سير وأعلام

يعقوب الباحسين: دائرة معارف شرعية وإنسانية

يعقوب الباحسين: دائرة معارف شرعية وإنسانية

دعوني أحكي لكم هذه القصة رباعية الأطراف، وثلاثة منهم على قيد الحياة، والرابع مرتحل إلى الله والدار الآخرة قبل عقد من الزمان تقريبًا. فقد حدثني أستاذ جامعي وعالم شرعي نقلًا عن إعلامي ومذيع مخضرم نجح في استضافة عالم كبير من مشاهير علماء المملكة، وظهر معه هو وغيره في برامج إفتاء تلفزيونية وإذاعية. وذات يوم ورد إلى هاتف هذا المذيع اتصال من شخصية رسمية كبيرةوهو الوحيد الراحل من هؤلاء الأربعةفخاف صاحبنا وارتجف؛ بيد أن هذه الشخصية هدأت من روعه حينما بادرته بالشكر والثناء على برنامجه مع الشيخ، وكرر عليه القول: من أين أتيتم به؟ ومن أين أخرجتموه؟ وهل عندنا شيخ مثله؟!

طبعًا كان اللافت في حضور ذلكم الشيخ المفتي هو لغته الأدبية، وأسلوبه الرقيق، وسعة الأفق، وقد تذكرت هذه القصة حينما نعى النعاة يوم الأحد الماضي العالم الأصولي الكبير الشيخ أ.د.يعقوب بن عبدالوهاب بن يوسف الباحسين (1348-1443=1930-2022م) الذي ينتمي إلى أسرة أبا حسين التميمية من أشيقر في إقليم الوشم، وقد هاجرت بعض أسرته إلى الزبير النجدية في العراق، وقضى الشيخ جزءًا من عمره في البصرة مع أسرته وقريبًا من خؤولته في الزبير أسرة أبا بطين، وظلّ يتقلب بين تلك الأسر العريقة، والأصول الكريمة، حتى أصهر لوجيه الزبير الكبير الشيخ محمد السليمان العقيل؛ فتزوج كريمته الجليلة التي سبقت زوجها إلى حياة البرزخ بأسابيع قليلة، والله يرحم الجميع ويعلي منازلهم.

وإذا أردت الحديث عن الشيخ الأصولي الراحل، فلن يفوتني الإشارة إلى ارتباطه بالقراءة والاطلاع منذ الصغر، ولهذه المزية أثر على لغته وتفكيره واستقلاليته؛ تلك الاستقلالية التي حالت دون انتسابه إلى أيّ جماعة، وصانته بفضل الله من الغرق في موج الأفكار الهادرة في البلاد التي عاش فيها أو زارها أو درس بها. ومن هذا الباب الإشارة إلى ثقافة الشيخ الواسعة في اللغة والأدب وعلم النفس والتربية ومناهج البحث حتى أن الجامعات ومعاهد العلم العراقية استعانت به لتدريس هذه المواد نظرًا لأهليته وتمكنه. وله باع لافت في معرفة الرواية الروسية على وجه الخصوص، وفي فهم الفكر الشيوعي والقومي والبعثي، وفهم حيل القوم في تشويه الخصوم، وبث الدعاية، والكذب، وغير ذلك مما قد يخفى على بعض أضرابه، إضافة إلى إدراكه تاريخ الحضارات والأفكار والطوائف القديمة والمعاصرة.

كما كان الشيخ خاصة في شبابه الأول وكهولته المبكرة يغشى المجالس والندوات والملتقيات الفكرية، ويحرص على ملاقاة أعلام أيّ بلدة يزورها، ويعرف المكتبات والأنشطة الفكرية والأدبية، وهذه لفتة مهمة لمن يكثر السفر والترحال؛ بأن يحرص على اللقيا والمشافهة والرواية، وحضور المنتديات والمناسبات التي يشرّف حضورها، وتزيد صاحبها علمًا وفهمًا وإيمانًا، وتبصره بطبائع الناس والمجتمعات والكيانات، ويا لضيعة من لا يعرف في أسفاره سوى المطاعم والأسواق فما دونها.

وقد أكسبته هذه الخصيصة معرفة عميقة ظاهرة للمتابع بالشخصيات على تنوعها، وبالأفكار مع تضادها ومصادمة بعضها لما استقر في نفسه النفيسة وعقله المؤمن وقلبه الطاهر، وأصبح خبيرًا بالمكتبات والجامعات ودور النشر وأماكن الحوارات الثقافية، بل إنه عرف شيئًا من أخبار سروات الناس وأسيادهم من علماء وزعماء ومترجمين مع إلمام بشيء من حكايات الممثلين والمطربين وأهل الفنون، وأين من يتسع بطانه الثقافي ليشمل حتى هؤلاء خاصة من قبل دارسي الشريعة الغراء وعلومها السامقة؟!

كذلك نلاحظ معاصرة الشيخ لنظامي حكم في بلدين عربيين عزيزين هما العراق ومصر، وربما أنه كان في البلدين حال وقوع انقلاب يوليو في مصر عام (1952م)، ثمّ عندما حدث انقلاب تموز الدموي في العراق سنة (1958م)، وللشيخ روايات حزينة عن الانقلاب الثاني وما ترافق معه من سفك دماء، وسحل أجساد، وافتراء، ومحاكمات هزلية جعلت عبدالناصرعلى ما عليه من مآخذيصف محاكم المهداوي في بغداد بأنهاسيرك المهداوي، ومن المعلوم أن نظامي القاهرة وبغداد في تلكم الحقبة لم يكونا على وفاق، وكلاهما كانا سواء في المبادئ والتعامل مع الخصوم مع اختلاف في الطريقة والتعليل.

ثمّ أكرم الله الشيخ بالانكباب على دراسة علم أصول الفقه، والتبحر فيه، حتى نال غير ما شهادة في الفقه وأصوله، ومن براعته أن رأى المناقشون بأن موضوعات رسالته للدكتوراة عن رفع الحرج تصلح لأن تكون عدة رسائل في رسالة واحدة، وهو الموضوع الذي يبدو أن أحدًا قبله لم يبحثه مثلما فعل إلى أن توسع في موضوعها الشيخ أ.د.صالح بن حميد ونال عليها شهادة الدكتوراة فيما بعد، وبذلك أصبح حصول الشيخ الباحسين على شهادة الدكتوراة من جامعة الأزهر عام (1391) أوليّة له على عموم النجديين فيما قرأت، وربما يكون الشيخ أ.د.عبدالله التركي من أوائل من تبعه في الحصول على تلكم الشهادة من الجامعة ذاتها.

وفي مسيرة الشيخ العملية نجد أنه عمل في التدريس سبعين عامًا أمضى منها ثلاثين سنة في البصرة، وممن درس عليه فيها د.سليمان السليم وزير التجارة فالمالية، والبروفيسور المؤرخ عبداللطيف الحميدان، والقانوني د.عبداللطيف الحسن، والمهندس عبدالمحسن السويلم، ثمّ أكمل الأربعين في الرياض بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وتخرج على يديه عدد جمٌّ من أشياخ الأصول من المشهورين وغيرهم، ولهم فيه كلمات جميلة تصف تبحره وعلمه وسماحته ولطفه وتعاونه الكبير مع طلابه ورفقه بهم دون إخلال بميزان العلم وما يقتضيه من واجبات وحقوق، ومن هؤلاء العلماء المشايخ الشعلان والشثري والضويحي والعسكر وغيرهم.

أما في منهج الشيخ الذي تعلم تعليمًا رسميًا وذاتيًا، وزادت بصيرته بالقراءة والمقابلة والاستماع، حتى غدا قادرًا على التحليل والفحص، فلا يطلق أحكامًا عامة أو قطعية بلا برهان وبيّنة، ولا يجزم بشيء دون تحقق تام منه، ويصوغ عباراته بمسطرة لا تحيد عن المعنى الذي يبتغيه. ومن النور الذي قذفه الله في قلبه أنه يعلم المصلحة الشرعية وحدودها، ويفهم المقاصد وضوابطها، ولا ينزلق بهما إرضاء لهوى نفس، أو جريًا فيما يريده الآخرون من أهل الدنيا وفتنتها، ولعله ممن استعاذ ربه من بيع الدين بعرض من الدنيا قليل مهما كان كبيرًا أو كثيرًا، وصان العلم الذي حمله عن أي شائبة أو نقيصة.

ومن أناة الشيخ وركانته تمهله في طبع الكتب والبحوث، وربما أخر نشر بعضها سنوات كي لا تخرج إلى الناس إلّا وهي مستقيمة ممحصة مرازة غير عجلة قليلة الجدوى، ولأجل ذلك أضحت كتبه العشرين وأبحاثه مما يحرص عليه طلبة العلم ودارسي الفقه وأصوله، وصارت كتبه من المقررات المعتمدة في الجامعات من الخليج إلى المغرب. ولا عجب بناء على هذا المنهج المكيث أن يستنكر الشيخ استسهال تحقيق كتب التراث من قبل البعض، وأن لا يسابق لكثرة التأليف؛ فالتجويد عنده هو الأصل ولو نقص عدد المؤلفات. ومن حبه للعلم والقراءة أن نظامه في دخول المكتبة لم يتغير حتى في يوم وفاة صاحبته وأيام العزاء فيها.

كذلك بدا لي في خصائص الشيخ حسن تفليته للأشخاص وتمحيصهم إلى غثٍّ وسمين وبين بين، ومن ذلك تقويمه لبعض الأسماء الفكرية الشهيرة بلا مواربة ولا تردد، فمن شطح وألحد فواجب أن يحذر الناس منه، ومن غرق في بحار من الأهواء المرتبطة بمذهب ديني أو دنيوي فلا مناص من كشف أمره، ومن اجتهد فأخطأ يرد عليه، والشيخ يصنع ذلك بهدوء، وسكينة، وألفاظ تصف السمو والأدب والحيطة، ولكنها لا تحجب الحقيقة خاصة من قبل رجل عالم ثقف قارئ بصير يعي موارد القوم ومصادرهم، وأصولهم التي ينطلقون منها.

وبعد سنوات من الخفاء والاختفاء عن العامة والظهور، نال شيخنا جائزة الملك فيصل للدراسات الإسلامية عام (1424)، واختير عضوًا في هيئة كبار العلماء عام (1430) واستمر في عضويتها إلى حين وفاته. وحظي الشيخ بتقدير يستحقه هو وأمثاله من رجالات المملكة في المناصب الرسمية، ومن العلماء وطلبة العلم، والدارسين الذين بهرهم بطريقته وغزارة ما يحتفظ به. ومن الجلي تقدير الشيخ الأصولي عبدالله الغديان للشيخ يعقوب وتآليفه، وإكبار سماحة المفتي الشيخ عبدالعزيز آل الشيخ لشيخنا وثناؤه عليه أمام طلاب المعهد العالي للقضاء، وقد زاره المفتي في منزله معزيًا بزوجه الراحلة، وبعد أسابيع تقدم المصلين في جامع الراجحي عصر أمس الاثنين السادس من شهر رجب للصلاة على شيخ الأصول، العالم بأصول العلوم والجماعات وبكثير كثير من الآداب والمعارف والمجتمعات.

كم في علمائنا الأجلاء، وقضاتنا الميامين، وطلبة العلم الشرعي السامي، من نخب فريدة أمثال شيخنا الأصوليبالمعنى الصحيح للكلمة وليس المحرفالذي درس أو تذاكر مع علماء عراقيين ومصريين ومغاربة وشوام وسعوديين وغيرهم، وزامل أعلامًا من أديان ونحلٍ عديدة، ولم يأنف من تلقي العلم بين يدي نساء عالمات في القاهرة، حتى أصبحت تركيبته العلمية والطبائعية مستوعبة هادئة جاذبة أخاذة للقارئ والسامع، وما أحوجنا لدراسة سيرهم وحثهم على كتابتها، وكم نحن بحاجة للبحث عن هؤلاء النماذج، وتصديرهم، وتعريف المجتمع بهم؛ فالزمان زمانهم قمعًا للفتن، ووأدًا للتأويل والتلبيس، وقبل هذا وبعده استثمارًا لعلومهم، ونفعًا للدار الغالية، ولدياريها أولي النخوة والشيم، واستبقاءً للخيرية في أمة هي خير أمة أخرجت للناس.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّافالرياض

 ahmalassaf@

الثلاثاء 07 من شهرِ رجب الحرام عام 1443

08 من شهر فبراير عام 2022م

Please follow and like us:

2 Comments

  1. اللهم ارحم الشيخ د يعقوب بن عبد الوهاب البا حسين وطيب ثراه . واكرم مثواه . واجعل الجنة مستقره وماواه . والصبر والسلوان لذويه. وارحم جميع اموات المسلمين

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)