أسلحة الكاتب!
يتشابه الكاتب والشاعر والقاص والروائي وكتّاب السيناريو والمحتوى في كثير من المدخلات والمصادر وإن اختلفوا في صورة المنتج الأخير؛ ذلك أن سرّ صنعتهم الأعظم يطوف حول اللغة وأسوارها، ثمّ تتبعه أسرار أخرى مثل التفكير، والثقافة، والقيم، وهي ترتبط باللغة؛ فلا مناص إذًا من اللغة وعلومها للأديب لكن ليس بالحدّ الأدنى منها، وإنما بقدر يتجاوز نصيب العامة، حتى وإن لم يصل جهد بعض الكتّاب إلى مستوى علماء اللسان وأرباب الذائقة، فالمهم ألّا يكونوا مثل عامة الناس في إدراكهم اللغوي، وذائقتهم البيانية، وأدائهم فصاحة وبلاغة.
لأجل هذا تواترت وصايا أئمة هذا الفنّ السامي باللغة، حتى قيل إنه ينبغي للناشئ بأن يضع القاموس المحيط للفيروز أبادي بجوار وسادته كي يقرأ منه لو استيقظ خلال رقدته؛ فلا تضيع على شداة الأدب ساعة صحو لهم من غير مكاسب لغوية، ولا عجب أن يُقال ذلك لأن بضاعة الأديب وجيشه وسلاحه كله مكون من حروف وكلمات وتعابير وتراكيب ومعانٍ تأتي جميعها من باب اللغة وتحت سلطانها، وليس بكثير عليها الاستكثار منها الذي لا يصيب بتخمة، ولن يشبع منه ذو نهمة أبدًا.
وللتأكيد على هذا المبدأ أسوق مثالين حاضرين في الذهن، أولهما ينسب لشيخ الأزهر الشيخ سليم البشري-جد المستشار والفقيه القانوني طارق البشري- خلاصته أنه أحصى ألف كلمة من الألفاظ الغريبة الفصيحة التي أحياها أحمد شوقي في شعره، وثانيهما ورد في مؤلَّف استقصائي لمنذر أبو شغرة تتبع فيه الكلمات التي استخدمها محمود شاكر في كتبه وكانت مهجورة أو غير معهودة على الأقلام بله الألسن. ولن نخطئ معرفة سبب هذه القدرة اللغوية على سبيل الجزم أو التخمين القريب من اليقين إذا علمنا أن شوقي وشاكر ممن روي عنهما قراءة لسان العرب كاملًا في بدايات الطلب ومستهل الشباب!
ذلكم اللسان الواسع الواقع في خمسة عشر مجلدًا، وقراءته ليست بالأمر الهيّن وإن لم يكُ مستحيلًا على من عزم ولو بقراءة ثلث ساعة يوميًا منه. وللسان بركة على أدباء وعلماء وكتّاب كثر، فأديب غزير الإنتاج رائق اللغة مثل أحمد تيمور باشا له كتاب لطيف بعنوان تصحيح لسان العرب، ومثله اللغوي المحقق عبدالسلام هارون الذي ألّف كتابًا أسماه تحقيقات وتنبيهات في لسان العرب، ولا جرم أن الرجلين قد جردا اللسان واستحضراه حتى تأهلا للاستدراك عليه، ولم يكن بمقدور هارون أن يبدع في تحقيق تراث الجاحظ لولا بصره بالسان لدرجة تقترب من الإحاطة، ولعلّ المعرفة باللسان مما أسهم في ثراء إرث تيمور الذي كونت لجنة من علماء وأساتذة لجمعه وإعادة نشره، وإن هؤلاء الأعلام الأربعة لمن مفاخر مصر الغالية في عصورها المتأخرة.
ومع أهمية القاموس واللسان، فلتاج العروس مزية فريدة عندما اختصّ بضبط الأعلام وهي خصيصة عري منها اللسان. ولا يقف الأمر عند هذه العناوين فقط؛ فسوف يجد الأديب في المكتبة العربية معاجم لغوية تأخذ بمجامع الألباب عن الغريب والأضداد والمترادف وفقه اللغة مع الألفاظ الكتابية وجواهرها، والمثلثات من الكلمات، ومعجم ما تبقى من الأشياء، ومعجم الكلمات المكونة من حرفين، ومعاجم الأدوات، ولا يمكن إغفال معجم مقاييس اللغة لأحمد بن فارس الذي يمثل ظاهرة تأليفية إبداعية غير مسبوقة، وهو كتاب يمنح المتعامل مع الكلمة بصيرة بحدود معانيها وأطرها، وما أحوج الكاتب والشاعر لتلك المعرفة التي تضبط حراكه المهاري في ملاعبة الكلمة ومداعبتها؛ حتى يزين مقوله، ويوهب رونقًا في العين، وإمتاعًا في الأذن، وثباتًا في ذهن المتلقي، والشيء ذاته يُشار إليه عن كتاب الفروق اللغوية لأبي هلال العسكري؛ ففي استخدام الفروق متعة ومهارة وتخلّص.
وقبل أن نترك باب الألفاظ أشير إلى منفعة جانب من البيان الغائب استخدامه لدى عدد من أرباب الكلمة شعرًا ونثرًا، ويشتمل هذا البيان على طيف عريض من الحكم والأمثال والتراكيب الفصيحة غير المرذولة أو الهجين المختلط بثقافتنا من آثار الترجمة والعجمة. ومع جمال هذا البيان وأهميته، ولمساته الفنية على النصّ، فالحذر واجب على الأدباء من وباء الانحباس في الأفكار والمفاهيم الواردة في هذه المأثورات التي لا ترتبط بنص مقدس، والجمود عليها دونما فحص أو تقليب لمجرد أنها وردت في حكمة جميلة، أو ضمن مثل أنيق، أو عبر تركيب آسر، فما أخطر القوالب الجاهزة والمعلّبة على المعنى والمبنى معًا.
كما أن من أسمى ما يفيد في الأسلوب واللغة وطريقة بناء الفكرة إدامة النظر في الأدب الرفيع نثرًا وشعرًا، فمن النثر يبرز أدب الجاحظ وابن قتيبة وابن الأثير وأبي حيان وابن عبدربه والمبرد والقالي وغيرهم من القدماء، وفي المحدثين محمود شاكر والعقاد والطنطاوي والخضر حسين والبشير الإبراهيمي والطنطاوي وعبدالوهاب عزام والنفاخ والمازني والزيات والطناحي وغيرهم بلا حصر في شرقنا العربي أو غربه. ومما روي عن الرافعي أنه إذا اُستغلق عليه فتح الأغاني أو البيان والتبيين، بينما يفزع العقاد إلى كتب في موضوعات يحبها مثل الحشرات، ولكل إنسان تفضيلاته وما يهزه ويحركه.
أما الشعراء ففي الشعر الجاهلي والمعلقات غناء كبير، ومع ذلك فلن ينجو الأديب من جاذبية المتنبي والمعري والبحتري وأبي تمام وجرير وسواهم من شعراء العربية إلى عصر الاحتجاج فمن بعدهم من البارزين، ولربما أن مداومة مطالعة المفضليات والأصمعيات والحماسة وطبقات الفحول لابن سلام، والشعر والشعراء لابن قتيبة، سينفع الكاتب والشاعر كثيرًا. ومن الحديث تتصدر مختارات البارودي، وجهود عارف حجاوي الشعرية، ولا يناسب تجاهل ما كتبه أدباء مفكرون وعلماء محققون عن ديوان المتنبي مثلًا؛ ففيه غزارة دافقة ومعين نمير، ومورد عذب لمن صاحب الكلمة.
والشيء بالشيء يذكر، ففي بعض الآداب الأجنبية الآسيوية والإفريقية والأوروبية والأمريكية مالا يحسن تجاوزه شريطة ألّا يطغى على لساننا العربي، وألّا نتقاصر أمامه حضاريًا أو ثقافيًا، وما أجمل تراث القوم وأرقاه في كثير من مناحيه، خاصة في الأدب الإفريقي الذي يتململ من السيطرة الأجنبية، أو في كتابات آسيوية تغرف من حضارة الهند أو الصين أو اليابان، وفي التنويع إخصاب للذهن، وشحذ للبديهة، وتنشيط للإبداع.
فإذا ضبط الكاتب والشاعر ما سبق فلا محيد له من تطهير بيانه وترقيته بمدّ حبل صلة متين لا ينقطع مع القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة تعبدًا فهذا هو الواجب قبل كلّ شيء، ثمّ للاقتباس من سموها اللغوي الذي لا يُدانى في المفردات والتراكيب والأساليب دون أن يكون في الاقتباس أو التضمين ما يشير إلى خلاف الإجلال والأدب-حاشا أهل الأدب- لكلمات مستقاة من مصدر مقدس لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فالآيات والأحاديث ليستا مجالًا للعبث أيًا كان، والله يعيذنا من تزيين الشيطان وإجلاب الشياطين.
عقب ذلك يديم رفيق القلم الكتابة كما يجيد ويهوى، ويواصل الشاعر نظمه حسبما يروق له، ففي الزمن القديم قال حبر الأمة ابن عباس عن الشاعر الغزِل عمر بن أبي ربيعة انبهارًا بقصيدته الرائية “أمن آل نعم” بعد عدّة تجارب دونها: مازال هذا الفتى القرشي يهذي حتى قال شعرًا! ومن أدمن طرق الأبواب وتكرار المحاولات فسوف يصل ويحقق مراده بإذن الله، وإن أكبر ضرر يصيب الأديب هو النكوص الباكر، والانقطاع من أول عثرة أو عقبة أو نقد، والاستعجال الذي تزيد من ناره الشهرة الفاتنة، والأجمل به والأجدى له أن يكون صبورًا متأنيًا مع الكلمة قارئًا ومفكرًا وكاتبًا لدرجة تقارب الوله والعشق.
أما التفكير والمعرفة والثقافة، فمطالب ركينة لأيّ عمل كتابي لا يمكن الاستغناء عنها أو الاكتفاء منها بحسوة عجلان، فأيّ مبدع تبرق الفكرة في ذهنه ثمّ ينقل تلك البوارق اللامعة الخادعة من فوره لورقته أو إلى لوحة الحروف في جهازه دون أن يطحنها في دماغه طحنًا، ثمّ يخلطها بأسسه الفكرية خلطًا، ويعرضها على مسلماته الحضارية، ويضع على الناتج من تلك العمليات لمساته وشيئًا من روحه ونفسه وذائقته؛ فقد تكون حصيلة عمله لا شيء، ولربما أنه قضى على تاريخه الكتابي بالموات المبكر، أو الشلل الطويل.
وكم من مرة ومرة اضطر الكاتب لأجل تحقيق سلامة فكرته وحماية تاريخه الإبداعي من أن يصاب بمقتل لقراءة غير مجدولة جاءت تسعى فجاءة متمكنة بقوة قانون الضرورة أو لزوم الحال. وعلى أيّ حال فالقراءة المنهجية والمنضبطة للكاتب والشاعر أساسية، فإذا اقترب من مغادرة منطقة الجوع الثقافي والمسغبة المعرفية فربما يجوز له إذ ذاك أن يغدو مثل الفراشة ينتقل من كتاب لآخر، وفي أحوال التحرر من هاجس الكتابة يطيل المكث مع كتاب؛ فليس يقرؤه فقط، وإنما يضمه ويلثمه حتى يستخرج منه اللباب، ويفيء من عناقه بعطره الذي لا يزول، وطعمه الذي لا يُنسى. وإن ميدان القراءة لفسيح أمام الأديب، وسوف تسعفه كتب المعاجم والمصطلحات والتعاريف والموسوعات والخلاصات والمداخل، مع أهمية النظر العميق في مؤلفات أصحاب التخصص لتصبح النتيجة على قدر النصب.
فإذا فعل الأديب ذلك، فليبشر بأسلوب خاص به، له مذاقه وطعمه ولونه ورائحته، فكما انفرد بهيئة وصوت وممشى وطريقة في شؤونه الحياتية دون أن يقلد غيره متعمدًا، فهكذا سيكون شأنه الكتابي المتفرد، وهي الصورة المبتغاة من كل ما مضى من جهود في القراءة، والبحث، وإعمال التفكير، ومعاودة النظر في المراجع على اختلافها، إضافة إلى الحوار والسماع والمشافهة، وعلى مقاس البذل والتعب سيأتي الحصاد والثمر، وبالنية الحسنة المترافقة مع هذه الجهود العلمية سينال المرء نصيبه الوافر بفضل الله وكرمه.
أشير قبيل النهاية إلى أمرين هما الغاية في الأهمية بالنسبة للأديب أيًا كان مجاله الكتابي شعرًا أو نثرًا، أولهما ضرورة حفظ النصوص والاستشهادات والكلمات؛ فمن أدام حفظ السامي من الكلام في لفظه ومعناه وحكمته أوشك أن يقول مثله أو أحسن، والحفظ أساس من أساسات العلم، وهو من أسباب الفهم وليس من أضداده أو قسيمًا له ضمن ثنائية قبيحة منحصرة في بعض الأذهان. والثاني هو أن موقف الأديب من العلوم والكتب ينقسم إلى صنفين ما بين إلمام وإحاطة شبه تامة، أو أُنس بالكتاب والحقل العلمي ومعرفة به على الأقل، وبهذين الأمرين يمتلك الأديب أقوى الأدوات وأكمل العدد في صنعته الروحية العظيمة.
وبعد هذا العكوف في محراب اللغة، والسباحة في محيط القراءة، ومعاناة محنة الكتابة وألمها، لا مناص للأديب من امتلاك قوة القلب للنشر والظهور، وزيادة طاقة التحمل لأيّ نقد منصف فما سواه، لأن ذائقة الناس تختلف، ومواقفهم من مالك النص قد تصدر بناء على حكم شخصي لا يستند لبرهان من عقل أو آثارة من علم، ومن عرف طبائع البشر ونوازعهم فلن يستكثر عليهم العجلة والظلم وسوء الظن والحسد، وهو أشدّ ما يكون في أهل كلّ مضمار وإن كانوا في خاصة أنفسهم من أنبل العلماء وألطف الأدباء.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الاثنين 23 من شهرِ جمادى الأولى عام 1443
27 من شهر ديسمبر عام 2021م