سير وأعلام

أبناء رميح في محيط المكارم

حقًا إن للذرية وجاهة جعلت من الإنجاب عملًا حياتيًا مستمرًا، وأصبح فعل التكاثر مشتركًا فطرت عليه الخلائق كلها؛ ولذلك آب إليه عقلاء البشر بعد أن انصرف قسم منهم عنه زمنًا تحت دعاوى منزوعة الحكمة قصيرة النظر. ومع أن التاريخ يحفظ أسماء رجال كثر من المنجبين الذين تجاوزت أعداد ذريتهم الأرقام المتعارف عليها في نطاق الزمان والمكان، إلّا أن توافر صفات النجابة في جميع أبناء رجل واحد مما يندر حدوثه، ولندرته احتفظت الذاكرة الشفهية والمكتوبة بأخبار الإخوة النجباء في كل عصر وقطر، وعرفت العرب قبور إخوة أربعة من أبناء عبد مناف في الجاهلية، ثمّ قبور أبناء العباس الأربعة في الإسلام، ويعود سر هذا الضبط “الجنائزي” لفضل أولئك الإخوة وإحسانهم؛ إذ كان الناس يغشون مجالس آل العباس يطلبون أنهار العلم عند عبدالله، وصنوف الطعام عند عبيدالله، ويعترفون لهاشم والمطلب بفضلهما في الإيلاف ورحلتي الشتاء والصيف التي مهدت لقريش تجارتها بأمن محكم.

ومن هؤلاء الإخوة النجباء أبناء الشيخ رميح العيسى بن صقير بن حمد آل نجيد (1245-1338) -من المصاليخ من عنزة- وهم من أسر القرعاء العريقة. وكان رميح أحد ثلاثة إخوة وأكبرهم، ورزق الذرية دون أخويه صقر ومحمد، إضافة إلى كونه أمير القرعاء في زمنه. وقد اجتمعت في أبناء رميح الخمسة صفات كريمة رفيعة ظهرت في آبائهم الثلاثة من قبل، ولا ريب أنها خصال مسلسلة فيهم، ومنسابة إليهم من جدٍّ قريب أو بعيد، فالمحتد الأصيل يحفظ أهله، ويظلّ كرام الأبناء خير حراس لودائع الآباء التي خلّفوها من سيرة وأحاديث ومواقف، ولأمر ما ظلت العراقة متوارثة في كثير من الأسر التي حرصت على إدارة التعاقب فيها كي لا تصير نارهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف، وحتى لا يخبو شأنهم بعد علو.

فإذا أردت حصر سمات أبناء رميح الخمسة: محمد (1270-1356)، وعيسى (1275-1353)، ومنصور (1285-1366)، وسليمان (1290-1385)، وعبدالله (1298-1370)، التي ورثوها عن الآباء والأجداد، فإنك واجد نفسك في محيط من الفضائل التي تبدي نفسها حتى يظن المرء أن واحدة منها تكفي عن غيرها لشدة بروزها الوضاء، وحقيقتها أنها جوهرة ضمن جواهر، ولؤلؤة معها أخوات لها وأخوات، فأيّ أنفة وعزة، وأيّ كرم ووفاء، وأيّ شجاعة ونخوة، وأيّ حميّة وحسن تمثيل، وأيّ قوة ديانة وصدق معتقد، وأيّ حرص على العلم وإعانة على الحج والتجارة والخيرات كافة، وأيّ رجال دولة كانوا! ثمّ يزين ذلك كله المسير تحت سلطان الشريعة والخضوع لأوامرها، وابتغاء المصالح العليا، وبقاء الحال في العسر واليسر والمنشط والمكره رضية، والبال رخي، والسخاء ممتد، ذلك أن رجاء ما لدى الله يهوّن عسيرات الأمور، وإن الرجال الأماجد لأصحاب عزيمة ومضاء في رشيد الأمور ورفيع الشؤون.

 كان أكبرهم الشيخ محمد بن رميح ممن جمع التجارة مع السياسة، فهو التاجر صاحب القوافل والبيع والشراء، وهو الممثل عن الملك عبدالعزيز أمام الحكومات في الشام، وله تاريخ من الكرم والضيافة حيثما حلّ، وفيه حمية لأقاربه حتى الأباعد منهم، ولذلك رفض بيع الخيول التي يملكها لقبائل تجاور بني عمه من عنزة في تيماء وتنافسهم، وقال كلمة معناها لو بعتها لبني العم بأبخس الأثمان أو وهبتها لهم دون مقابل، فهو أحب لي من بيعها على غيرهم ولو بلغت أرباحها كما عرضها المنافسون أضعافًا مضاعفة! وهو ممن شارك في معركة الميلداء الشهيرة عام (1308) التي انتصر فيها ابن رشيد على أهل القصيم، وأصاب منهم مقتلة عظيمة.

أما الشيخ عيسى بن رميح فالمحفوظ عنه كثير كثير، ومن أجلّ مواقفه التي لا تنسى وتظهر فيها بصيرته النافذة، ورؤيته بعيدة المدى، أنه ساهم من تلقاء نفسه أولًا، ثمّ بتكليف من الملك عبدالعزيز لاحقًا، بطباعة كتب علمية نفيسة، وغدا مجموعه العلمي المطبوع الأشهر في نجد مع الرواج في ديار الشام ومصر والعراق حتى أثنى على “مجموع ابن رميح” العبودي والجاسر وهما من هما، واعترف له بالفضل العلامة تقي الدين الهلالي إذ بواسطة هذا المجموع عرف العقيدة السلفية والتزم بها، ولنا أن نتخيل كيف أن رجلًا من نجد في زمانها الصعب يطبع كتابًا تُضاء عليه الشموع والأنوار وتنير به العقول والقلوب في دمشق والقاهرة وبغداد!

 كذلك من مواقفه أنه أبى بإصرار بيع الخيول للجيوش الأجنبية المحتلة، ونَهَر من استشفع لهم كي يمضي صفقة البيع المغرية، وعلّل موقفه الشامخ هذا بأنه لا يقبل أن يعين الكافر المعتدي على أخيه المسلم. وبعدما اشتهر خبر مضافته الباذخة في القدس طلب الحاكم الإنجليزي منه أن يزوره في مقره لكنه امتنع إلّا أن يأتيه الإنجليزي بنفسه إلى مكانه، وهو ماكان في موقف نادر من العزة والإباء، وفي موقفه إشارة إلى نظرته لعساكر الاحتلال؛ فلا يطيع لهم أمرًا، ولا يراعي لهم خاطرًا، ويجبرهم علة المجيء إليه فهو من أصحاب الدار وأقرب لهم من البعداء.

وعندما أثنى الإنجليزي على كرم الشيخ عيسى ومائدته الممدودة للناس في القدس وقرر منح ابن رميح قطعة أرض كبيرة، رفض الشيخ الرميح قبولها بحجة أنه يستضيف ويؤوي ويطعم ابتغاء ما عند الله، ثمّ صلة لأهل دينه وبلاده وعرقه، وتصالحًا مع سجيّة نفسه المعطاء، ولربما أنه فيما طوى عليه جوانحه قد استعظم قبول امتلاك أرض إسلامية أكثرها وقف عمري، وواهبها له محتل إنجليزي بغيض! ولأمر ما سعد الملك عبدالعزيز بموقف ابن رميح هذا، وكرر إعلان الرضا به في ديوانه ومجلسه أمام الملأ، وأفاد منه في جعله وسيطًا له وممثلًا عنه أمام حكومتي باريس ولندن وهما من أقوى دول العالم آنذاك، وأعظمهما تأثيرًا في المنطقة، علمًا أن جميع الإخوة الخمسة ثبت لهم التمثيل الدبلوماسي المبكر للدولة السعودية، وشهد لهم مؤرخون وساسة من العرب والإنجليز بهذه الصفة التمثيلية السباقة.

ليس هذا فقط ما لدى الجواد النفيس عيسى، فهو لا يخرج في قوافل العقيلات إلّا مشترطًا على رفقته أن يكفيهم المؤنة طوال الطريق وفيهم أغنياء وأثرياء، ولا يقف عند هذا المستوى من العطاء بل تبقى سفرته عامرة ومائدته متاحة في مجالسه المفتوحة بحواضر العقيلات، ويساعد صغار المستثمرين والمعدمين إما بعونهم على البيع والشراء، أو بإغناء كبار السن عن الضرب في الأرض وترك النساء بلا عائل، فما أرق قلبه لشيخ كبير هدته السنون وأخرجته الحاجة وهو يكاد أن يهنف، وما مخرجه إلّا ليبحث عن طعمة لأهل بيته ولو اضطر للسفر البعيد الطويل، فيمنح له الشيخ عيسى من الأطعمة ما يكفيه عن عناء السفر، ويريحه من لأواء الفراق.

وقد وفقه الله للوقف مبكرًا، فمن أوقافه بستان فيه نخيل وثمار وعين ماء تقع في قصيبا وهي أول محطة يرتاح فيها العقيلات بعد خروجهم من بريدة شمالًا، ومن المؤكد أن الذين شربوا فيها وطعموا منها أعداد كبيرة من أولئك الساعين لطلب الرزق. وفيما أبعد أوقف أرضًا في بريدة على طلبة العلم فيها، ولا يعلم إلّا الله كم من متعلم وعالم تفرغ لسلوك هذا الطريق السامي بفضل الله ثم من بركات وقف ابن رميح، ولم ترض همته العلمية بهذا فيما يختص بالعلم ومجالاته، فله سابقة بجلب الكتب إلى بريدة من أصقاع المعمورة المقدور عليها سواء من بلدان عربية أو هندية، ثمّ أوقفها على مكتبة بريدة، ولا يحصي إلّا الله عدد من نظر فيها، وقرأ، واقتبس، وأفاد، هذا غير الذين اتخذوه قدوة وإمامًا في الإحسان بالوقف ونشر العلم.

ومن شجاعة قلب عيسى وثبات مبادئه أنه أنكر على الشريف حسين وجلّاسه الانتقاص من علماء المدرسة السلفية ورموزها، ولنا أن نتصور أن هذا الرجل يستنكر كلامًا ورد في مجلس حاكم عن خصوم هذا الحاكم في أوج سوء العلاقات معهم، فلا الرجل يخشى شيئًا، ولا الشريف يقوى على معاقبته وهو بين يديه! وحين أصاب الناس مرض غامض في قصيباء بادر عيسى بإحضار دواء لهم من العراق، وتوزيعه عليهم مجانًا، وكان فيه لهم بعد إرادة الله الشفاء والنجاة من مهلكة وشيكة.

ونودع الشيخ عيسى إلى أخيه الذي يليه الشيخ منصور، الذي قال له الملك عبدالعزيز ذات يوم : “ليت في نجد منصورين” وهي كلمة قالها الملك فيصل لاحقًا لنجل منصور السفير محمد. ولمنصور مواقف في تمثيل الملك عند الإنجليز والفرنسيين، وفي إمداد الجيش السعودي المحاصر لحائل بالمؤونة، وفي إقراض الدولة الناشئة من أمواله. ومن أبهة الرجل أن مجالسه يحضرها كبار الأمراء والوجهاء، ويقتصر الحديث فيها على العلم والأدب والخيل والسلاح. ومن مكانته أنه يجوب أرجاء الجزيرة العربية والشام والعراق والدنيا تمور بالحروب والخلافات والصراعات والتنافس بين الزعماء والقبائل، فلا يجد نفسه إلّا مقدرًا معززًا أينما حلّ، واستمر في تطوافه بالصحراء المخيفة آمنًا دون خوف أو تردد.

بينما أصبح شقيقهم الرابع الشيخ سليمان معرِّفًا على العقيلات والعربان في مصر والشام، وجوازه المعروف بجواز ابن رميح ثم تصاريحه الموثوقة للعبور كلها صارت موضع قبول لدى القوى العظمى والإقليمية والمحلية ثقة بالرجل وبالسمعة الناصعة التي صنعها مع أشقائه في الشأن التجاري والسياسي والاجتماعي والإغاثي، وفي إبراز الأخلاق العربية الكريمة التي تصدق فعالها أقوالها، وما كان له ولأشقائه اكتساب هذه المكانة العليّة لو كانوا مثل بقيّة الناس، وإنما المسك بعض دم الغزال! ومن اللافت أن الشيخ سليمان نال هذه المنزلة الفريدة لدى الدولة العثمانية، وعند دول الاحتلال الأجنبي، ثمّ مع الملك عبدالعزيز، وهم جميعًا ممن اختلف في أشياء كثيرة، ولكنهم اتفقوا على تزكية الرجل في علمه ومعرفته وضبطه.

ومن أعجب قصصه موقفه مع حراس قافلة استأجرهم من العراق إلى الحجاز لرعاية خيول عربية أصيلة له أراد أن يبيعها في الموسم الميمون وعددها ثمانون، فلما أقبلوا على صحراء بين المدينة ومكة أصيب الحراس بداء منهك وشارفوا على الموت، فاستأجر لكل واحد منهم وتعدادهم عشرون سائسًا – وهم على شفى هلكة ولا نفع يرتجى منهم- نعوشًا وحمالين، حتى وصلوا إلى مكة، وتعالجوا وأدوا فريضة الحج، ثمّ عادوا لأهاليهم وديارهم بمغانم دنيوية وأخروية.

ثمّ نصل إلى آخر هؤلاء الإخوة الشيخ عبدالله الذي عمل في الشام ومصر بالتجارة والتمثيل السياسي وقيادة الحروب مع السوريين ضد الجيش الفرنسي، واشتهر مع الشجاعة بالكرم والسعي الحثيث لخدمة الناس خاصة من العقيلات، حتى أن من وقع في مأزق بمصر نُصح بالذهاب لمجلس ابن رميح كي يجد النجدة العاجلة، وله يد على كثير من التجار القادمين من نجد سواء بالمعونة المالية أو بالاستضافة أو بتسهيل التجارة وتيسير العبور.

وقد أنجب هؤلاء الخمسة إلًا عبدالله، ولهم بنون وحفدة من البارزين في مجالات عديدة، ولآخر ثلاثة منهم صور محفوظة خلافًا لمحمد وعيسى. وحتى لا يطول بي المقام هنا فسوف يكون للأبناء والأحفاد مع آبائهم حديث آخر أوسع إن يسر الله وأعان وفاء لتلك الأرومة النبيلة، واحتفاء بذلكم النموذج البهي، وإن هذا لحقيق بنا دون منّة ولا تفضل حين نشيد بالأسر العريقة، والمواقف المجيدة، والرجال والنساء الذين يشرفنا الاشتراك معهم في شيء واحد أو أكثر، وما أسعد المجتمع حين يوجد به مثل هذه الشخصيات النبيلة.

إن أبناء رميح الذين كانوا في بلدتهم أصحاب مجالس وضيافة وأوقاف وحمية، ثمّ هم في ديار تجارة العقيلات من أمراء القوافل ورؤوس الناس، وعند الزعماء والحكومات موضع الثقة والتجلّة، وفي كتب القناصل والممثلين والمؤرخين لهم حضور شريف، ومساحة يستحقونها، ولهم نصيب غير منقوص من الخبر الجليل مع الخيل والشجاعة والحنكة والعزة، لجديرون بأن نذكرهم ونترحم عليهم، وأن نبرز للأجيال مآثر أهلهم الذين فرطوا قبل عقود وقرون، وإن الخلال الحميدة المباركة السنية لباقية في أمشاج أهلها إن في الصلب أو الترائب، ولن تضمر أو تزول؛ فبعض السجايا ينتسبن إلى بعض كما قال ابن الرومي.

 ahmalassaf@

الرياض- الأربعاء 02 من شهرِ جمادى الآخرة عام 1443

05 من شهر يناير عام 2022م

Please follow and like us:

3 Comments

  1. كل ما ذكرت يثلج الصدر وهو اقل ما يذكر عن هذه الأسره الكريمه وكنت اتمنى انك ذكرت ولو بقليل من مآثر أمير الخبر عبدالرحمن العيسى لأن هذا الرجل ذو نخوه وكرم عظيم حتى انه توفاه الله مديون من كثرة عطائه وكرمه اللا محدود وقد سدد عنه ابنه صالح جميع ديونه وكان رحمه الله متواضعا حنونا لطيفا جل الخصال الطيبه يمتلكها
    اللهم ارحمهم اجمعين وهب المسيئين منهم للمحسنين وصلى الله وبارك..

    1. أهلا بالعزيز، أشرت لما يخص مقترحك في أواخر المقالة، وخلاصتها أني سأكتب مقالة موسعة تشمل من ذكرت وغيره، بإذن الله.

  2. حقيقه مقال يستدعي الشكر ، الاهتمام بالتاريخ والتراث مهم كيف بالاهتمام بالسير الطيبة لرجالات دولة وأوائل سفراء دولة المملكة العربية السعودية. فكانوا مضرب مثل بالأخلاق والكرم والنخوة. “ليت في نجد منصورين” رحمة الله على الملك عبدالعزيز المؤسس ورحمة الله على الوجهاء السفراء. أشكرك على مقالك الثري والمميز.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)