سير وأعلام عرض كتاب

سارة الطويل وكمال المبتدأ والخبر

سارة الطويل وكمال المبتدأ والخبر

أجد في نفسي تقديرًا كبيرًا لأي امرأة تحب أباها وأهله حبًا حبًا، ذلك أن هذه المحبة تدل على أصالة المعدن، واستقامة التربية، وحسن العهد، وعراقة الأسرة، ولا يعني هذا البتة الإنقاص من حب البنات لأمهاتهن وأهاليهن، بل إنه من الواجب وإذا كان الحب جمًا جمًا فهو فضيلة مضافة، والتخصيص في المستهل لا يعني الاقتصار عليه بتاتًا، وإنما هو تحرّز من الغفلة عن الأب وأسرته لقرب الفتيات من خؤولتهن؛ ولذا وضحت حذار سوء الفهم الذي يتبادر لبعض الأذهان قبل غيره أحيانًا، والله يرزقنا حب الآباء وآلهم، وحب الأمهات وآلهن.

أقول ذلك عقب ساعة سهر-ولا أحب السهر- قضيتها مع كتاب عنوانه: صور وعبر من حياة جدتي، تأليف: ندى الرشيد، صدرت طبعته الأولى في بدايات شهر رجب عام (1431)، ويقع في (88) صفحة مكونة من الإهداء فالمقدمة، ثمّ ثمانية عشر عنوانًا يتبعها الخاتمة فالفهرس. وعلى غلاف الكتاب صورة شجرة ليمون سيأتيكم خبرها بعد قليل، والكتاب مختصر في مضمونه، واضح في عباراته، حسن في إخراجه.

من مزايا الكتاب أن المؤلفة تكتب عن جدتها لأبيها؛ فهي تبّر بحروفها الجدة والأب والأعمام والعمات، ومنها أن خبر الكتاب بلغ الجدة من حفيدتها قبل رحيلها، ولم تفرح الجدة بفكرة الكتاب هروبًا من الثناء، بيد أنها اقتنعت حين قيل لها بأن المضمون يُراد منه الاقتداء وتقديم المثال الصالح لتسير عليه بنات حواء. ويشاء العليم القدير أن تمضي صاحبة السيرة إلى ربها، ثمّ يصدر الكتاب بعد أقل من شهرين على وفاتها؛ عسى أن يكون لها لسان صدق في الآخرين. واختارت المؤلفة لغلاف الكتاب صورة شجرة ليمون من بيت جدتها كانت تحرص عليها وعلى أن تقطف لحفيداتها منها حسبما قالت المؤلفة في المقدمة.

أما الإهداء فمن إتمام الفكرة أن تُهدى لأقرب الناس علاقة بصاحبة الشأن وهم والد المؤلفة وأعمامها وعماتها. وذكرت المؤلفة بأن كتابها سيجيب عن سؤال صغارها الدائم لها عن سر تعلقها بجدتها سارة، واستفهامهم المتكرر عن دوافع حب والدتهم المتعاظم لجدتها، وفي نهاية تطوافها مع حياة جدتها تساءلت -وهو سؤال مشروع جاء في مكانه- هل سأصبح أنا جدة مثل جدتي؟ ويحقّ للقارئ تعميم السؤال قائلًا: هل ستصبح كثير من الفتيات والأمهات مثل هذه الجدة في الإطار العام حتى لو تباينت التفاصيل؟

ويبدو أني أطلت قبل إخباركم بأن الجدة المقصودة هي العابدة الصالحة سارة بنت عبدالله بن محمد الطويل (1353-1431) وأسرتها من أبناء عم أسرتي العجلان والعيد في رغبة ضمن إقليم المحمل ويرجعون لقبيلة هذيل. وهي امرأة نشأت في بيئة صلاح فتنامت في نفسها الطيبة بذور الخيرات حتى تعمقت جذورها، وثبتت أصولها، واستطالت فروعها، وأينعت ثمارها، وفاضت منها الحكمة بالفعال والأقوال، ولا يضيع أجر المحسنين والمصلحين عند الغفور الرحيم.

كانت الجدة تحب والدها وكلّ من يتحدث عن والدها، وهو رجل صالح ليس برواية الجدة فقط حتى لا يقول قائل إن كل فتاة بأبيها معجبة، بل تنقل المؤلفة عن والد زوجها الشيخ عبدالرحمن العواد شهادته للشيخ عبدالله الطويل بالطاعة الدائمة، والمحافظة على الصلاة وقيام الليل حتى في البرد الشديد، مع صيام النهار في اليوم القائظ إضافة إلى العمل الشاق، ولا يعلم أحد بصيامه إلّا إذا أكل تمرات وشرب الماء مع آذان المغرب، وأما قيامه فسر لا يدركه إلّا من أيقظه الله فجأة ليروي عن الرجل الخفي خلوته بمولاه في ظلمة الأسحار.

ومن البدهي أن تتأثر الفتاة سارة بأبيها ونعم القدوة الأب حين يكون صالحًا بأعماله وسمته. أما والدتها فهي قوت الربيق الخالدي وهي قوت في الاسم وفي المعنى، إذ أنها تتعنى فتمشي المسافات البعيدة لزيارة ابنتها الصغيرة سارة بعد أن تزوجت وصار لها دار وحمولة، وتمازحها إذا دخلت بيتها على حين غرة، في مسرحية اختفاء فيها ملاطفة مع وداد وحنان، فتنادي ابنتها التي غدت عروسًا مسؤولة عن بيت قائلة: سوير سوير؛ حتى تطير الفتاة بأمها فرحًا وتسعد بمقدمها.

وفي بيت الزوجية حرصت سارة على حسن صحبة زوجها وعشرته، وعاشت عقب رحيل زوجها أربعًة وعشرين عامًا لم تفتر خلالها عن الدعوة له بالرحمة والغفران وعلو الدرجات، وهكذا تفعل صوالح الزوجات بعد الترمل. ولم تقف عند هذا الحدّ بل زادت من حرصها على وصال أخوات زوجها خاصة عقب وفاته؛ لأنها ترى أن البّر بهن من حسن العهد، ومن تمام أداء الواجب للزوج حتى وهو تحت أطباق الثرى، وما أجمل هذا البهاء، وما أكمل هذا العطاء.

ثمّ نشرت الجدة الناصحة خبرتها لبناتها وحفيداتها ومجتمعها من النساء ولم تكتمها، وكررت حث الفتيات على إرضاء أزواجهن فما أسعد من امرأة يرضى عنها زوجها، وما أكدر حياة من تعيش في شقوة مناكفة الزوج وإغضابه تحت ستار واهٍ من كذب المساواة والحقوق؛ وقد جعل الله لكل شيء قدرًا ومنزلة وما يترتب عليهما من الطرفين ولهما. وتؤكد الجدة المشفقة عليهن ضرورة بر الزوج؛ لأن المرأة ستندم على تفريطها بعد موت زوجها، وهي التي ندمت على موقف واحد طريف مع زوجها يخصّ القهوة، وفي صنيعها حنكة، وفي دأب زوجها كرم، ولا بأس من أمر طرفاه حنكة وكرم!

وقد أوردت المؤلفة طرفًا من بر عمها محمد بوالدته -جدتها سارة- وما أسعده برضا أمه عنه، وتكرار الدعاء له بعد وفاته المبكرة، فمحمد هو الذي بنى لها بيتها، وهو الذي يشتري لها أي شيء يشتريه لغيرها مع رفضها لذلك حتى لا تكلف عليه. وفي منهج محمد وبقية إخوانه وأخواته مع أمهم مدرسة لمن شاء خدمة الأبوين ورعايتهما وإبهاجهما بغية دخول الجنة، وفيها تقريع لكل سادر غافل عن والديه، ولا عجب أن يحكم النبي الأكرم عليه الصلاة والسلام بالرغام على من أدرك أبويه أو أحدهما عند الكبر فلم يدخلاه الجنة.

كما أن للجدة ارتباطًا وثيقًا بالقرآن العزيز منذ طفولتها وشبابها المبكر، وكانت تتمنى أن تتفرغ كي تجلس في مصلاها، وتحفظ كتاب ربها؛ فهدفها الأسمى أن تأتي يوم القيامة وفوقها ظلال سورتي البقرة وآل عمران التي حفظتهما فيما بعد بفضل من الله وتوفيق. ومن حرصها أنها تراجع القرآن مع حفيدتها المؤلفة، وتعاقدت مع معلمة تسمع لها بعد أن صعب عليها الذهاب إلى دور تحفيظ القرآن الكريم، وأفادت من التقنيات الحديثة في الحفظ والتكرار والمراجعة، ولم تركن إلى عذر من عمر وضعف ذاكرة وبعد مكان.

كذلك من أخبار الجدة طول صلاتها، وحرصها على البرامج المفيدة في إذاعة القرآن وغيرها خاصة برنامج نور على الدرب، وطلبها من إحدى الجالسات معها أن تقرأ عليهن من كتاب لتعم الفائدة، وتذكر الجنة كثيرًا وتهفو روحها لتلك الدار. ومنها أنها لا تستعين بعاملة منزلية، وتوصي الآخرين بالرفق ورحمة الخادمات، وهي لا تنسى التلطف معهن والسلام عليهن إذا دخلت لبيت أو غادرته، ولهن منها في الأعياد أموال وهدايا.

وتوصي الجدة البنات والحفيدات بالقرآن قبل ضعف النظر، وتدعوهن للصبر على حوادث الزمان، وهو صبر عملي منها إذ فقدت أباها طفلة، وماتت والدتها وهي شابة دون الثلاثين، ثمّ أصيبت بزوجها ونجلها البكر. ومن طريقتها تحريص بنيها على الصلاة، وإيقاظها لهم واحدًا واحدًا، ومن استقل منهم في بيت اقترحت عليه أن توقظه يوميًا عبر الهاتف. ومن تسامي الجدة أنها تصنع بنفسها السحور للصائمات من زوجات بنيها مع أنهن يطلبن منها ألّا تفعل ذلك حياء منها ورفقًا بها، فأيّ حماة تفعل لكنتها ذلك؟ وأيّ كنّة يتملكها الحياء من حماتها والرفق بها؟

أيضًا للجدة أقوال منها أن الستر جمال والجمال كله في الستر، وتتساءل: لماذا نحزن على الراحلين والحزن لا يرجعهم والدعاء خير لهم وأنفع؟ وتقول لمن حولها واعظة: ماذا تريدون من الدنيا وأنتم ستغادرونها حتمًا؟! وتتعجب من مسابقة الناس إلى الدنيا مقابل غفلتهم عن المسارعة إلى الجنة! وتغبط الرجال على صلاة الجماعة في المسجد، وتحض على التبكير، وتستعظم التفريط وتأخير الذهاب للمسجد إلى وقت الإقامة؛ فأين من لا يعرف الطريق إلى مسجده؟! وفي لفتة رأفة تخبر من حولها أن وجود الخادمة في المنزل لا يعني أنها مسؤولة عن العمل كله، ولا تغفل عن تجهيز بقايا الطعام للحيوانات على أصنافها حتى مازحتها عاملة بقولها: أين طعام النمل يا ماما؟

رحم الله هذه الأم الصالحة المربية، والجد الحنون، وجزى الله خيرًا نجلها الصديق عبدالحكيم بن فهد الرشيد حين أطلعني على نسخة من هذا كتاب ابنة أخيه عبدالعزيز. وكم نحن بحاجة للرواية عن أسلافنا القريبين؛ لننقل الصورة الحقيقة عن مجتمعنا وعراقته، وكي نقدم القدوة للأجيال، ونقاوم دعوات الإفساد والتخبيب التي تكاثرت وتيسرت سبلها، وفوق ذلك تصبح الرواية حفظًا للمآثر والمناقب وحميد السجايا، وتكذيبًا لمحاولات التدليس والتزوير وتصوير المجتمع قديمًا بخلاف حقيقته الفطرية، وقبل هذا وبعده فهو بر ومجد وإحسان، وجدير بذوي الفضل ألّا يتوانوا عنه بتسويف أو استعظام، ومن بدأ فسيكمل وسوف يفرح بالنتيجة والأثر.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

 ahmalassaf@

الخميس 24 من شهرِ جمادى الآخرة عام 1443

27 من شهر يناير عام 2022م

Please follow and like us:

3 Comments

  1. العمه ساره بنت عبدالله الطويل الهذلي المضياف لاهالي رغبه في الدرعيه من مواليد بلدة رغبه وسكن الدرعيه عقود وهو من بني عم العجلان وليس فرع منهم وكذلك اسرة العيد وامها قوت الربيق الخالدي من بلدة رغبه

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)