علاج بمذاق أمريكي!
من الحكمة المحفوظة المروية المجربة نعلم يقينًا أن السكوت عن الباطل يميته أو يقلل من فرص ظهوره على الأقل، ومما قرأنا وسمعنا وعايشنا نجزم بأن طلب الشهرة بلاء مركوز في غالب نفوس الناس، فهو داء مثل ذئب جائع ينهش الدين والمروءة نهشًا نهشًا وليس مجرد ثلم أو قضم والله يحمينا. ولم يقف الأمر عن حد تطلّب الشهرة بالحق والمواهب والقدرات المتحققة أو المدعاة، بل زاد الأمر إلى ابتغائها بالفحش والبذاءة والعري والفجور والشذوذ والكبائر والإلحاد، وصنع مالا يليق بعاقل، ولا يقبل من مؤمن أو مسلم، ولا يرتضيه ذو مروءة، ولا يتطابق مع مقتضيات الانتساب لأسرة عريقة، وليس فيه بر بأبوين ولا إحسان لأخوات وإخوة.
ولدي ظنٌّ يبلغ مرتبة اليقين بأن منشأ هذه الانحرافات يرجع إلى خلل في النفس، أو اضطراب في العقل، أو سوء في التربية، أو حنق متراكم على المجتمع، أو يكون الفاعل الجريء مدفوعًا لتحقيق أغراض سيقت لأجلها أثمان باهظة، وقلّما يكون نتيجة تفوق حقيقي في شيء يُفتخر بمثله، ولا يعني ذلك أن هذا الحكم عام بل هو أغلبي فيما أعتقد. ولو عدنا لتتبع مصير قسم من أهل الفنون الخادشة للحياء وهم على ما فيهم من أخطاء خير من غثاء بعض المشاهير والمشهورات، لوجدنا أن عاقبتهم آلت إلى انتحار أو نهاية مريبة، أو عزلة بائسة طويلة، أو مرض مقعد بسبب تعاطي المحرمات على أنواعها، وأحسنهم مصيرًا من تاب وأقلع سواء جاهر بأوبته أو سكت عنها اتقاء للأشرار وما أعظم كيدهم النافذ بسلطان.
بناء على ذلك أسوق هاتين القصتين، إذ سبق لي قراءتهما في كتابين نسيتهما الآن؛ لكني أذكر أن أحدهما ممزق ليس له غلاف ووجدته صدفة أيام الطفولة. تخصّ القصة الأولى رجلًا أمريكيًا، والثانية عن شاب مصري، وقدمت الأمريكي لأن المعنى فيها أعمق، وعهدي بها أقرب، إضافة إلى أن الفتنة بالأمريكي وأمريكا تجعل للكلام جاذبية، وتنشرح له صدور فئام تشمئز من الفكرة ذاتها لو جاءت من الفتى العربي المسلم، مع أن مصر وأهلها وترابها أحب وأغلى من أمريكا؛ عندي على الأقل.
تقول الحكاية الأولى بأن سجن إحدى المدن الأمريكية يعاني نهاية كل أسبوع من اكتظاظ المراهقين من طلبة الثانوية والجامعة فيه لدرجة الازدحام الخانق أحيانًا، ويقضي أولئك الأغرار ختام الأسبوع في السجن ثمّ يخرجوا منه وربما قفل بعضهم بعد مدة تطول أو تقصر للسجن كرة أخرى، ولم يستطع مسؤولو السجن حلّ هذه المشكلة أو فكّ لغزها، وربما أنهم لم يريدوا ذلك من الأساس، فبعض المسؤولين مصاب بما يحجب عنه الأهلية أو ينقصها.
وعندما تغيّر مدير السجن لاحظ المدير الجديد هذه البليّة؛ فعزم على بترها واجتثاثها من أصولها، ولبلوغ هذه الغاية حمل على عاتقه مهمة تحقيقها دون إيكالها لأحد أو الاتكاء على التقارير وما أعظم التزويق والتزوير في التقارير! ولأجل هذا طاف في المدارس الثانوية والكليات داخل بلدتهم الصغيرة، واكتشف أن الطالب حينما يعود من السجن إلى مدرسته أو جامعته يمشي بين زملائه متبخترًا شامخ الرأس والمناخر، ويعلن باستخفاف أنه أمضى عطلة الأسبوع في السجن، فيتصايح زملاؤه بما معناه يا لك من رجل! ولربما لفت إليه أنظار الصبايا الحسناوات بالإعجاب والانقياد لسطوته وقدرته على التحمل ومقارعة الخطوب.
فرجع المدير من فوره إلى إدارة السجن، وأصدر قرارًا ملزمًا نافذًا ناجزًا غير مرجأ ولا متراخى في تطبيقه، وخلاصة القرار حصر طعام السجناء نهاية كل أسبوع بوجبات من طعام الأطفال “السيرلاك” الذي تعطيه الأمهات لمواليدهن في الشهر الرابع أو الخامس؛ كي يناقض مقصود الطلبة، ويعاملهم بعكس مرادهم وضدّه! وهكذا أكل أول وفد من المراهقين السجناء طعام الأطفال في الفطور والغداء والعشاء، وبعد خروجهم عزموا على كتم هذه الفضيحة، مع الحرص على ألّا يعودوا إلى مثل هذه السُّبة!
ثمّ تسامع مجتمع المراهقين بهذه الطريقة عقب أسابيع من وقوع بعضهم في شراكها وانتشار الخبر الذي لم يعد سرًا، فانتهى الجميع عن استحداث المشكلات واجتراحها بهدف أن يدخل الواحد منهم إلى السجن ويفتخر عند رفاقه كما هو حالهم السابق، بل صار بعضهم يمشي خفيض الهامة مطأطئ الرأس؛ وهو يشعر بهمز من الزملاء ولمز وهمسات مفادها لقد أكل هذا من “السيرلاك”، ولاشك بأن وقع التهامس المستظرف من أفواه الزميلات على قلوب وآذان أولئك المراهقين أشد مضاضة وأنكى وقعًا.
أما قصة الشاب المصري فخلاصتها أن طالبًا التحق بكلية الآداب في جامعة القاهرة التي كانت تسمى كلية الكعب العالي، فأراد لفت نظر زملائه وزميلاته على وجه الخصوص، والتزم بوجه مكفهر كئيب على الدوام، ولباس غير أنيق ولا مناسب لطالب في أروقة الجامعة، مع إهمال منظره وشعره المنكوش المنفوش، والانكفاء وحيدًا في زاوية وهو صامت عبوس، وكان المسكين يحدّث نفسه بأحلام يقظة مضمونها أن الزملاء والزميلات يتداولون الآراء عنه بأنه المفكر والفيلسوف والمنظر!
وبعد أربع سنوات من الدراسة، وقبيل التخرج في الجامعة وتفرق زملاء الدفعة، أقبلت إليه شابة هيفاء لتكلمه، فطار قلبه فرحًا وتوقع أن خطته أثمرت مع نهاية سني الدراسة، بيد أن الزميلة رشقته بكلمات وقصفته بحقائق أزعجته؛ إذ قالت له ما معناه: نحن كلنا في حزن لأجلك بسبب ما تعانيه من أحزان ومصائب؛ لأنه يشيع بيننا أنك فقير معدم، وقد مات جميع أهلك، وتكاثرت عليك الأمراض، بل إن البعض يزعم بأنك تعاني من اعتلال نفسي عميق! وحينها أدرك المسكين فقط أن تصومعه ودعواه العريضة ارتدت عليه بسوء لا يمحى خلافًا لمطمعه.
قبل الختام أود التأكيد على أن الخطأ واقع من جميع البشر مهما تحرزوا وتحرجوا، وليست المشكلة في الخطائين وخيرهم التوابون، وإنما البلاء كل البلاء في ذلكم النزق والنزوع نحو المخالفة والمجاهرة والاستعلان الفج بالخبث والمنكر، والبحث عن أتباع صغار يتخذون “المهرج” قدوة ونموذجًا بما يرتكبه من سماجة. كما أن المقالة بأسرها لا تغضّ من شأن الإصلاح والاحتساب، وغاية ما هنالك أنها تدعو للبصيرة قبل الإقدام، وتتمنى أن تزاحم الإيجابية الشرور، ويقضي التغافل على الخبل والاستهبال الذي تعاظمت مظاهره، وزكمت الأنوف خبائث روائحه.
وعليه فقد نرى الأعاجيب ونسمعها ونقرؤها، ومن خير سبل التفاعل معها صرف النظر عنها كليّة، وهجر نشرها بأي وسيلة قدر المستطاع، وتداول الرأي برغبة أكثرية الوالغين فيها بالشهرة والانتشار ولو بشر حال وقبح مقال أو فعال. ومن التجاوب الحميد مع هذه النازلة إيقاف الناشئة والشباب على حقيقة لبابها أن هذه التصرفات تنبع في الغالب من مشكلة وتشير إليها، ومع أن السواء النفسي التام قضية قد تكون صعبة للغاية، إلّا أن الانكسار الداخلي والهزيمة الذاتية فيمن يصنعون هذه الترهات لا تخفى على من يعرفهم في خاصة أنفسهم، ولو استبانت حياتهم الخفية لكان في بؤسها ومآسيها ما يردع عن الاقتداء بهم؛ هذا غير الارتداع المأمول بقوة السلطان، وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع توخي الحكمة في الأمر والنهي المطلوب من الكافة.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الخميس 20 من شهرِ ربيع الآخر عام 1443
25 من شهر نوفمبر عام 2021م
6 Comments
للأسف هذا واقع مرير ، عندما كان يخص المجتمعات الغربية كان الأمر يبدو عادي ، لكن توسع وانتشر في المجتمع الإسلامي ، مما يجعلنا نقلق ونخا ف على مستقبلنا ومستقبل أولادنا.ماهو الحل؟
الله يلهمنا الصواب بتقوية جبهتنا الداخلية بالتربية الإيمانية والفكرية.
الكاتب الفاضل احمد . جزاك الله خيرا كما عودتنا ترفد قرائك بمقالتك الهادفة النافعة لكل زمان ومكان . واعطائك الحل السليم للمشكلة . وهو تقوية جبهتتنا الداخلية المقصود الاهل بالتربية الايمانية والفكرية . وهو دور اساسي للوالد والام . اضاعف الجهد على الام لان الام مربية بالفطرة . حتى وان لم تكن متعلمة ؟فلقد ربت امهاتنا وجداتنا اجيالا بفطرتها السلية
هذا صحيح سلمك الله ورحم الأمهات
فعلاً ما تطرقت له
و اعتقد ايضاً أن الأمر يحتاج الى قيود صارمه لمن هم على شاكلتهم
فالجهة المسؤولة عن تنظيم (وسائل التواصل الإجتماعي والتي هي سبب شهرتهم) لابد ان تنظم ذلك و تراقب المحتوى و تتفاعل مع الشكاوي ضد هذه الفئة وتصدر العقوبات (واعتقد انها وزارة الاعلام)
جزيت خيرا استاذنا
عسى أن يكون، ولكم الشكر.