سير وأعلام

راسبوتين: راهب القصر المشؤوم

راسبوتين: راهب القصر المشؤوم

في تاريخ الدول والحضارات شخصيات قلقة ومتحولة ومثيرة للجدل والاختلاف، نجدهم في مواقع سياسية ودينية وفكرية وتجارية ومهنية، ولربما تداخلت الشخصية القلقة مع عدة مجالات. ويحيط بغالب هذه الشخصيات ضباب كثيف من الأسرار والغموض والتكهنات إبان حضورهم على مسرح الحياة وعقب الرحيل الفجائي أو الطبيعي. والقول فيهم محتمل ذات اليمين وذات الشمال، ولذلك ففيهم حجة لمن رام المدح والتقديس حتى يجعلهم من الرموز، والمخلصين، والشهداء، أو أراد المساس بهم بالقدح والتدنيس فهم عنده صورة إبليس، ومصدر الشرور، وسبب النكسات، ولا غرابة فوق ذلك لو تعرضت بعض هذه الشخصيات لإنكار وجودها من الأساس.

من هؤلاء الراهب الروسي “غريغوري راسبوتين” (22 يناير 1869 – 16 ديسمبر 1916م)، الذي ولد في قرية صغيرة وبيئة فلاحية، وانصبغت نفسيته بالجهل والتمرد، وبعد معاقرة للآثام، وولوغ في مستنقعات الجرائم، والتصاق بالفجور والقبائح، اختفى من قريته ليظهر قديسًا صاحب كرامات ورؤى في سانت بطرسبرغ، ويدلف متمكنًا إلى قلعة القيصر “نيكولاس رومانوف” وزوجته الإمبراطورة ” ألكسندرا فيدوروفنا”، عقب تزكية رجال دين وراهبات سود، فيغدو ليس مجرد واعظ أو راهب أو معالج لوريث الحكم المصاب بمرض دموي خطير، بل ذا تأثير وتوجيه ورأي في الشؤون العظمى الداخلي منها والخارجي؛ إذ يقرب من يواليه ويستوزره، ويبعد من يعانده ويخلعه، ولا يوقر أحدًا حتى من أقارب القيصر الذي تعرّف إلى الكاهن في اليوم الرابع عشر من شهر نوفمبر عام (1905م).

هذا القيصر “نيكولاس رومانوف” الذي تولى السلطة عام (1894م)، وكان يشعر باشمئزاز إذا سمع كلمة مثقفين، واشتهرت عنه صفات ذهنية وجسدية تتلخص في نقص الكفاءة واختلال القدرات، مع صعوبة تمييز تعابير وجهه في الغضب والرضا. أما زوجته الإمبراطورة “ألكسندرا فيدوروفنا” فهي حفيدة الملكة فكتوريا، ويكرهها الشعب الروسي لأن أصولها ألمانية، إضافة إلى شهرتها بالمؤامرات واحتقار الجماهير، وقد وصفها السفير الفرنسي بقوله: “قلق معنوي، حزن دائم، تفكير بالقوى الخفية والخرافات، سذاجة ورغبة مبهمة”.

حظي “راسبوتين” بكاريزما وجاذبية لا يستهان بهما، وتمتع بملَكَة خطابية لافتة مع قدرات خارقة عجيبة، ولذا ظفر بصلاحيات استثنائية ونفوذ واسع؛ وصار المستشار المؤتمن للإمبراطورة التي أحال لها زوجها القيصر تدبير إدارة الدولة خلال انشغاله بالحروب. وفيما بعد أصبح الذين تقبلوا وجود الراهب أول الأمر في البلاط يشعرون بالاستياء من غروره، والغيرة من علو مكانته، والحقد على صعوده من فلاح مهين إلى عضو أساسي في الحكومة بلا مسمى، ويضجرون مما يشاع عبر حكايات ورسومات عن علاقته بزوجة القيصر، تلك العلاقات التي وجدت من ينفيها، ولقيت من يثبتها لافتضاح عربدة الكاهن نسويًا أولًا، وبسبب أعمال الإمبراطورة ثانيًا.

فهي لم تقصر في تغذية تلك الشكوك لافتتانها بالراهب الموهوب صاحب القدرة العلاجية مع البراعة في حبك الرؤى، ومن انقيادها له أن خصصت موعدًا ثابتًا تخلو فيه معه بالقصر، ولم تقف عند هذا الحدّ بل إنها تشجع زوجها القيصر على اتخاذ قرارات سياسية وعسكرية بناء على رؤى الكاهن! وتأخذ مشط الراهب ليستخدمه القيصر قبل اجتماعاته فيفوز بالنصر! وترسل لزوجها فتاتا من خبز “راسبوتين” ليأكل منه وتحلّ فيه البركة، والمسكين يطيع ويفعل! وكم كان للمرأة عبر التاريخ من آثار سلبية حين أسهمت في القضاء على تاريخ أسر تجارة وزعامة ووجاهة، وإن الأسر العريقة لتصون أمجادها، وإن كرائم النساء لراجحات عقل يعرفن حدودهن ولا يتجاوزن الخطوط الحمر، ولا يخضن في أمر ليس لهنّ به دراية أو خبرة.

وأصبح “راسبوتين” مستشار الإمبراطورة وأقرب الأشخاص إليها، وله تأثير قوي جداً على البلاط دون أن يجرؤ أحد على معارضته، ومن سيطرته أن غدا يشرف على استقبال ما يرسله القيصر من الجبهة؛ ثمّ يكيل له النصائح في رسائل على لسان الإمبراطورة. ثم صار نفوذه بتتابع الأيام واضحاً مع عجز أي فرد من أسرة “رومانوف” الحاكمة عن منعه أو تحجيمه فضلًا عن إقصائه أو عقابه على تعامله مع النبلاء بلا أدب أو لباقة؛ لأنهم يعلمون أثره العميق على القيصر والإمبراطورة، وحاجتهم الشديدة إليه من أجل علاج وريث العرش المريض. وبسبب هذا الوضع عُرفت مدينة سانت بطرسبرغ باسم “مدينة إبليس”، وشعرت القوى السياسية أن مستقبل روسيا أصبح تحت إمرة “راسبوتين” ذلكم الراهب الغامض الذي يقود البلاد إلى مستقبل مجهول.

ولأن “راسبوتين” مجرد كاهن يحمل حقيبة فيها أقنعة عديدة حسب الأحوال، وهو في طبائعه أقرب للعربدة مع النساء والخمور والمغريات كافة، فما أبعده عن أن يكون رجل دولة مؤتمن على مصلحة عليا أو عامة؛ لأجل هذا كله ضجر منه النبلاء والوزراء والقادة العسكريون وكل مخلص قريب من القصر أو بعيد عنه، وتشابكت مصالح هؤلاء الفرقاء مجتمعة على النفور منه وبغضه لاحتكاره المنافع، ولتخبطه في الأمور المهمة والمصيرية، وخوفهم على بلادهم من قوى الظلام التي تحوم حول العرش وتنسج شباكها عليه فتحجب عنه رؤية الخارج، وتحرمه من دخول الأضواء إليه.

من خزاياه العملية مثلًا أن أتى بأشخاص غير ذوي كفاءة للمناصب الكبرى في الحكومة، وعزل ذوي الأهلية والاستحقاق، وتدخل دون خبرة في قرارات السلم والحرب. ومع تعاظم الكراهية لهذا الراهب بين أفراد المجتمع الحاكم انهارت مكانة القيصر “نيكولاس” وسقط توقيره في النفوس حتى ألقى “ميليوكوف” مداخلة تاريخية في مجلس “الدوما” خارقًا قواعد السلوك عندما سأل بصوتٍ عالٍ وكرر سؤاله: هل هذا غباء أم خيانة؟ وتردد صدى كلماته في جميع أنحاء روسيا، وأصبح سؤاله هو السؤال المطروح في غالب الحوارات العميقة، وفي المجالس التي يحضرها نخبة المجتمع.

ثمّ اتضح للحانقين أنه لا يمكن أن تبقى الأمور على حالها؛ فحيكت مؤامرة لراسبوتين بتخطيط من خمسة نبلاء دعاه واحد منهم إلى قصره ذات ليلة كي يخلو بأميرة جميلة مع الطعام والخمر والحلوى، وهناك كان حتفه الأسطوري بعد أن فشلت محاولات تسميمه، فرمي بالرصاص غير مرة، ثمّ ضرب بالهراوة وركل بالقدم على رأسه، وقبل أن يلفظ أنفاسه استيقظ ورأى قاتليه وتوعدهم وهددهم بالإمبراطورة بيد أنه ترنح ومات، فألقيت جثته في نهر متجمد، وحين اكتشفت بعد أيام فرح النبلاء ورجال القصر بغيابه الأبدي، وتدافع عامة الناس لتعبئة الزجاجات بمياه النهر كما لو كانت إكسيرًا فهي في وجدانهم مياه مقدسة لرجل أحاطوه بالكرامات والمبالغات، وحزنوا على مقتله الشنيع.

أما الإمبراطورة فأصابها الغم مع الوجوم، وعقدت العزم على الانتقام من القتلة بعد تحديدهم، وظلت الإمبراطورة غارقة في حزنها ودروشتها المريبة، بينما شعر القيصر-شعورًا متأخرًا- بأحداث غريبة سوف تعبر به دون أن يقوى على إدارتها أو السيطرة عليها، وتلك كما يقول المؤرخون ليست من أخطائه فقط وإنما هي تراكمات من سلسلة أخطاء سابقيه التفت حول عنقه وتعاظمت في عصره حتى عجز عن التعاطي معها. ولم يستطع القصر أن يتصرف بحكمة؛ فكانت النهاية ليست على يد النبلاء الخائفين على مجدهم وهو يضيع أمام أعينهم، ولا بواسطة ضباط طامحين للحكم بدعوى حفظ البلد، ولا عن طريق أحزاب طالما تفاصح قادتها بالخطب والمقالات، بل عبر ثورة عارمة شارك فيها عامة الشعب الذي عانى من الجوع والكبت والقهر.

وفي هذه الحكاية الأليمة يستبين لنا سهولة اختراق القلاع مهما كانت طبقات الحواجز كثيفة كثيرة؛ فالطبقة الأرستقراطية مولعة بالسحر والتنجيم وعمليات تحضير الأرواح وفك رموز الأحلام وتفسيرها. كما يتضح أن ارتفاع الأسافل مؤذن بالسوء والشر المتناسل، وأن دخول الجهلة في عظائم الشؤون يؤول إلى فساد في الغالب، وأن البلاء موكل بالمنطق؛ ذلك أن الكاهن “راسبوتين” كان يقول للقيصر: “بدوني سيتحول كل شيء إلى فوضى”، وكتب له: “إذا فعلها النبلاء فإن الملكية ستسقط”، وفعلًا سقط النظام الحاكم عام (1917م)، وأعدم الثوار الشيوعيون القيصر وعائلته عام (1918م) في سيبيريا دون رحمة.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الأحد 09 من شهرِ ربيع الآخر عام 1443

14 من شهر نوفمبر عام 2021م

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)