وثائق الأسر وتصوير حياة الأوائل
كثيرة هي القصص التي سمعتها وسمعها غيري عن وثائق الأسر، فكم من وقف أو وصية عاد إلى الحياة بعد طول سكون، وكم من علائق اكتشفت من أثر وثيقة ظهرت بعد سنين، هذا غير ما تفسره تلك الوثائق بعد القراءة والتحليل؛ فتغدو خير معين على تصوير الحياة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والصحية والسياسية، إضافة إلى حفظها لتواريخ وكلمات وتعابير ورموز، ودلالتها على نوع الخط والورق والحبر ومستوى التعليم.
أما الذي يؤسف له فحين تسمع عن وثائق تلفت أو أخفيت لأسباب مهما بدت خطيرة فهي واهية أمام سلطان التاريخ الذي يستوجب إظهار المسطور كما يستلزم بث المحفوظ في الصدور، وإنها لأمانة ليست للأجيال فقط، بل للعلم، والمكان، والمستقبل الآتي قريبه وبعيدة. ومما يبهج عناية عدد من الأسر والمناطق والدول بوثائقها، ومن هذا الباب صدور كتب تضم وثائق خاصة بدول أو مناطق أو أسر أو أشخاص، أو نشرها ضمن معاجم الأسر وكتب التاريخ، إضافة إلى التفات الأجهزة الحكومية والخاصة للوثائق حفظًا وتصويرًا وترميمًا وإتاحة.
وقد سرني هذا الكتاب الأنيق في طباعته وإخراجه وأوراقه، الحميد في فكرته نحو البّر الأسرة ورموزها، ونحو البلد وتاريخه الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، ونحو الأسر المذكورة ضمنه، ونحو التاريخ بعامة، فكم فيه من فضيلة اجتمعت في عمل واحد جليل تآزرت عليه همم كرام من أسرة عريقة واحدة، وليت الذين يكنزون الوثائق ويحتجنونها دون الآخرين، ويحجبونها عن البروز أن يجعلوا من هذا العمل وأضرابه إنموذجًا يُحتذى وقدوة يسار على نهجها الرشيد.
عنوان الكتاب المقصود: الوثائق العائلية: المحافظة عليها وفهرستها ودراستها وتحقيقها: وثائق إبراهيم بن عبدالعزيز اليحيى 1308-1391 نموذجًا، تأليف حفيد صاحب الوثائق إبراهيم بن عبدالعزيز اليحيى، وقد صدر الكتاب في مجلدين طُبعا على نفقة المستشار الشيخ سليمان بن إبراهيم اليحيى، ونشرت دار المقتبس الطبعة الأولى منه عام (1440=2019م)، والكتاب بجزئيه يتجاوز ألف صفحة.
يحتوي هذا الكتاب على (423) كلها أصلية إلّا واحدة، ويتكون الجزء الأول من (526) صفحة فيها (199) وثيقة، بينما يقع الجزء الثاني في (513) صفحة فيها (224) وثيقة. وعمد المؤلف إلى ترتيب الوثائق بحسب الأقدمية التاريخية؛ فأقدم وثيقة كانت في عام (1287)، وأحدثها في سنة (1390)، ووضع مسردًا بأسماء الأسر الواردة في المجلدين وعددها (338) أسرة تتوزع على حروف الأبجدية، وأكثرهم ينتمون إلى أسر كريمة تحمل حروف السين والعين والميم، وجلّ الأسر من القصيم، ومن بريدة تحديدًا.
وقد كتب المؤلف المقدمة ثم كلمات يسيرة حول الجد الذي سبق أن أفرده بسيرة منشورة روى شيئًا من صعوباتها والله يكتب أجره. ثمّ تحدث عن الوثائق وأهميتها وخصّ الأهمية عند الفقهاء والمؤرخين، وبيّن الفروق بين الوثيقة والمخطوطة، وكيفية فهرسة الوثيقة وتحقيقها ودراستها، مع إيراد بعض الملاحظات المهمة في هذا الشأن، وشرح الرموز التي ترد في الوثائق القديمة، وربما أنها تكون غامضة الدلالة أحيانًا.
عقب ذلك استعرض اليحيى الوثائق طبقًا لتاريخها، وكتب مقابل كل وثيقة محتواها، ولم يحشُ الكتاب بمعلومات عن المذكورين فيه لأن بعضهم ممن يصعب التعرف إلى ترجمة له حتى لو كانت مختصرة، والمشتهر منهم لا يُجهل أمره، كما أخلى كتابه من الكشّاف على أهميته وجاهزيته لدى المؤلف حتى لا يكبر حجم الكتاب ويضخم فيتحاشاه القارئ. وفي الغلاف الأخير لكل جزء كتب أسماء الأسر بناء على حروف الأبجدية بداية من أبا الخيل وانتهاء باليوسف.
إن صنيع المؤلف المبارك يمثل إنموذجًا ليس في حسن العرض وجودة الطباعة وتظافر الجهود فقط، بل في الحفظ أولًا، والإظهار الجميل ثانيًا، وهو نموذج حقًا لما نتمنى أن تنشط إليه الأسر العريقة، فتخدم تاريخها، وتبقي على مآثر أوائلها، وتجلي للآخرين شيئًا من تاريخ سابقيهم كذلك؛ فجلّ الوثائق القديمة تكون محفوظة عند من استقبلها وليس عند مرسلها. وعسى أن يكون من حسنات أسر الطيار اليحيى والعتيقي والعبدالجليل والمشوح والماضي والنصف وغيرهم مسارعة بقية الأسر للمضي الحثيث على المنوال ذاته، وتجاوز العقبات الوهمية التي نضعها لأنفسنا، وإن هي إلّا ظنون لا تصمد أمام التجربة الواقعية، ولها قدم صدق ثابتة في عالم الحقائق، مع بقاء الذكر والأجر والفضل.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الثلاثاء 22 من شهرِ جمادى الآخرة عام 1443
25 من شهر يناير عام 2022م
