أمسيات الأنس بالراحلين
أقال الله غربة كل نائي الديار بعيد عن الأهل والأحباب؛ فشعور الغربة مؤلم للغاية خاصة حينما تلجّ الذكري المرتبطة بزمان أو مكان أو إنسان أو حال أو مشهد، فاللهم ردّ كل غريب إلى مرابعه حتى يأمن ويهنأ ويسعَد ويُسعِد، فيلتئم الشمل، وتأنس البيوت، ويبتهج الأطفال، وينتهي الترمل المؤقت لنساء، والتيتم القسري لأبناء، ويكتمل عقد الإخوة وبني العم والجيرة والصحب، وما أجمل ساعة اللقيا في بسمة وليد، ودمعة أم، وانشراح قلب زوج، وسرور نفس أب؛ وارحمتاه لهم جميعًا.
أقول ذلك عقب الفراغ من قراءة كتاب كانت الغربة أحد دوافعه، والعامل المشترك بين عدد من السير الواردة فيه، عنوانه: الأنس بالراحلين: أمسيات مع السير الذاتية، تأليف: محمد عبدالعزيز الهجين، صدرت طبعته الأولى عن مدارات للأبحاث والنشر في (جمادى الآخرة 1443= يناير 2022م)، ويقع في (327) صفحة مكونة من المقدمة التي يتلوها (39) مقالة، ثمّ قائمة قراءة مقترحة والمراجع. وللمؤلف كتاب سابق عنوانه مودة الغرباء يحكي فيه تجربته مع قراءة السير الذاتية، وسبق لي كتابة مقالتين عنه.
قال أستاذنا في المقدمة: هذه أوراق من سيرتي القرائية، وحكايتي مع المذكرات، عشت مع هذه الشخصيات في غربتي، وفررت من الواقع شطر عالم الخيال. وفعل المؤلف ذلك كي يستفيد من التجارب ويقتبس منها جذوة فيها فكرة أو خبر، وليت أيّ قارئ كاتب أن ينحو في هذا الاتجاه لما فيه من اختصار وتعريف بالكتب، ومؤانسة مع إمتاع، والإحالة في النهاية على ملئ مسؤول عما فيه، وهي خطة سلكها مؤلفون كثر ولها جاذبيتها وطلابها.
يتحدث الكتاب عن شخصيات متنوعة في الزمان والمكان والاختصاص؛ ففيهم عرب وعجم، ومنهم قريب العهد وبعيده، وبينهم علماء ومفكرون، وساسة وعساكر، وناشرون وكتّاب وإعلاميون، وقد نخل الكاتب مؤلفاتهم خلال عامين عسى أن تكون مسلية ودافعة لمن يقرأ كي يشرع في متابعة هذا الفن الغني بمحتواه؛ ذلك أن أيّ حياة مهما كانت تافهة ستغدو ممتعة إذا رويت بصدق كما نقل المؤلف في بداية مقدمته.
ابتدأ الكتاب بالحديث عن ذكرى عهود للأديب الزيات التي أحياها بعد ممات وأدركها بعد فوات الأديب الكاتب د.عبدالرحمن قائد وحسنًا فعل، ومن الموافقات أني كنت أنوي عرض هذه السيرة بيد أن نسختي تاهت بين مجموع الكتب المتلاصقة حتى لكأنها أسرة اجتمعت بعد شتات عقود فلا تعرف فيها سابق من لاحق. ويُحسب للأستاذ الهجين الابتداء بالزيات ذلك أنه أديب عربي مسلم له تأثير وإمامة عصرية، وهو صاحب مجلة الرسالة التي قال عنها مصطفى أمين بعد جولة طويلة في البلاد العربية: ” لو أغلقت الحكومة المصرية عشر سفارات، وأبقت مجلة الرسالة؛ لكان خيرًا لها وللعرب!”
ومن مصر التي يحبها المؤلف النائي كما نحبها جميعًا بلا ملامة أتى الكتاب الثاني عن كل رجال الباشا للمؤرخ خالد فهمي الذي يروي فيه تاريخ الجيش من الأسفل حيث الجنود وليس القادة، تمامًا كما تكرر هذا النهج في المقالة التاسعة عشر مع كتاب بعنوان: الجندي السوري في ثلاثة حروب، وهو مقاتل عربي في صفوف الجيش الأمريكي منذ عام (1896م)، وفيها طرائف عن الفتيات وقبعته المحترقة من السجائر، وأمنيته بأن يكون بطنه في حجم بطن الحوت الذي ابتلع النبي يونس عليه السلام حينما شرعت حسناء في إطعامه وهي بجواره، وود لو لم يدركه الشبع طمعًا في إطالة أمد الجوار! وتكمل هذه المنظومة مقالة عن جيش فرنسا في مصر، وأخرى ممضة تروي واقعة بحارة مصريين اعتقلوا في عرض البحر عام (1941م) فلم تأبه بهم حكومتهم بله غيرها!
كذلك نقل عن الباشا كتاب آخر فيه مذكرات الأرمني نوبار القريب من الباشا ونجله إبراهيم، وفيه روايات عن انعدام الثقة بين الأب وابنه، وإطلالة على سمات الحكام وشؤونهم داخل قصورهم ونفوسهم، فإبراهيم يصف والده بالعجوز ذي الأنياب، ومحمد علي لا يستغرب حينما نُعي إليه ولده إبراهيم وهو شاب لأنه توقع عقوبة عاجلة من الله له جزاء حبسه لأبيه وقسوته معه. ومن أخبار الساسة وأهلها جلب لنا الأستاذ محمد شيئًا من سيرة زلماي خليل زاد، وهيلاري كلينتون، وجون كيري، ولورنس العرب، وإنه لمما ينغص علينا حال الهوان والشتات الذي وصلت إليه دول عربية وإسلامية. ومن العجيب أن القيادة السورية عبر حافظ ثمّ ابنه بشار يتكرر منهم تخويف الأمريكان باللحية! وهو ملمح واضح في عدد من السير السياسية في الكتاب التي يستعلن فيها الخوف من التدين الصحيح منه قبل الغالي.
ثمّ جاءت المقالة الرابعة عن ذكريات أرسكين كالدويل وتجربته الكتابية وما فيها من قلق الكتابة وهمومها إضافة إلى شغفه بحرفته الساحرة، ولطالما حثثت من يشارك معي في برامج تدريبية حول الكتابة على قراءة سير الكتّاب فالفائدة منها مضاعفة. ولأننا لا نستأسر للأجانب ففي الكتاب جولة مع الكاتب أنيس صايغ الذي سطر قصته لسبب طريف سيراه من يمتع ناظريه بهذا الكتاب أو بالسيرة التي كتبها مثقف مسكون بها حتى اشتهر بتحريض الآخرين على كتابة سيرهم. ومن أجلّ مقالات الكتاب التتلمذ على يد صلاح الدين المنجد مع أنه كتب صفحات يسيرة مليئة بالعبر والخبرات مثلما فعل المؤرخ جورج مقدسي الذي بهرنا بدراساته مع أن بيئته لم تكن ذات سياق علمي أو معرفي، وثالثهما حكايات المترجم والناقد الوفي ماهر شفيق.
أما العثور في الأرشيف والوثائق على كنوز دفينة فيتحدث عنها كتابان، أولهما ترتيبه الخامس عن قربان سعيد اليهودي الذي أسلم، وثانيهما عن تاجر السلاح زكي كرام وموقعه في المقالة رقم (18)، ولن أخوض في تفاصيلهما فمن المناسب أن يستمتع القارئ بكل لحظة مع ماورد في الكتاب عنهما؛ ولعله أن يقرر مثلي قراءتهما. وربما يكون للأول أهمية مضاعفة نظرًا لكثرة الحديث والتأليف عن الجغرافيا التوراتية، وسكنى اليهود في البلاد العربية، وهو مسلك محفوف بالمخاطر لما عُرف عن القوم من مخاتلة ومكر فضلًا عن شدة الحبل الممدود لهم من القوى العالمية عجل الله بقطع دابرهم.
وفي الكتاب أيضًا عرض لسيرة برتراند راسل أستاذ الرياضيات والفلسفة المعارض للحروب، وأحتوى الكتاب على نظرات في التسجيلات التي سرقها الأمريكان من قصور البعث في العراق ثمّ صدرت في كتاب محزن ألفه يوسف ساسون، وفيه كشف لدخائل الأحزاب ومكائد أفرادها وجاسوسية أفراد النظام على بعضهم حتى أن نائب صدام له ملف سميك من ثلاثمئة صفحة! وأخطاء ابن وزير الخارجية تُرصد ولا تفضح إلّا حين تدعو الحاجة لابتزاز أبيه! وبئست تلك الحياة الكئيبة التي يبدو للناظر إليها من الخارج أنها في قمة الأبهة والتمكين، وحقيقتها الخوف والخواء.
ومن الناشرين والمثقفين وقف المؤلف مع سيرة آخر الخوارج الصحفي والناشر رياض الريس المعتز بعروبته والمحب لبلده سورية عجل الله بأمنه وازدهاره، ويمكن إضافة سيرة الإعلامي حمدي قنديل لهذه المجموعة حين كتب عشت مرتين وروى فيها شيئًا من الدهاليز والأسرار، وثالثها لوليد سيف المتفنن في الكتابة الدرامية التاريخية، ورابعها عن حكاية دار العودة المقتصرة على الشعر والشعراء عبر سيرة منشئها محمد سعيد محمدية، وفيها كم من الفضائح الثقافية العجيبة، وخامسها سيرة نجيب المانع الفكرية المختصرة، والسادسة للإعلامي التونسي محمد كريشان عندما تحدث إلينا ونالت سيرته ثناء خاصًا من المؤلف، ومن هنا وهناك أبحر المؤلف بنا في سيرة رواية أولاد حارتنا وفيها نتف عن أخبار راويها.
ثمّ إن القارئ قد يعجب إذا سمع عن أمريكي لاجئ بيد أنها الحقيقة التي يجليها كتاب عنوانه ذبابة في الحساء، وإن حياة اللجوء لموات داخل الحياة أنجى الله منها إخواننا وبقية البشر. ولن يدرك قارئ الكتاب أيّ ملل وهو يتنقل مع حكايات الآغا خان التي تبين عن عصبيته لفرقته الإسماعيلية، وعناية الإنكليز به، وتهيئته الصارمة لنفسه روحيًا وعلميًا إضافة لعلاقاته المتشعبة ومشاعره التي لا يخفيها ومنه فرحه بخلع بعض نساء المسلمين لحجابهن في بعض البلاد. ويشارك الآغا في إبهار القارئ السيرة السياسية لحكيم الشرق جمال الدين الأفغاني، واللحظة الفريدة التي نزل فيها أسعد داغر إلى إسطنبول، وشيء من حكايات السياسي المصري الخطيب المثقف أحمد حسين.
كما جال بنا المؤلف مع سيرة المناضل والمفكر والأكاديمي الفلسطيني الكويتي شفيق الغبراء وهي تجربة مميزة لامتزاج السلاح فيها مع الفكر، ثمّ طوّف كاتبنا بقرائه حول التغريبة الإسطنبولية لكامل مروّة ورفاقه عام (1941م)، وذهبنا معه إلى القدس الشريف إبان ابتداء الاحتلال الإنجليزي الكريه لفلسطين. وسافرنا وإياه ضمن الفصول الأربعة لمعن زيادة، وأقلعنا من بيروت وهبطنا فيها مع الطبيب منير شماعة وحكاياته مع الدراسة والسياسة والفقراء والملوك وتجربته المخيفة في الاختطاف.
من المواضع التي سيتأملها القارئ كثيرًا حكايات الحاج أمين الحسيني مع ألمانيا وهتلر، وحرص الرايخ الثالث على تعبئة المسلمين وتجنيدهم معه ضد الدول المناوئة له خاصة تلك التي نكلت بالمسلمين، وتستثمر السياسة الألمانية مقولة أحد أفرادها بأن إيذاء مسلم تتري يغضب أخاه المسلم في القاهرة! وسيبقى الدين رهانًا رابحًا رفع الله وعينا وفهمنا وحذرنا. وهذا الفصل ملئ جدًا مثل الفصل الأخير المخصص لسيرة د.عبدالله عزام التي عكف عليها لمدة عقد من الزمان باحث نرويجي ذو عناية بالشأن الجهادي، ومثلهما استعراض كتاب ضخم عن آل بن لادن وإمبراطوريتهم التجارية.
أهذا كلّ شيء؟! طبعًا لا، وإنما هو شيء من أشياء تجدونها في هذا الكتاب المتنوع، وآمل أن يتيسر قريبًا في منافذ البيع لأنه عرض أول مرة في معرض القاهرة الفائت للكتاب، وهو من الكتب المؤنسة للغريب والمسافر والساهر، ولمن يبتغي اقتناص طرائف الحكمة لنفسه وعقله كي لا تمل من الجدية والصرامة، ولو أني نشطت قليلًا فربما نقلت بعض روائعه؛ وربما أدعها لك حتى لا أحرمك من طعم القراءة الطعيم.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف–الرياض
الأحد 19 من شهرِ رجب الحرام عام 1443
20 من شهر فبراير عام 2022م