من أسرار اللغة
قضيت عشر دقائق يومية لذيذة مع هذا الكتاب المثري حتى أنهيته، ذلك أن قراءة بعض الكتب قراءة متواصلة تعجل بفقد متعة المكوث معها، وهذه الطريقة المتأنية المتدرجة أفضل لبعض الكتب عندما يكون القارئ غير ذي اختصاص. أما عنوان الكتاب فهو: من أسرار اللغة في الكتاب والسنة معجم لغوي ثقافي، تأليف العلامة الدكتور محمود محمد الطناحي، الذي أصدرت المكتبة المكية ودار الفتح للدراسات والنشر الطبعة الأولى منه عام (1428=2008م)، ويقع في جزءين عدد صفحاتهما (809) للأول منهما (436).
يبدأ الكتاب بكلمة ذكرى ووفاء بقلم العلامة د.ناصر الدين الأسد وهي كلمة قصيرة ثمينة، ثمّ بين يدي الكتاب بقلم سليمان أحمد عليوات وهي كلمة متوسطة الطول غزيرة المحتوى، يعقبها سيرة في سطور للعلامة الدكتور محمود الطناحي بقلم إياد الغوج تقع في قريب من ثلاثين صفحة تختصر حياة عالمنا وأعماله، وبعدها نموذج من خط الطناحي الجميل، فمقتطفات عنوانها قالوا في الطناحي من إعداد وتحرير نجله محمد الطناحي، وفيها مقولات قصيرة عن والده من قبل أعلام في اللغة والأدب.
عقب ذلك يبدأ نص الكتاب ومقدمة المؤلف، ثمّ يتوالى سرد الكلمات مرتبة بداية من باب الألف وانتهاء عند باب الراء دون تمامه، وليت أن العلامة الطناحي أكمله أو أن يفعل غيره ذلك على منهجه وطريقته المستعذبة، والتكميل أسلوب متعارف عليه في كتب كثيرة. ويضم الكتاب (286) كلمة ابتداء من كلمة (أ ب د) حتى كلمة (ر ف ف)، وأكثر باب وردت فيه كلمات هو باب الحاء الذي يحوي (66) كلمة.
وأصل الكتاب مادة إذاعية قدمها الطناحي عبر أثير إذاعة القرآن الكريم السعودية، ومن خطة مادة هذا الكتاب ونهجه كما يقول الأستاذ عليوات اختيار غريب القرآن العظيم وما هو غريب في الحديث الشريف، ثمّ تقريبه وتوضيحه للمستمع والقارئ بسهولة في الشرح وجزالة في الأسلوب مع إثراء للنص حتى أن القارئ يتلذذ وكأنه لا يقرأ معجمًا لغويًا فقط، فمن عادة المعاجم الاكتفاء بالفن الذي تقصده، وهو ما تجاوزه الطناحي إمتاعًا للقارئ وتسلية ونفعًا بعد أن يحتفظ به معه على صفحات الكتاب.
والغريب من اللغة هو بخلاف الواضح المشتهر على الألسنة، وهو فن يعرفه العلامة الطناحي ويتقنه من خلال تحقيقه المشترك لكتاب النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير الواقع في خمسة أجزاء، وربما يكون لدى د.محمد الطناحي نسخة محدثة وشيكة الصدور منه؛ لأن والده عمل على أكثر الكتاب بمفرده وله فيه زيادات ومزيد تجلية، ويضاف لبصيرة الطناحي بهذا الفرع من العلم تحقيقه لجزء واحد من كتاب الغريبين لأبي عبيد الهروي، هذا غير إحاطة الرجل الكبيرة بالمكتبة العربية وعلومها؛ ولذا فالقارئ لهذا الكتاب يتحسس فعلًا نفس ابن فارس في معجم مقاييس اللغة، ويدرك سعة المنبع الذي يغترف منه المؤلف.
قبل أن أختم الحديث عن هذا الكتاب تاركًا للقارئ بهجة البحث عنه والغوص مع درره، أشير إلى ثلاثة أمور أولها ضرورة خدمة المعجم العربي، وهذه الخدمة واجبة على علماء اللغة وكلياتها ومجاميعها، ويمكن تلخيص بعض المقترحات في أمثلة عملية مثل تدريس طرق الإفادة من المعاجم، وبيان مناهجها وتقريب علومها، ونشر ذلك أجمعه كي لا تتهم معاجمنا بالصعوبة والاستغلاق. ومنها النهوض بمشروعات خدمة اللغة من خلال بحث تاريخ الكلمة، وتطور المعاني، مع رصد فوات المعاجم أو قصورها، والاستدراك عليها.
أما الأمر الثاني فهو الثناء على جهود أسرة الطناحي وطلابه ومحبيه حينما أخرجوا كنوزه، وسعوا لإعادة طباعة ما نشر منها، وهو ما قرأته أخيرًا في موقع الطناحي على تويتر من قرب صدور نسخة محدثة من مقالات الطناحي الواقعة في جزءين، وهي مقالات رفيعة يقرؤها الشداة والناشئة، ويستمتع بها العلماء وطلاب العلم، وكلا الفريقين يصنع ذلك وهو يحوم في بحر من المتعة والإيناس، وتزداد قيمة صنيعهم عندما يقارن بإهمال غيرهم من الأبناء والطلاب لإرث راحلهم فلم يرفعوا به رأسًا حتى أحالوه لموات أو جعلوه نسيًا منسيًا.
وثالث أمر هو دعوة أجهزة التلفزة والإذاعة العربية لتضمين جداول برامجها مثل هذه البرامج النفيسة التي يمكن تكرار عرضها، وتعظم بركتها على المتابع، وترتقي بوسيلة نشرها، وتخفف من الغثاء والجفاء والبلاء. وليت أن هذه الوسائل تفتش في محفوظاتها لتعيد بثّ هذه المواد الثرية في محتواها بلا مغرم ولا مأثم، ثمّ تتيح إعادة نشرها عبر المنصات المرئية والمسموعة الأخرى وما أكثرها، وخاتمة المطاف أن ينهض لمواد هذه البرامج من يحولها إلى نص مكتوب سيّار؛ فهو الأطول عمرًا والأكثر خلودًا.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الأحد 12 من شهرِ رجب الحرام عام 1443
13 من شهر فبراير عام 2022م