مواسم ومجتمع

رمضان: الفرصة المواتية

رمضان: الفرصة المواتية

يمثل شهر رمضان المبارك فرصة سانحة مواتية بما تعنيه الكلمة، فهو يأتي في موعده المعلوم دون تأخير، ومهما كان تعامل الناس معه فيما مضى. وتزداد بركاته كلما تقدم ولا تنقص، والأعمال فيه عظيمة القدر مضاعفة الأجر، ومواطن إجابة الدعاء في رمضان محددة مؤكدة، وفيه ليلة واحدة لا تزيد عن ساعات معدودة هي خير في عملها ودعائها واستغفارها ومناجاتها من ألف شهر تامة. وفوق ذلك فإن صيامه هو العبادة الوحيدة التي نسبها الله سبحانه لنفسه، وأعدَّ للصائمين بابًا خاصًا من أبواب الجنة الثمانية، جعلنا الله ووالدينا وإياكم ممن يدخل منها أو من أحدها.

فإذا حلّ شهر رمضان في موسمه الثابت المعتاد هش له الناس وسعدوا بهم على ما كانوا عليه من العمل والتقوى أو حتى التقصير والتفريط إلّا ما يكون من الشيطان والمردة وجنودهم الذين يخنسون فيه، ويظهرون غيظهم منه بصريح العبارة أو فلتات الألسن؛ فيضاعفون شرورهم قبله وبعده كي يطمسوا آثاره الحسنة التي تنغرس في القلوب عامًا إثر عام، والفضل لله والمنة، وهذه فرصة لرفع الوعي كي يكتشف الناس في رمضان من هم أعداء الدين والفطرة والفضيلة، ومن هم أهل النصيحة المبرورة لخير الدنيا والآخرة.

ومع أن شهر رمضان فرصة عظمى لكل مسلم، إلّا أنه يكاد أن يكون فرصة ذات خصوصية إضافية لثلاثة أصناف من البشر، هم المذنب المكثر، والمفرط بالصالحات، والميت في قبره. وهؤلاء الأصناف الثلاثة مع غيرهم لم يسلموا من حسد المفسدين وحنقهم بالصالحات؛ ولذا فأي محاولة لصرف الناس عن اقتناص هذه الفرصة من قبل أهل الفساد هو جريمة مضاعفة بحق أكثر الناس حاجة للموسم من الأحياء والأموات على حدٍّ سواء.

أما الأموات فما أعظم فرحتهم بهذا الشهر حين ترتج المحاريب وتلهج المنابر وتتواطأ القلوب مع الألسن على الدعاء لهم بالرحمة والمغفرة، وهو دعاء مستمر بيد أنه في رمضان يكون أكثر، إذ تستدعى ذكريات الراحلين بشدّة، والنفوس نحو خالقها أقرب، والإجابة ساعتئذ أحرى. ومن هذا الباب أيضًا أن تكثر الصدقات وصنائع البر من الأبناء والبنات والأحفاد والأزواج وصالح الجيران والأصدقاء والزملاء لمن سبق من ذويهم ومعارفهم إلى عالم الأموات، ومرحلة البرزخ، فاللهم اغفر لهم وارحمهم وتجاوز عنهم، وسخر لنا ولأمواتنا من يزيد الحسنات، ويرفع الدرجات، ويديم الاستغفار حتى يعجب الآباء والأمهات يوم القيامة من مقدار الحسنات في صحفهم؛ ثم يكتشفون أنها من اجتهاد ولدهم الصالح لهم، ويالها من زكاة للابن والبنت بالصلاح والبر.

ثمّ يوقظ شهر رمضان العبد المقصر في الطاعات كي يستزيد منها ويغتنم إقبال النفس ومطاوعتها، وهو ميدان فسيح للاستدراك والتصحيح وإكمال النقص وسدّ الخلل، بل فيه أحسن فرصة للانطلاق نحو أعمال مستدامة وإن كانت قليلة مثل ختمة شهرية للقرآن الكريم، وقراءة دورية في الحديث والسيرة، وصيام بعض الأيام، وقيام الليل ولو بركعة، والصدقة وإن بشق تمرة، والمحافظة على أوراد طرفي الليل والنهار، وغيرها من أبواب الحسنات والطاعات القلبية والبدنية والمالية والذهنية والخلقية والمجتمعية.

كما أن رمضان يعلن بوضوح تام لأهل الذنوب والمعاصي كبيرها وصغيرها -ولا يخلو إنسان من إثم وخطأ- أن الباب مشرع، والدرب سالك، والطريقة واضحة يسيرة، لمن شاء الإقلاع والرجوع مهما تعاظم ذنبه، فالله جلّ في علاه تواب رؤوف يحب العبد التائب المقلع عن المعصية ولو كانت شركًا أكبر، أو جرمًا قبيحًا مثل الربا، أو ذنبًا كبيرًا مثل شرب الخمور و اجتراح الموبقات أو تسهيلها وتزيينها والدعوة إليها، ومناكفة من ينكرها.

ولأجل ذلك روي عن النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم وهو الرؤوف الرحيم بالمؤمنين في الحديث الصحيح أنه “صعِد النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المنبرَ، فقال: آمين، آمين، آمين، فلمَّا نزل سُئل عن ذلك، فقال: أتاني جبريلُ، فقال: رغِم أنفُ امرئٍ أدرك رمضانَ فلم يُغفرْ له، قُلْ: آمين، فقلتُ: آمين، ورغِم أنفُ امرئٍ ذُكِرتَ عنده فلم يُصلِّ عليك، قُلْ: آمين، فقلتُ: آمين، ورغِم أنفُ رجلٍ أدرك والدَيْه أو أحدَهما فلم يُغفرْ له، قُلْ: آمين، فقلتُ: آمين”.

إن شهر رمضان الطيب لفرصة قابلة للظفر بخيراتها والفوز بحسناتها واستبقاء مآثرها في النفس والأسرة والمجتمع؛ فاللهم اجعلنا ممن يدرك رمضان فيغفر له، وممن يكثر الصلاة والسلام على النبي محمد وعلى آله وصحبه في كل وقت خاصة يوم الجمعة وليلته، وممن أدرك أبويه فكان بارًا بهما في حياتهما، وبارًا بهما بعد رحيلهما، ومستديمًا البر لهما في ذريته وأعماله كي يغدو ممن بر أبويه في محياهما ومحياه، وعقب مماتهما ومماته.

والأمر يسير على من توكل على الله القدير بعزم وصدق ومضاء، ثمّ استعاذ من الشياطين المرجفين إنسهم وجنهم، ولم يلتفت لإفكهم وزورهم، أو ينخدع ببهتانهم، فحقيقة الحياة الكبرى تتضح عند لحظات فراقها، وهي من أصدق لحظات الحياة، والسعيد الموفق الحكيم من جعل تلك النهاية القادمة بين ناظريه؛ ليصبح في دنياه العبد المسلم المؤمن المحسن، الذي لا ينس نصيبه من الدنيا مع ابتغاء ما عند الله وتذكر الرجوع الحتمي إليه؛ حتى يأمن العبد في مثواه المنفرد فيه، وعندما يقوم وحيدًا مع الناس لرب العالمين.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

 ahmalassaf@

الثلاثاء 18 من شهرِ رمضان المبارك عام 1443

19 من شهر إبريل عام 2022م

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)