المسجد الحرام بمكة أشرف بقعة على الأرض قاطبة ما بين طواف وصلاة خلف أئمة معروفين بأصواتهم وطريقتهم في التلاوة، وكيفية قسمة الصلوات بينهم. ثمّ عندما يفرغ الإمام المعتاد من نصيبه في صلاة التراويح، يتقدم إلى المحراب إمام جديد لا يكاد أحد أن يعرفه، فيصلي بصوت غير مسموع فيما مضى، وبطريقة لم تُعهد، ويقف بثبات خلف الكعبة والطائفين، وأمام خلق لا يُحصى عديدهم؛ ومن حينها يعلق صوته بالآذان والقلوب والعقول والأرواح، ولا يزال ذلكم الصوت الفريد ينال إلى يومنا حكمًا يشبه الجزم، وخلاصته أنه لم يأت صوت آخر يقصيه أو ينسيه، وفي كلّ خير وفضل، والأجر من الله.
هذا ما حدث بالضبط مع الشيخ الفقيه الحافظ الدكتورعلي بن عبدالله بن صالح بن عبدالله بن ناصر بن جابر بن علي جابر السعيدي الموسطي اليافعي الحميري القحطاني (1373- 1426)، الذي استدعي من القصر الملكي بالطائف بناء على أمر الملك خالد إلى القصر المكي الملكي دون أن يعلم الغاية لمجيئه، وبعد تناول الفطور الرمضاني مع الملك وأضيافه ومنهم الرئيس الباكستاني الشهير ضياء الحق الذي احتفى بالشيخ الشاب الحافظ، صدر أمر ملكي شفهي غير مسبوق–حسب علمي–، ونزل استجابة له وطاعة، الشيخ من القصر إلى المحراب؛ ليصبح إمامًا في لحظة مدهشة من عظيم تقدير ربنا وتدبيره وتوفيقه للملك والشيخ –فيما أحسب-.
وقد صلى الشيخ بالناس دون ارتجاف يقتضيه الموقف المهيب، والمكان المقدس، وفجاءة القرار، وبلا تحضير سابق أو مراجعة للحفظ، وإنه لمشهد يحبس الأنفاس، ولا يكاد ينجو أحد من رهبته ولوازمه. وعقب أن صدح بالتلاوة وانتهت الصلاة وانقطعت الإمامة، تقاطرت إليه الجموع لتسأل من هذا؟ أو لعلها أن ترى فقط وتكتفي بالنظر، حتى أحاط به رجال الأمن من كثرة المزدحمين الذين قال لهم إمام الحرم الشيخ عبدالله خياط: هو آدمي مثلكم. وبهذه الحظوة واللهفة، وبسعي سروات الناس ووجهائهم، غدا الشيخ إمامًا للحرم بأمر مباشر من الملك خالد رحم الله الجميع.
ففتح الشيخ الشاب الباب واسعًا لجميع الأئمة الشباب الذين أتوا بعده وتوافدوا على الحرم المكي والمدني ومحراب الكعبة والروضة إلى أيامنا، فللشيخ قراءة تجديدية خالية من التقليد، مع حفظ وإتقان، وبالتالي أصبح حجة للبحث عن مزيد من الأئمة الشباب ومنحهم الثقة والفرصة، وهو ماكان على كثرة الأسماء دون أن ينسى أحد صوت الشيخ علي جابر أو طريقته. ولم يقتصر الشيخ على إمامة تراويح رمضان وقيامه الذي يتسامى فيه بالتلاوة الروحانية الأخاذة، بل صلى فروضًا وفيها فجريات محفوظة، وخطب في كسوف أو خسوف وربما سواها، ولولا ما أصابه من عوارض صحية وغيرها لطال مقامه في الإمامة، والله يعوضنا بالموجودين ومن بعدهم، ومن أراد أن تعيش روحه تجربة الصلاة خلف الشيخ علي؛ فليطالع ما أجاد في وصفه والتعبير عنه الكاتب منصور النقيدان، وسوف يقرأ المرء تلك المقالة بوجدانه قبل عيونه.
وإذا أردنا ان نستجمع بعجالة ما أحاط بالشيخ من خصائص، فسوف نجد أنه ينتمي إلى منطقة حضرموت وقبيلة يافع، ولهما شهرة برقة القلب، وقوة الديانة، ونقاء المعتقد. ثمّ رزق بأبوين صالحين إذ حرص الأب على تعليم بنيه وجعلهم في مدينة الرسول العظم صلى الله عليه وسلم فهي خير لهم وللناس جميعًا لقربها من العلم والحفظ، ومع أن الأب توفي ونجله طفل دون البلوغ إلّا أن والدته الأصيلة واصلت أداء المهمة فكانت نعم الأم ونعم الزوجة.
كما ارتبط الشيخ منذ صغره بحلقات حفظ وإقراء، ومدارس ودروس لأشياخ أجلاء، وصلى بالناس في يفاعته إمامًا لأحد مساجد المدينة النبوية، وأكمل دراسته الجامعية لتحقيق رغبة والده في أولاده، وبعد زمن لم تقطعه إمامة الحرم والمرض عن إتمام مشواره العلمي سواء بالنهل من المشايخ مباشرة، أو بالحصول على درجتي الماجستير والدكتوراة في فقه ابن عمر والقاسم بن محمد رضي الله عنهما، مع ممارسة التدريس في الكليات والجامعات.
ويبدو أن الشيخ قد شغف بالتعليم ولذا رفض القضاء وبقي بلا وظيفة عامًا كاملًا حتى تدخل الملك خالد لصالحه بناء على طلبه. واستلذ شيخنا بالعيش مع القرآن المجيد، فهو خلال رمضان متفرغ للقرآن فلا عجب من قوة حفظه، وجميل استحضاره لمعاني الآيات وتدبرها، حتى أن قراءته تكاد أن تكون تفسيرًا، أو تصويرًا للمراد، وبعضها يهبط على الأفئدة بردًا وسلامًا، وروحًا وطمأنينة وسكينة، ومنها ما يزلزل قلوب المنافقين حتى لكأنه صواعق مرسلة، أو قوارع قاصمة، وتلك من عظمة القرآن وكماله أنه للمؤمن شفاء وبركة ونور، وللكافر والمنافق وعيد وتحذير وتهديد.
كما أن له طريقة متميزة في القراءة والأداء، فمستوى السرعة، ورفع الصوت أو خفضه، وحدته أو ليونته، تختلف مما يعين المأموم على المتابعة والتدبر. ومنها أن الشيخ ينطلق في الركعة الثانية بنفس الحماسة التي ختم بها قراءة الركعة الأولى دون أن يتأثر المقام أو الطبقة، وتلك منقبة في الإمامة تجعل المصلين في حضور ينفي الشرود، وفي متابعة يتمنى الواحد معها ألّا يركع الإمام أو يصمت. ومن نهجه أنه إذا نسي أو أخطأ –على ندرة ذلك– يرجع عدة آيات إلى الوراء كي يكمل قراءة ما تعثر فيه بما لا يخلّ بالمعنى، ويستولي على مشاعر السامع دون أن يربكه الانقطاع أو التلعثم.
ومن بصيرة الشيخ المبكرة وثاقب رأيه المتجاوز للسائد أنه حين سافر إلى كندا من أجل الاستشفاء سجل تلاوة صوتية كاملة للقرآن الكريم، وأهديت لجامعة الملك سعود ولإذاعة القرآن وهي التي تذاع حاليًا. وبادر لاحقًا لتسجيل حلقات تلاوة متلفزة استخدمها التلفزيون السعودي في برامجه وفي ابتداء البث وإنهائه. ومن التوفيق لبني الشيخ ومحبيه أن له موقعًا فيه سيرته وتلاواته وما قيل عنه في حلقات إذاعية وتلفزيونية، ولمقاطعه القصيرة بالحرم حضور لافت لا يتراجع في وسائل التواصل الاجتماعي بنشاط مستخدميه، أو من خلال حسابات تُعنى بإرث الشيخ، وأعظم بالقرآن العزيز من إرث وعمل صالح باق لصاحبه.
وللشيخ مواقف في الإمامة بمكة؛ منها طريقة تعيينه، وانتقاله من إمامة مسجد صغير بالمدينة، إلى الصلاة إمامًا بالملك في قصره، ثم تقدّم المصلين في الحرم المكي وخلفه الجموع والكاميرات تسجل وترصد، والكعبة أمامه بمن حولها من الطائفين والمعتمرين. ومنها أن طريقة تكليفه للإمامة كل سنة خلال السنوات الثمان (1401-1409) تختلف من سنة لأخرى في الطريقة والباعث عليها، ولبعضها ارتباط بطلب من كبار الأمراء الذين افتقدوه في الصلاة، أو تلبية لرغبة بعض شيوخ الخليج الذين انبهروا بصوته، وسعوا لاستقطابه إلى ديارهم في رمضان دون أن يجدوا منه قبولًا. ولربما أن رمضان يبدأ فلا يصلي الشيخ من أول ليلة، ويتأخر تكليفه عدة ليال لسبب أو آخر، وحين يشارك يأخذ بمجامع القلوب، ويسيطر على المسامع والمشاعر.
أما ما حصل للشيخ من طرائف وموافقات فمنها أن بعض المصلين ينتظر حتى يأتي دور الشيخ علي في إمامة التراويح ليصلي معه، ولربما علّق بعضهم قائلًا بلهجة عامية: أتى حبيبنا، جاء السكرة، ينصر دينك! ويروى أن حركة إغلاق المتاجر حول الحرم تزداد إذا صلى بالناس إمامًا. ومنها أن الشيخ أمّ الناس بالحرم المكي ليلة الثالث والعشرين من رمضان عام (1401)، وفي نفس اليوم عام (1407) حصل على الدكتوراه من المعهد العالي للقضاء بالرياض، ورجع لمكة بعد نهاية المناقشة بلا انتظار، وصلى بالناس إمامًا دون أن يعتذر بتعب السفر، وإنهاك المناقشة، وبعض الناس لو لسعته نملة لاحتجب أيامًا، ويروى أن الملك فهد مازحه بسؤاله: هل نناديك بوصف الشيخ أم الدكتور؟
هذه قصة مختصرة عن شاب تعلّق قلبه بالمساجد والقرآن، وجعل بر والديه نصب عينيه وهم أحياء وعقب مماتهم، ولم يجد في نفسه إقبالًا لأيّ محراب عقب الحرم المكي. ولم ينقطع عن التعليم والإفادة عبر المحاضرات ومع الطلاب وبنيه، وحفظت عنه وصيته الدائمة بالالتصاق مع القرآن في كلّ شيء فثمت المغنم والنجاة والنصر. وقد توفي في جدة، وصلي عليه بالحرم المكي، وفي مكة كان مدفنه ومثواه البرزخي، ومنها رسخت ذكراه الخالدة، وظلّت تلاوته محببة مقلّدة دون أن تطغى عليها أي تلاوة أخرى، وأصبح جمهوره يتزايد وهو تحت أطباق الثرى، ولعلّ هذا الجمهور الكثيف أن يختلف عن سابقه بأن إعجابهم بالشيخ، وحرصهم على قراءته، لا يكاد أن يُنغص على أحد، أو يجلب لصاحب الصوت الذي لا يُجارى ولا حتى يُبارى مزيدًا من الحسد، ومزيدًا من التربص والكيد، ولعلّ الدعوات أن تصله في مرقده، وأن تبلغه الأجور والنور من الكتاب العزيز الذي حفظه، وأجاد في تلاوته بعذوبة لا مثيل لها؛ ولأجل هذا فصوته الصادح لا يُنسى!
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف–الرياض
ليلة الجمعة 26 من شهرِ شوال عام 1443
27 من شهر مايو عام 2022م
9 Comments
رحمه الان
وغفر له صدقت
كان علامة فارقة في أدائه وإمامته
فسبحان الله الذي اصطفاه لهذا
رحمه الله….
مبهر بحفظه وأدائه…
لين الله الكتاب وأورثه ،
ومنحه صوتاً فريداً لم يدركه أحد ممن قلده
رفع الله مقامكم ياشيخ أحمد ترجمة لطيفة جميلة بها من الذكريات الجميلة للرعيل الأول
رحمهم الله كانوا جبالا شامخة .
أرسلتها لمجموعة أصدقاء فجاء هذا التعليق من واحد منهم:
سيرة موجزه عن رحلة هذا الإمام الشيخ علي جابر رحمة الله عليه مع كتاب الله صاحب اعذب واجمل صوت صدح في المسجد الحرام ومع التلاوة وبيت الله الحرام ومع ملك أحبه واحب صوته رحمة الله عليه واحسن صنعا هذا الكاتب الفاضل العساف في تدوين وحفظ هذه السيرة العطره المقتضبة عن هذا الإمام وغيره من أئمة المسجد الحرام وجعل كل كلمة طيبة كتبها عن هؤلاء الأعلام في ميزان حسناته
كما أحسنتم أنتم أخي العزيز فضيلة الدكتور عبدالرحمن في إرسال هذا المحتوى المميز بارك الله فيكم وفي إهتمامكم وجعلها في موازين حسناتكم
في ظني لم يأت أحد مثله ولن يأتي
ألذ ما قرأت عن قارئ
https://www.alriyadh.com/454263
رفع الله مقاكم يا شيخ احمد بكتابة هذا المقال عن الشيخ الفقيه الحافظ الدكتور علي بن عبدالله جابر . رحمه الله واسكنه فسيح جناته .ولو اني لم احظى بسماع صوته اماما للمصلين . بالحرم المكي .ومن نعم الله وفضله .فقد من الله العلي القدير علي في غربتي ووحدتي انني من المتبعين لنصيحته الدائمة التعلق بالقران في كل شئ فثمت المغنم والنجاة والنصر . والشفاء من كل داء
رحمه الله وغفر له، وجعل ما قدم في موازين حسانته
رحم الله الشيخ علي جابر وغفر له . أجزل مثوبتكم عن ما كتبت عن الشيخ .
لكن لي ملاحظة : وهو أن الشيخ ذهب لكندا لدراسة اللغة الانجليزية وليس للإستشفاء . وشكرا لكم.