عقيل بن إبراهيم العسكر: الكاتب الموفق
فرغت من كتاب كريم من جميع نواحيه، عنوانه: الكاتب الموثق عقيل بن إبراهيم العسكر (…-1334 تقريبًا) سيرته ودراسة جمهرة من وثائقه، تأليف عثمان بن عبدالعزيز العسكر، وتقديم معالي الشيخ الدكتور عبدالله بن عبدالمحسن التركي. صدرت الطبعة الأولى منه عن دار العارض للبحوث والدراسات والنشر عام (1443=2021م) وتقع في (336) صفحة مكونة من قالوا عن الكتاب وتقديم فقدمة ثمّ أربعة فصول يتلوها قسم الصور وقسم الوثائق فالفهارس الفنية وعددها ثمانية وهي جهد جميل يضيف للكتاب كشافات تعين القارئ وتفيده، وتدل المستعجل والباحث، وأخيرًا ثبت المصادر والمراجع فالمحتويات.
حوى هذا الكتاب الرائق عددًا غير قليل من الفوائد البهية عدا ما في صلب موضوعه، منها تراجم لأعيان من أهل المجمعة وحَرمْة وسدير والزُّبير، وبعضهم ممن نسي أو كاد أن يندثر اسمه وخبره، وفيها التنبيه لأسر ليس لها وجود حاليًا في البلدة، واستحياء لألفاظ وأدوات قديمة، وتعريف بمواضع وأماكن ومزارع وأطعمة وتمور، وتجلية لعقود وعلائق وروابط، وذكر لعملات ومعاملات ومكاييل، وإيراد لملح ونكت علمية وطرائف عالية، وكلها سيقت في نصٍّ متماسك ترعاه بصيرة فقيه، وتحوطه خبرة مشتغل بالتاريخ، ويصوغه بيان ضليع باللغة مع تفنن وعذوبة، والشيء من معدنه لا يستغرب؛ فالمؤلف وأسرته سواء القريبة الحافة به، أو البعيدة المحيطة له، من الأسر العلمية العريقة النافعة التي لا يُستكثر عليها الثناء.
كما ضم الكتاب ستًا وثلاثين وثيقة، إضافة إلى عشر صور، وفيه اثنان وخمسون فائدة مفهرسة في مبادرة جميلة لمزيد إثراء ودلالة، واستقى مؤلفه مادة الكتاب من مئة وستين مرجعًا، ومن الطبيعي أن يكون جدّ المؤلف الشيخ مقحم بن ناصر العسكر (1280-1359) أكثر الأعلام ذكرًا، وابنة المترجَم له تركية أكثر النساء تكرارًا، والمجمعة هي الأعلى تسمية من الأماكن، وآل بدر هم الأكثر ورودًا من بين الأسر والقبائل، ولاريب أن الفهارس الكاشفة في آخر الكتاب تمثل للناظر إغراء لا يقاوم يدفع لابتداء القراءة حتى النهاية.
ويُعدُّ هذا الكتاب هو الرابع من سلسلة اسمها في تاريخ المجمعة ومغانيها وأحدها عن أمير المجمعة الشهير عبدالله بن إبراهيم العسكر. ويبدأ كتابنا بتقريظ بقلم ثلاثة من فضلاء أسرة آل عسكر العريقة، ثمّ التقديم الذي كتبه معالي الشيخ التركي مثنيًا على المؤلف وأهليته وحبه لبلدته وأهلها دون تعصب، ولو خدم كل قادر بلدته لكان في صنيعهم منفعة للبلد بعامة، ولا تثريب على محب لا يحابي. وإنا لمنتظرون إصداراته الباقية عن المجمعة وشخصياتها ومساجدها وكتاتيب العلم فيها مع المدارس وغيرها مما يفتح الله عليه به كي لا يأتي يوم يتأسف فيه الأحفاد كما أسف المؤلف على كبار أهل بلدته الذين انقرضوا ولم تدون أخبارهم.
ولأن من أرخ لمؤمن كان كأننا أحياه حسبما ينقل المؤلف، فقد نشط لبحث سيرة كاتب وموثق طالما انتفع الناس بقلمه، وأمتعهم بسائر حِكَمه؛ وصنع المؤلف ذلك رجاء أن ينال عقيل دعوة صالحة رحمه الله وأمواتنا، علمًا أن هذه الترجمة تتميز انها ليست لعالم أو قاض أو أمير أو وجيه ثري، مما يهبها شيئًا من الفرادة والسبق والسمو. وقد كسر الباحث كتابه على أربعة فصول أولها عن البلد والأسرة والنشأة، والثاني عن عقيل وأسباطه ومكانته وإنشاؤه. أما الثالث فعن الوثائق الشرعية وسماتها وتصنيفها عرض وبيان، وآخر الفصول رابعها وفيه جمهرة من وثائق عقيل عرض ودراسة، ويختص بسبعة وثائق مرتبطة بجد المؤلف وتنقسم إلى وثائق عقود سلم، وعقود بيع، ووثائق إجمالي الدَّين.
ثمّ يطوّف الكتاب بقارئه بين البلدان المتجاورة والبعيدة، ويأخذه في جولة تاريخية إلى الأيام والأحداث والسنوات المشتهرة بما فيها، ويستشهد بأقوال المؤرخين، وأبيات الشعراء، ونصوص الفقهاء، وآراء اللغويين. ومن الطبيعي أن يكون له في النسب والأسر والقبائل وعلم الوثائق شأن كبير إذ أن عمود الكتاب يقوم عليه، وبه احتفت هذه العلوم والفنون التي عبر من خلالها المؤلف ممتعًا مفيدًا مجيدًا.
وفي الكتاب وفاء لشخصيته الأساسية الكاتب والموثق عقيل بن إبراهيم العسكر الذي خدم مجتمعه بما وهبه الله من قدرة وحسن فهم وذكاء كتابي، وكم تمنى المؤلف لو تفرغ عقيل لطلب العلم بما أن ثراء والده كفاه مؤونة العيش ومشقة تطلب الرزق. ومع أن الرجل لم يخلّف ابنًا ذكرًا إلّا أن جليل فعاله ونبل خصاله خلدته، إضافة إلى وجود بناته وأبنائهن الذين هم أسباطه، وأبرزهن تركية وصيّة أبيها على وقفه والناظرة عليه، ولمزاياها توسع المؤلف في سيرتها، علمًا أن جدّ المؤلف مقحم قد تزوج سارة كبرى بنات عقيل الأربع وهي التي توفيت في حياة والدها.
أيضًا نجد في الكتاب شيئًا من حكم عقيل، وأخباره، وقصص أسرته وأسباطه، وفيه دراسة للوثائق والخطوط ومستوى الكتابة المعبرة عن ثقافة العصر من ناحية شرعية ولغوية، والمبينة لشؤون اجتماعية واقتصادية حتى لو كان المبيع الذي تكتب لأجله الوثيقة نخلة واحدة فقط. ولا يخلو الكتاب من مواقف مؤلمة مثل وفاة نجلي تركية في البئر مع ثالث أرادوا إنقاذه عام (1374)، وفيه طرائف كاستغراب تركية من السيارة حينما رأتها في مكة خلال موسم حج عام (1346)، وفي طريقها للحج نامت على صرة مال لم يبلغها سراق القافلة؛ فكان مالها خير مرتفق لها ولمن معها. ومن الظاهر الذي يزيد الكتاب نفاسة إنصاف المؤلف حين تعقب بعض الآراء والوثائق والأخبار، ولم يحجبه عن ذلك قرابة أو مجاملة، والنقد مسألة لايسلم منها إنسان ولا كتاب ولا شأن، وإنما الشأن في العدل والأدب وحسن تقدير مواضع الإقدام والإحجام.
إنه لحقيق بأهل البلاد، وسروات الأسر، ورؤوس القبائل، والمشتغلين بالتاريخ والسير والوثائق أن يقضوا مع هذا الكتاب وأمثاله أعذب الأوقات، وأن ينهضوا لدراسة مجتمعهم وأعلامه بأمانة علمية وطريقة منهجية؛ كي لا تصبح مجتمعاتنا وتاريخها ورجالاتها ونساؤها نهبًا لقطاع الطرق من المتفكهين والأفاكين الذين يتمآلون على نزع الفضائل المروية، ونفي المكارم المتعانقة، ويتعلقون لترسيخ بهتانهم بأحداث بتراء، وأقاصيص شوهاء، وشذرات تند دون أن يكون لها إحصاء وعدّ، فيجعلون من العرضي القليل أصلًا أصيلًا، وحقيقته لا تختلف عن الهارب الجبان الدخيل؛ الذي بمثله لا يُستغنى ولا يحارب ولا يفاخر، بيد أن أولئك الغششة لا يستحون من الله ولا من معاصريهم ولا من التاريخ، ولن يردعهم شيء أكثر من عصمة الإيمان فينا، وارتقاء الوعي لدينا، وتوريث الحقيقة لمن بعدنا.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الجمعة 10 من شهرِ رجب الحرام عام 1443
11 من شهر فبراير عام 2022م