الموت والكتابة!
هل بين الموت والكتابة علاقة؟ أظنّ أن نعم، وهو ظنّ يقترب من اليقين؛ فالعلاقة بينهما أصيلة كما هي العلاقة بين الحياة والكتابة؛ ولهذا الأمر موضع آخر من البيان، خاصة أن لديّ مسودة مقالات عن علاقة الكتابة بأشياء كثيرة، والله ييسر كتابتها ونشرها تباعًا خدمة للكتابة والكتّاب خاصة من أجيالنا المباركة الآتية بقوة، والسائرة بعزم وإصرار وأناة ومنهج في سبل القراءة والتدوين والكتابة وصناعة المحتوى. وأزعم أنه ليس فيما نشر منها أو سينشر اعتساف أو التواء مجحف، ومن أمثلتها ما ظهر في عدة مقالات عن علاقة الكتابة مع الزكاة والصيام والحج والعيد، والبقية ستأتي بحول الله وعونه.
أما ترابط الموت مع الكتابة فيتضح في زوايا كثيرة؛ منها أن الكتابة عن الأموات من أخصب مجالات الكتابة وأصدقها وأشدها تأثيرًا؛ ولعلّ السبب يعود إلى ما أجاب به العربي مَنْ سأله عن سر تفوق شعر الرثاء على سائر أغراض الشعر حين قال: لأننا نكتبه وأكبادنا تحترق! وهي كتابة بريئة في الغالب من المطامع، وتنفذ إلى أعماق النفس لتستخرج منها فطرتها، وتذيب آلامها، وتنفث عن المصدور أحزانه، وتستخرج منه وجيع آهاته، وتعبّر عن شعور يخالج الكثير حول كأس سنذوق طعمه يومًا من الزمان ولا بدّ!
وفي الكتابة عن الأموات فضيلة التذكير بالدعاء لهم، واستحياء سيرتهم ومن أرخ لمؤمن فكأنما أحياه كما روي عن بعض أسلافنا. وفيها ترسيخ للمعاني الجميلة المستقرة لدى المجتمعات والأسر وبيئات العمل والتجارة والسياسة وصنوف الخير كافة، وعلى هذه السنّة المحمودة جرت كتب التراجم والطبقات والسير الغيرية. ويتبع هذه الأمر لفت النفس إلى حقيقة الموت الذي هو مصير كلّ حي؛ وما يحيط به من أسرار وعلامات ومشاعر، فاللهم اجعل نصيبنا منه على حال ترضيك عنا، وتحسّن مقدمنا عليك.
كما أن فعل الكتابة فيه استباق للموت، تمامًا مثل أيّ عمل يصنعه الإنسان، ويا لهناء من أصبحت كتابته في موازين حسناته الباقية النامية. ولربما أن كتابة الوصية والوقف مما يلتحم مع الموت بدرجة آكد وصورة أوضح، ومثله تدوين السيرة الذاتية سواء نشرها كاتبها أو أحال هذه المهمة لآخرين. وقد توسط أقوام فكتبوا قسمًا من سيرتهم وطبعوه، ثمّ جهزوا القسم الثاني وأودعوه أمانة لدى ورثتهم لنشره عقب وفاة صاحب السيرة، ومنهم من صرّح بذلك مكاتبة أو مشافهة.
وبالمقابل تكون الكتابة لأجل الخلود بعد فناء الأجساد وانقطاع الأثر فوق الأرض، فلو تأملت جمهرة الناس منذ بدأت الخليقة إلى يومنا، لوجدت أن أكثر الخالدين أصحاب أعمال مكتوبة، بينما انتهى ذكر معاصريهم تمامًا أو كاد حتى لو أنهم آنذاك من الزعماء والعظماء وأصحاب القدرة والجدة. ولهذا تعرف الحضارات أسماء أشخاص وأعمالهم لكنّها لا تكاد أن تعلم عن معاصريهم بالأسماء شيئًا ذا بال حتى لو كان هذا المعاصر زوجًا أو نجلًا أو جارًا أو صديقًا أو غير ذلك، وحقًا فنحن بالكتابة نواجه الغياب المحتوم بالموت.
كذلك يمكن الإشارة في هذا السياق إلى أن الإنسان مكون من جسد وروح، فإذا تفارقا مات المرء واندثر رسمه وربما اسمه وسيرته سواء توفي مبكرًا أو في منتصف العمر أو عقب طول مكث ولبث، وكذلك الكتابة فهي تقوم على لغة ذات روح، وعيشها مرتهن بحياة هذه الروح، فمتى انفصلت الروح عن اللغة المكتوبة أو المحكية فسيغدو الاضمحلال مصيرها المحتوم إن الآن أو بعد حين قد لا يطول، وبناء على هذه القاعدة فحقيق بجمهرة الكتّاب غرس بذور الحياة في أعمالهم؛ ومن ذلك محاولة جعلها مفيدة لأزمنة وأمكنة وبيئات وأحوال متباينة قدر الإمكان، وانتزاع اختصاصها الكامل بشيء يجعلها حصرية مؤقتة ضيقة النطاق.
ومما يحفظه التاريخ أن بعض النصوص كتبت ساعة الوفاة أو نزول الأجل، ومن أقدمها حسب المحفوظ قصيدة الممزق العبدي أو يزيد بن خذاق، ومن أكثرها ذيوعًا أنشودة الموت الخالدة لمالك بن الريب التميمي، ومثلها وصايا عدد من الراحلين العظام وهم على فراش المرض الأخير، وكتب الموسيقار النمساوي متسارت اللحن الجنائزي وهو يكابد غصص النزع، ويعاني من كرب الموت.
ولم يؤثر الموت على جودة بيان بعض الأدباء كما قال الجاحظ: ليس في الأرض أعجب من طرفة بن العبد وعبد يغوث؛ ذلك أننا إذا قسنا جودة أشعارهما وقت إحاطة الموت بهما لم تكن دون سائر أشعارهما في حال الأمن والرفاهية. ومن الروابط المرعبة أن الكتابة أضحت سببًا للموت كما في حال قدماء ومعاصرين مثل طرفة بن العبد، ولوركا، وغيرهم فمن الكتابة ما قتل، ولربما أن قتلى الكتابة والقلم من أكثر الأموات الذين تُساق قصصهم بنوع من الشجن والشحن وربما المزايدات خاصة أولئك الذين لا تُعرف للواحد منهم أرض ولا سماء.
أيضًا تكاد أن تشترك جلّ الأصناف الكتابية والمنتجات مع أغلب قصص الموت بأنها فردية في أسبابها وتفاعلاتها ونتائجها، وما جاء قبلها، أو رديفًا لها، أو لاحقًا عليها، ولذا فلها صبغة خاصة تمامًا بصاحبها لا يشترك أحد معه فيها كلها، وعليه فكما لا يصح أن يحيا إنسان بديلًا عن غيره؛ فلا يُقبل أن يكتب كاتب عملًا يظهر باسم آخر، فهذا شأن مفضوح مهما اجتهدت أطرافه في الاختفاء وتدبير الادعاء، علمًا أن الكتابة عمل يختلف عن التحرير المعروف والمعتمد في كثير من الثقافات والأعمال الفكرية والقانونية والأدبية.
ومن العلاقة بينهما أن موضوع الموت جذب كثيرًا من الكتّاب، وانشغل به بعضهم في خاصة حياتهم، وللكتّاب مع الانتحار واستعجال الممات حكايات كثيرة وبعضها لمشاهير كبار من ذوي الجوائز والمكانة؛ ولذا نظمت الجمعية الأمريكية للانتحار مؤتمرًا بعنوان “الرغبة في الموت: الانتحار والأدب” ناقش فيه بعض العلماء العلاقة الرابطة بين الانتحار والاكتئاب في حياة كتّاب مثل همنغواي وآني سيكستون و سيلفيا بلاث.
إن في الكتابة سلوة للمحزون، وسلوانًا للمكلوم، وعزاء من لوعة الفقد، وأنسًا من وحشة الموت، وعلاجًا من ألم الرحيل، وتضميدًا لجراحات الروح بعد فجيعة الفراق. وكنت فيما مضى أحكي هذه الأحاسيس بالرواية والقراءة والاعتقاد؛ بيد أني جربتها واقعًا، ورأيتها عيانًا، بعد أن غادرت والدتي -رحمة الله ورضوانه عليها- دنيانا في الأيام الفائتة القليلة. أقول هذا وإن كنت قد وجدت شيئًا من أثر الكتابة الحميد وبردها المؤنس المهدئ عندما كتبت عن والدي -رحمة الله ورضوانه عليه- فيما سبق مع أن الشعور التام لم يتحقق عندي مثل هذه المرة؛ لأن الكتابة عن أبي -عبدالمحسن- كانت عقب وفاته بعقود، وكتابتي عن أمي حصة تدافعت من نفسي بعد وقوفي أمام رأسها مقبّلًا ومسلّمًا ومودعًا وهي حينذاك مسجاة مغطاة لتبدأ في أول لحظات مرحلتها الجديدة.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الاثنين 10 من شهرِ رمضان المبارك عام 1443
11 من شهر إبريل عام 2022م
9 Comments
سبحان الله، أتت مقالتك هذه جوابا عن سؤال دار بيني وبين نفسي، وهو: كيف استطاع الكاتب أحمد الكتابه وهو في هاته الحال؟! فقد الأم ليس بالامر الهين، فكيف استطعت لملمة شتات أفكارك ثم مواصلة نشاطك على وسائل التواصل الاجتماعي؟
بارك الله في وقتك، وعلمك، وكل ما رزقك.
اللهم جد علي بما جدت به عاى عبدك أحمد العساف.
آمين آمين
رحمها الله وغفر لها وجمعها مع الوالد في جنان الخلد ورزقكم بشائر الرؤى ..
مقال صادق استشعرنا بكاء حروفه ولا يمتلك القارئ إلا أن يعانق تلك الحروف..
وبرأيي الكتابة تسمح للأرواح أن تلتقي
آمين
رحمة الله ورضوانه عليهما … وبارك الله في عقبهما
يارب
ثقيلةٌ أيام الفقد، مريرةٌ ساعات الوجع، لن تجد من يقاسمك دموع الفجيعة إلا أوراقك، ولن يسكُن قلبك ويهدأ حتى تبث حزنك بين أحضان كتاباتك،
نقاوم مجريات الحياة بالكتابة!
نقاوم كل الانفعالات بالكتابة!
نقاوم الحياة .. بالحياة وسط الكتابة..
كنت ذات يوم لا اؤمن بما تؤمن به بشأن الكتابة، وأن لها علاقة بتخفيف وطأة حزن الفقد، لكن بعدما سكن الحزن أعماق الذكريات، عرفت أن الصور لن تغادرنا، وأن كل زاوية من زوايا العقل تحتفظ بصورة لا يمكن أن تُبعث فيها الحياة مرة أخرى إلا بالكتابة والكتابة فقط، وأدركت أيضا، أن من يكون قادرا على الكتابة عن الموت بمشهد اختطاف الأرواح، هو قادرا بكل تأكيد عن التعبير عن ألمه بقلم يتنفس الآهات، إننا نكتب و على سيمفونية الحزن تتراقص أحرفنا ، نصف مشاعر الحزن والفقد والألم بعمق الفجيعة، المكلومين وحدهم ياسادة هم من يشعرون بحجم الفراغ القابع في طيات أنفسهم، الصلة التي تربطنا مع بعضنا أننا نشترك في الكتابة عن حزن الفقد الذي تنعقد عنده كل أبجديات العالم، وتنفك عنده كل العقد!
لا يمكن سوى لكاتب حقيقي أن يتنهد بين الورق، ويبث لواعج الحزن بين ضمّ الكلمات مواسياً لها او ربما هي من تواسيه!
أول الحزن أن تكتب سطر الفقد، وآخر الحزن أن لا تموت الكتابة!
وبين تلك المسافات تقع مقالتك يا سيدي بين (الموت والكتابة ) لتتجسد لنا ذكريات تنعتق من بين شقوق الجدران الحزينة!
كتاباتنا عن الموت، الفقد، تعانقنا بصدق.. تهدينا الارتياح .. لا أحد يفهم ذلك سوى من جعل الكتابة متنفس له، نتشارك انقطاع حبل الرجا في عودتهم مرة أخرى، ستمضي الحياة، و سوف يأخذنا الشتاء بين أحضان الرحيل، الشمس آيلة للغروب، والنجوم تأفل، وستسقط أوراق الخريف قبل اصفرارها، إلا أن ما كتبناه عنهم هو الوحيد الذي سيبقى! ستخلده صفحات الأيام وستقول لكل من قرأ السطور بأننا توجعنا لفقدهم وحروفنا وحدها تشهد لنا بذلك!
شكرا لكم… آمل أن نراك دوما في عالم الكتابة، هو عالم من المشاعر، ولحظاته تنافس شعور المرء ساعة الندى والعطاء.
رحم الله والديك واسكنهما جنات الفردوس وبارك الله في ذريتهما. اولادا واحفادا . وجعل ماتكتب لقرائك من فوائد في ميزان حسناتك وميزان حسناتهم . اللهم ارحم اموات المسلمين