هذه فتوى الفضاء فمتى القضاء؟
أحدثتْ فتوى الشيخ صالح اللحيدان– حفظه الله- حولَ جوازِ قتلِ المفسدين مِنْ ملاك الفضائيات بعد مقاضاتِهم لأنَّهم نشروا الشركَ والسحرَ والشعوذةَ وبثّوا الفجورَ والمجونَ عبرَ قنواتِهم التي تنجَّسَ منها الغلافُ الجوي -والمشتكى لله وحده -ضجَّةً كبرى. وقدْ طارتْ هذه الفتوى في جميع الأنحاء وصارتْ الخبرَ الأولَ لكثيرٍ مِنْ الوسائل الإعلامية وأخذتْ نصيباً واسعاً مِنْ الشرحِ والتحليل؛ ولا شكَ أنَّ في ذلكَ تأكيدٌ على عِظَمِ الفتوى وأهميةِ العلمِ وعلوِّ كعبِ أهله.
وحيثُ أنَّ الخوضَ في الإفتاءِ شأنُ العلماءِ إذْ لا مكانَ لغيرِ الراسخينَ في العلمِ للحديثِ عَنْ مثلِ هذهِ النوازلِ الخطيرةِ التي قالَ فيها شيخُ القضاةِ وكبيرُ المدافعينَ عَنْ حِمى القضاءِ الشرعي كلمتَه التي اهتزتْ لها قلوبٌ وارتعدتْ منها فرائصُ أقوامٍ باتوا يحسبونَ كلَّ ضوءٍ بارقٍ لمعانَ السيفِ فوقَ مفارقِهم، ولأجلِ ذلكَ فليسَ مِنْ العدلِ ولا مِنْ العقلِ أنْ يُناقشَ هذهِ الفتوى مَنْ كانَ جاهلاً بالعلمِ الشرعي ولوْ كانَ عالماً بغيره؛ وهذهِ بدهيةٌ غائبةٌ مَعْ الأسفِ عندَ التطبيق؛ وإلاَّ فكما يُشنَّعُ على مدَّعي الطبِ فأدعياءُ العلمِ أولى وأحقُّ بالزجر والتوبيخ.
وأول ما يتبادر للذهنِ بخصوصِ هذه الفتوى هو تفاعلُ الإعلامِ معها سلباً وإيجاباً؛ فمِنْ خبرِ الإعلامِ النشرُ المحرَّفُ للفتوى عبرَ مواقعَ وقنواتٍ ينتسبُ بعضها للمملكة وصرفُ الحديثِ عنْ جوهرِ الفتوى إلى مصالحَ وحساباتٍ خاصة؛ وهذا النشرُ جريمةٌ تمسُّ كيانَ الدولةِ في شخصِ أحدِ أهمِ ثلاثِ شخصياتٍ في الحكومة! إضافةً إلى أنَّها إساءةٌ غليظةٌ بحقِّ الشيخِ الجليلِ وتسفيهٌ لوعي المجتمع، ولا ندري متى يلتفتُ المصلحونَ لإعلامِنا الذي باتَ يمارسُ أخطاءً كثيرة تجاهَ بلادِنا الطاهرةِ مرَّةً تلوَ المرَّة؛ وعقوبةُ الأخطاء تنتظرُ-بعدل- أولى الأحلامِ والقدرةِ والنُّهى فهلْ مِنْ مجيب؟
ولا نغادرُ ساحةَ الإعلامِ دونَ الإشارةِ المريرةِ إلى تعاملِ كثيرٍ مِنْ الصحفِ وكتَّابِها مَعْ هذهِ الفتوى مِنْ حيثُ النقل والتحريف والتوظيف؛ وإنَّ المتابعَ لبعضِ صحافتِنا في كثيرٍ مِنْ قضايانا ليظنُّ أنَّ الصحافةَ المحليةَ باتتْ طابوراً خامساً يغرزُ خنجره المسمومَ في خاصرةِ الوطنِ ليمزِّقَ تماسكَه ويقضيَ على سرِّ وحدتِه المتميزة؛ فيا للهِ كيفَ يُتركُ مثلُ هؤلاءِ يعيثونَ فساداً في بيتِنا الكبير؟ ومتى يُعادُ ترتيبُ صحفِنا حتى لا تكونَ صوتاً واحداً يصفُ رأيَ أقليةٍ منكفئةٍ عِنْ همومِ مجتمعِها منكبَّةٍ على أولويات فئوية تخدم البُعداءِ وتضر بالمجتمع.
وللعلماءِ الفضلاءِ الكبراءِ موقفُ صدقٍ وثباتٍ تجاهَ الأحداثِ والمستجدات؛ ولقدْ أضحتْ مشاركةُ العلماءِ الرَّبانينَ في معركةِ الإصلاحِ والتصحيح ضروريةً في هذهِ المرحلة؛ ومِنْ أبجدياتِ هذهِ المشاركةِ التواصلُ الدائمُ مَعْ ولاةِ الأمرِ والتشاورُ مَعْ العلماءِ والمتخصصينَ إضافةً إلى حملِ رايةِ الأمرِ بالمعروفِ والنَّهي عنْ المنكرِ ومقارعةِ المفسدين الشانئين حتى يخنسَ الباطلُ ويعلو الحقُّ والخير. وممَّا يُشارُ إليهِ أهميةُ كونِ الاجتهاداتِ المخالفةِ غيرَ مخذِّلةٍ ولا مرجفة؛ فكلُّ رأيٍ بشريٍ عرضةٌ للصوابِ والخطأِ بيدَ أنَّ رعايةَ حقوقِ أهلِ العلمِ وحفظَ مكانتِهم واجبٌ لا يتعارضُ معْ إبداءِ آراءٍ أخرى؛ فالشغبُ شأنُ البطالينَ والهياجُ ديدنُ الفارغينَ؛ وأهلُ العلمِ وطلابُه أبعدُ الخلقِ عنْ هاتينِ الخُلَّتين.
وتزدادُ المسؤوليةُ على الدولةِ المسلمةِ المحكِّمةِ لشرعِ الله؛ فهذهِ الفضائياتُ مسجلةٌ بأسماءِ مواطنيها وأبنائِها في الغالب؛ وعلماءُ المسلمين الذين ظلوا أوفياءَ للحقِّ عقوداً طويلةً يتعرَّضونَ لحملةٍ لا تعرفُ التوقيرَ أوْ الالتزامَ بالمهنيةِ الإعلامية. وإنَّ السهامَ الطائشةَ التي تساقطتْ مِنْ كلِّ حدَبٍ وصوبٍ على الحسبةِ وتعليمِ البناتِ والفتيا وشؤونِ الحرمينِ والدَّعوةِ وأئمَّةِ المساجدِ وخطباءِ الجمعِ ومؤسساتِ العمل الخيري ثمَّ تجرأتْ على عددٍ مِنْ العلماءِ الكبارِ لتقفَ اليومَ عندَ القضاءِ بنظامهِ وشيوخهِ لمْ يبقَ لها مِنْ شيءٍ تستهدفه سوى هيبةِ الحكمِ إلاَّ إنْ سبقَ الكتابُ وأُخمدتْ نارُ القومِ التي يزداد ضرامها يوماً بعدَ يوم؛ ولا نعلمُ سبباً وجيهاً لحمايةِ الصحفيينَ والإعلاميينَ منْ المثولِ أمامَ القضاءِ الشرعي كما أنَّ كثيراً منْ المراقبينَ ينتظرونَ تدخلَ الدولةِ لحمايةِ العلماءِ الذينَ تستشيرهم وتلتزمُ برأيهم في بعضِ المسائل؛ ولعلَّ فتوى الشيخِ أنْ تكونَ سبباً مباركاً للإصلاح والخير.
وأما عامةُ النَّاسِ فموقنونَ بأثرِ هذهِ الفضائياتِ السيئِ على قلوبِهم وجيوبِهم وعلى مستوى أبنائِهم السلوكي والفكري بالإضافةِ إلى حربِها الصريحةِ على القيمِ النبيلةِ والمعاني الساميةِ مِنْ الحشمةِ والعفافِ واحترامِ الكبيرِ وغيرِ ذلكَ مِنْ الخلالِ الحميدةِ التي ترتضيها الفطرُ السليمةُ وتقبلها الجبلَّةُ العربيةُ الأصيلة، ومعْ وجودِ هذا القدرِ مِنْ الاقتناعِ واليقينِ إلاَّ أنَّ التحركَ العمليَ مِنْ قبلِ أفرادِ المجتمعِ ضعيفٌ للغايةِ إلى درجةِ العجزِ عنْ ترتيبِ مشاهدةِ هذهِ القنواتِ فضلاً عنْ تطهيرِ البيوتِ مِنْ دنسِها؛ وهيَ حالٌ مِنْ حالاتِ الانفصالِ بينَ الفكرةِ والسلوكِ وبينَ التنظيرِ والتطبيقِ التي تعاني منها مجتمعاتُ المسلمين، وهذا لا يمنعُ مِنْ أنْ يُقالَ للنَّاسِ كافَّة: كونوا معْ أولياءِ اللهِ ضدَّ أولياءِ الشيطان.
وفي مجتمعنا المباركِ قياداتٌ فاعلةٌ ومؤثرة؛ كطلابِ العلمِ وأساتذةِ الجامعاتِ والمحتسبينَ والأثرياءِ والوجهاءِ ومعلمي مدارسِ التعليمِ العامِّ إضافةً إلى الخطباءِ وأئمةِ المساجدِ وروادِ العملِ الخيري والاجتماعي والمربينَ والكتَّابِ والمدربينَ وانتهاءً بجمهرةِ المثقفينَ والقراءِ النابهينَ مِنْ الجنسين؛ ومِنْ أمثالِ هؤلاءِ البررةِ ننتظرُ الخيريةَ والبركةَ والريادةَ لمجتمعنا إصلاحاً وتصحيحاً ونصرةً للحقِّ وأهلهِ وتخليصَ أوطاننا مِنْ المجرمين وتعزيزَ مكانةِ الدولةِ في العالمِ الإسلامي قاطبة.
أحمد بن عبد المحسن العسّاف-الرياض
الأربعاء 17 من شهرِ رمضانَ الأغرِّ عام 1429
ahmadalassaf@gmail.com