سير وأعلام عرض كتاب

صالح بن ناصر الصالح وسيرة رائد

صالح بن ناصر الصالح وسيرة رائد

في كلّ الحضارات والدول أشخاص يصعب حصرهم في نطاق، ويصدق هذا الوصف على أولئك العظماء الذين تجاوزوا حظوظ النفس لما هو أسمى، حتى غدا الواحد منهم أشبه بكيان وقفي يمشي على الأرض وهو حي يعاصره الناس مشاهدة وشهودًا، ثمّ ينتصب مثالًا شامخًا لذوي البصائر عقب ترحله عن الدنيا ليصبح درسًا يُقتبس، وحنانًا يؤوى إلى ذكراه العاطرة. وفي أمتنا نماذج باهرة، فنور الدين زنكي أوقف حياته لأجل القدس، وقصر ابن تيمية أنفاسه على العلم والتأليف، وصرم الخطابي والقسام والمختار أعمارهم في سبيل المقاومة المقدسة، وأحيا البارودي الشعر الجميل، وحرس محمود شاكر التراث والعربية، والأمثلة بحمد الله كثيرة، ولن تخلو أرضنا وأزمنتنا من هؤلاء البررة الميامين العاكفين في محاريب المجد والسؤدد بأنواعها.

وهذه الشخصية النبيلة البهية منهم بإذن الله، أقول ذلك بعد أن قرأت عنه فيما مضى، ثمّ طالعت كتابًا جديدًا بعنوان: صالح بن ناصر الصالح: سيرة وريادة، (عنيزة 1322-1400)، رائد النهضة التعليمية الحديثة بعنيزة، تأليف: خالد بن سليمان بن علي الخويطر، وقد صدرت الطبعة الأولى منه بحجم كبير عام (1443)، وتقع في (531) صفحة. وطبع الكتاب على نفقة عبدالرحمن بن عبدالمحسن الصالح -الذي راجع النص أيضًا-، وبندر بن عثمان الصالح، فلهما الشكر على برهما بعمهما وأبويهما وأسرتهما العريقة، وعلى إحسانهما لأهل التعليم ولتاريخ البلاد.

يتكون الكتاب من ملخص لحياة الأستاذ الشيخ، وقصيدة فيه كتبها نجله الشاعر أحمد “مسافر”، ثمّ شكر وعرفان فاستهلال ومقدمة، ويتلو المقدمة أربعة عشر فصلًا، يعقبها ملاحق النصوص فقائمة بالمصادر والمراجع، وأخيرًا ملاحق الصور والوثائق والرسائل التي استهلكت أكثر من مئتي صفحة بقليل، مما يدل على أهمية وفرادة بعض ما فيها من صور ووثائق، ولذلك فليس بكثير حين خصّ المؤلف المؤرخ أسرة صاحب الترجمة بالثناء والشكر على تعاونها.

من حسنات الكتاب -ضمن حسنات كثيرة- حديثه عن شقيق الشيخ وتوأمه وزميله في العمل وشريكه في المسكن ثمّ جاره وعديله، أعني شقيقه الشاعر الشهم المربي عبدالمحسن بن ناصر الصالح (1322-1414). ومنها نسبة فضل التشجيع والمؤازرة المبكرة للشيخ المربي كي يفتتح المدرسة لأناس فضلاء من أهل عنيزة ينتمون لأسر الجفالي والزامل وغيرهم. ومن جماليات الكتاب إبراز مواهب الرجل في الخط والخطابة، والرياضيات، وسرعة الفهم، والحس التربوي، واحتواء الآخرين، والبعد عن المشاحنة والمخاشنة والشقاق، وإبصار المستقبل، والنصح للناشئة والبلد، ولعمركم إن المعروف لا يضيع.

كما تتبع المؤلف سيرة الأستاذ المربي في ميلاده وانتقالاته المحلية والإقليمية، ولاحظه وهو يكتسب خبراته في التعليم متعلمًا ومعلمًا إن في المجمعة أو عنيزة أو الزُّبير أو على ضفاف الخليج في الكويت والبحرين ودبي على خلاف لا يضر في التقديم والتأخير وأسماء المدارس. وسردت السيرة المطولة أسماء معلميه وزملائه ثم أوائل طلاب مدرسة ابن صالح، وأضحى منهم لاحقًا رموز من رجالات المجتمع، ووجوه بارزة في الشأن المحلي التعليمي أو الثقافي أو التجاري أو الحكومي، بفضل الله ثمّ بجهود رجل نذر نفسه للتعليم والتنوير والتوعية.

ولم يغب عن همة الباحث استقصاء المقرات المستأجرة ثمّ الحكومية التي حلت فيها المدرسة وهي أهلية أو رسمية، مع إحصاء الوسائل التعليمية المبتكرة التي استعملها ابن صالح دون عهد سالف في نجد مثل السبورة، والطباشير، والأقلام، والكرة، واستخدام ساعة التنبيه بديلًا عن الصافرة، هذا غير بيان بعض المواد الدراسية الجديدة مثل الرياضيات والبلدان ومسك الدفاتر واللغة الإنجليزية والإنشاء، وحصر الأنشطة المدرسية الرياضية، والخطابية، والمسرحية، والتمثيلية، والصحفية، التي اشتهرت بها مدرسة ابن صالح، وانتظرها المجتمع بلهفة، واُستقبل بها الملوك والأمراء والوفود الزائرة من حجيج ومسؤولي تعليم وسواهم.

كذلك وقفنا من خلال هذا الكتاب على اليوم الدراسي، ومفردات المنهج، ونماذج من الخطوط، وبعض الكتب المرجعية. وعرفنا منهجية بثّ خبر المدرسة بين الأهالي، والتحشيد المجتمعي الذي سبق افتتاحها لضمان التأييد، وأخبرنا المؤلف بمنهج علمي رزين عمّا تعرضت له المدرسة وبعض شؤونها من معارضة طبيعية، وكيف تعامل معها المربي وأمراء عنيزة، ورؤوس المجتمع، هذا غير أن الأستاذ يترك أبواب مدرسته مشرعة لمن شاء النظر والسماع؛ إذ لا شيء حقيق بالإخفاء، وفي فتح الباب دعاية وتشويق وتطمين لمن يسمع ويرى صدفة أو رقابة.

أيضًا رصد الكتاب أعداد الطلبة، ومستوياتهم، وتقسيمهم، وما نالوه من مكافآت، وبعض المواقف الطريفة التي حدثت للمدرسة وطلابها من الجيران أو عامة الناس. واطلعنا الأستاذ الخويطر على نصوص خطابية ومسرحية مثل مسرحية كتبها الطبيب الأديب حمد البسام عاقدًا المناظرة بين الشاي والدارسين، ورأينا من خلال السيرة مقتبسات الأستاذ المربي من نصوص أدباء عرب ومن كتب إقليمية أخرى، وفهمنا كيف تصرف في بعضها كي تناسب عقول الطلاب، وتتوافق مع أعراف المجتمع، وحتى لا تخدش دينًا ثابتًا أو عرفًا سليمًا، ومن أراد الإصلاح أبصر دروبه ولو بين الأشواك أو في سكة الوحوش!

ومن بدائع فوائد الكتاب دراسة أسلوب ابن صالح في الكتابة والشعر، وتحليل أسلوبه التدريسي واستخدامه لطرق ليست من جنس النمط السائد، فمنها استعمال التغذية الراجعة، واستحثاث الطلاب على المشاركة وإبداء الرأي وعرض ما فهموه، ومنها تطبيق نظام يشبه الإعادة في الجامعات فكم من خريج في المدرسة صار معلمًا فيها، وربما قبل ذلك مارس كبار الطلاب التدريس لزملائهم الصغار. أيضًا من الأساليب التعلم مع الأقران، وكتابة الدروس في الدفاتر، والإثراء المعرفي بما يتجاوز المنهج ومحتواه، والتعليم المستمر للطلاب والمجتمع وفتح فصول تقوية ومحو أمية، إضافة إلى إبداعه في الطوابير الصباحية والمسائية، والتمارين السويدية، والثقافة الصحية، وأنواع الاختبارات، والحفلات الختامية.

ثمّ إن وجود مؤيدين للمدرسة وهي فكرة ومع إطلالتها الأولى، ووجود معارضين أو متوجسين في تلك الحقبة؛ لدليل على نباهة الرجل واعتراف له بالنبوغ والأهلية، كما أن تحويلها إلى مدرسة حكومية فيما بعد شهادة لها بالتميز، ووقوف سروات أهل عنيزة معها علامة على نجاحها. وفي استعراض أسماء الدارسين والمتخرجين فيها ما يؤكد على قوة المدرسة في منهجها ومعلميها ونظامها ومتابعتها، ويبقى الأمر الأجلّ والأسنى هو ذلكم الوفاء اللافت من طلبة المدرسة لشيخهم في محياه، وعقب مماته، ويظهر هذا جليًا فيما كتبوه، وفي إنشاء مركز ابن صالح، وإطلاق اسمه على مواضع ومنشآت، واعترافهم بفضله وتوريث محبته وتقديره لأجيالهم.

ولدي يقين يزداد يقينًا بأن الأستاذ الشيخ صالح بن صالح لم يكن معلمًا فقط، أو مديرًا لمدرسته، أو مشرفًا على التعليم في بلدته ومرجعها الأول شعبيًا ورسميًا، بل كان أكبر من ذلك؛ فهو للتلاميذ أستاذ وشيخ ومربٍّ وأب حنون حادب ناصح أفنى زهرة شبابه وفوت متع الحياة من أجل تعليمهم، وهو لأقرانه الصديق المثقِّف من خلال اللغة والأدب وإتاحة عامة معارفه، ثمّ وفقه الله بأن منح الفرصة لأي مؤهل كي يكون شريكًا في مسيرة التعليم الخالدة ولم يحجبها لنفسه، والشأن الأعظم أنه بقي في ذاكرة عنيزة وأجيالها ناشرًا للوعي والثقافة، منيرًا للعقول والأفهام، موقظًا للقرائح والبصائر، وحجز دون قصد لاسمه وسيرته موقعًا سنيًا في مصاف قضاتها، وأحبارها، وأكابر أشياخ العلم والإمارة والوعي من أهلها.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

 ahmalassaf@

الخميس 27 من شهرِ ربيع الآخر عام 1443

02 من شهر ديسمبر عام 2021م

Please follow and like us:

One Comment

  1. وصل التعليق أدناه عبر الواتساب:
    جزاك الله كل خير أخي العزيز..كأنما نذرت نفسك للكلمة الطيبة وتقدير المخلصين مهما تطاول الزمن ونأوا عن الذاكرة وكأنك تعرفهم دون أن تلتقيهم أو تتواصل معهم
    دمت مِقوَل حق ولسان صدق وبناناً يزرع البيان الجميل ويستنبت الوفاء الأصيل ويزكو بعبق أزمنةٍ تسكن ذاكرة المتأملين وإن غابت عن مسرح المبصرين
    تفضل بقبول أعمق التقدير وصادق الود من آل المعلم الراحل ومحبيه.
    عبدالرحمن عبدالمحسن الصالح

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)