ديغول في زمن الحرب وأزمنة السلم
يُعدُّ الرئيس الفرنسي “شارل ديغول” (22 نوفمبر 1890-09 نوفمبر1970م) أول زعيم لبلاده فيما عُرف بالجمهورية الخامسة التي لا تزال قائمة حتى اليوم، وهو قائد عسكري ورجل سياسة، جمع بين الخبرة والممارسة في ميدان الحرب والقتال والأسر، وفي أروقة السياسة والحكم والإدارة، كما عاصر الاحتلال والهروب، وجرب النفي والاعتقال، ومارس الخطابة والكتابة وعقد التحالفات، واستطعم بالانتصار والتحرير والعودة للمناصب، ولأجل ذلك حفر اسمه عميقًا في التاريخ الفرنسي وذاكرة الشعب؛ حتى أطلق على مطارات وشوارع وميادين وغيرها.
ولد “ديغول” في أسرة كاثوليكية محافظة، ودرس في مدارس دينية قبل أن يلتحق بكليات عسكرية عريقة. وفي منزله لم يفتأ والده المثقف من استثمار وجبات الطعام والجلوس مع أطفاله لرفع وعيهم بالحديث عن التاريخ والسياسة، وتشجيع الحوار التاريخي والفلسفي بينهم، وهو واجب عظيم يغفل عنه بعض الآباء والمربين. ومما زاد في جرعة الوعي لديه تلك الروعة المخيفة التي استشفها من أحاديث والدته حينما وصفت صرختها الأليمة وهي طفلة إبان الاقتحام الألماني لفرنسا في معركة سيدان عام (1870م).
ثمّ إن “ديغول” عقب الدراسة العسكرية، وخوض المعارك، والأسر، ومحاولات الهروب من المعتقل، واجتهاده في تدريب العسكريين، عرف حقيقة العدو، وفهم سر الضعف الفرنسي، فأصدر بعض الكتب والمقالات عن الإستراتيجية العسكرية والسياسية، وهي التي لم يرق بعضها لرؤسائه إما-والله أعلم- مخالفة لما فيها، أو خوفًا من نبوغه بها، أو لأنه صرح فيها بأقوال أزعجتهم مثل جزمه بضرورة ألّا تُترك السياسة للسياسيين وحدهم!
يتحدث كتابه الأول عن العدو الألماني إذ ألفه وهو في الأسر الذي استمر لمدة تزيد عن عامين بداية من سنة (1916م) وكان يرقب آسريه ويدرس شخصية بلادهم وإنسانهم، ونشره عام (1924م) وما أحوج أي بلد أو حضارة لمعرفة المنافس والخصم والعدو وفهم طبيعته وقراءة محركاته ومثبطاته. وكي لا ينشغل بالخارج التفت إلى الداخل وجعل كتابه الثاني الصادر عام (1934م) خاصًا بالدعوة لبناء جيش فرنسي محترف قادر على حماية البلاد وصد العدوان حتى لو لم يكن جيشًا ضخمًا، ويمم نشاطه الكتابي شطر مذكراته بعد أن تفرغ من العمل الحكومي، وإن كتابة المذكرات أو السيرة الذاتية بصدق ودون تحريف لأمر أشبه بالواجب على ذوي الشأن لتبصير من يأتي بعدهم.
ولأنه صاحب رأي مستقل، وغيرة وطنية حقيقية، لم يرضخ للرأي الخانع من حكومته لصالح ألمانيا المحتلة الذي تبناه رئيس وزراء فرنسا، وقاد مقاومة بلاده بعد نجاحه في الهروب من فرنسا التي صدر عليه فيها حكم غيابي بالإعدام والحرمان من الرتبة العسكرية ومصادرة ممتلكاته، وهذا الحكم الباطل صادر عن حكومة مصنوعة بيد ألمانية، ومحكمة متواطئة مع المحتل لا قيمة لها لأنها فقدت الاستقلالية، وانصاعت للعدو، ولم يحرك هذا الحكم ساكنًا في نفس القائد الفرنسي الذي تعاظم لديه حب بلاده، وتزايدت رغبته في تخليصها من البلاء الذي وقعت فيه.
لذلك يحفظ التاريخ الفرنسي يوم الثامن عشر من شهر يونيو عام (1940م)، وهو اليوم الذي أطلق فيه “ديغول” صرخته الوطنية الصادقة من هيئة الإذاعة البريطانية في لندن حيث استضافه “تشرشل” هو وقادة المقاومة الذين كونوا حكومة فرنسية مستقلة في المنفى، وهي صرخة خالدة أعلن فيها الخطيب المفوه بأن فرنسا حرة، وأنها خسرت معركة ولم تخسر الحرب، وأن شعلة المقاومة الفرنسية يجب ألّا تخمد، وهي قطعًا لن تخمد! وعلى إثر ذلكم الخطاب طار اسم “ديغول” في آفاق فرنسا، واحتل مكانة ثابتة في الوجدان الفرنسي، ولم يكن قبلها ظاهرًا على الملأ، أو رمزًا في البلد.
وبعد طرد المحتل الألماني وتحرير فرنسا، عاد لبلاده حاملًا فكرة تغيير نظام الحكم من برلماني إلى رئاسي فلم يوفق في إقناع الساسة، فترك العمل الحكومي ثمّ ما لبث أن عاد إليه بدعوة من آخر رئيس للجمهورية الرابعة بعد أن اعترف بعجزه عن مواجهة الناس في بلد ملايين الشهداء، فزعماء الجهاد الجزائري وأبطال المقاومة الشعبية لديهم عزم صلب على تطهير أرضهم وديارهم من رجس الاحتلال الفرنسي الأشد قبحًا من غيره، وهو ماكان لا فضلًا من “ديغول” وإنما استسلامًا لأهل الحق الصامدين؛ فهو أعرف الناس بأن الحق لا يضيع إذا كان وراءه مطالب لا يكل ولا يتوانى ولا يبيع قضيته ولا يطيع الخونة والعملاء. وقد سحب رئيس الجمهورية الخامسة سياسته هذه على قارة إفريقيا التي خرج منها جيش العدوان الفرنسي، وإن بقي فيها الاعتداء بنفوذ باريس الطاغي، والله يعجل بتنقية الأرض الإفريقية كلها منه قريبًا.
ويبدو أن فكرة الاستقلال بفرنسا تجاوزت لدى “ديغول” الانتقال من النظام البرلماني الإنجليزي إلى نظام رئاسي فرنسي، وتمثل ذلك في مساعيه للتقارب مع موسكو، وحرصه على بناء أوروبا موحدة آمنة متعاونة، ولأجل ذلك نأى ببلاده عن الدوران في الفلك الأمريكي، وموافقة واشنطن على جميع قراراتها؛ فعارض حرب فيتنام، واعترف بالصين الشعبية، وانتقد الحرب اليهودية عام (1967م)، وزود مصر بأسلحة وطائرات، ومن المؤكد أنه اختار هذه المسارات لأجل تعزيز موقع بلاده، ورفع قدرها وقيمتها التي تعلو بالاستقلال والاستقرار، وربما لبناء مجده الشخصي، وليس صنيعه من باب الرأفة بالمستضعفين في الأرض فقط.
مع ذلك كله لم يشفع التاريخ الحافل للرئيس “ديغول” عند شعبه الذي نشط في مظاهرات ضد رئيسهم الثامن عشر عام (1968م) بعد عشر سنوات من توليه زمام الحكم. واستجابة لمطالب المتظاهرين من الطلاب والعمال قرر “ديغول” إجراء استفتاء حول تطبيق المزيد من اللامركزية في فرنسا، وتعهد بالتنحي عن منصبه إذا لم توافق نسبة كبيرة من الفرنسيين على تطبيق اللامركزية في البلاد، وهي جرأة أثبتت بنتائج الاستفتاء أن الرجل لا يحيد عن كلمته ولا يراوغ.
وفعلًا صوت أكثر من (52%) من الفرنسيين على رفض الفكرة نكاية بالرئيس ورغبة في خروجه من الحكم؛ لأنه لم يحقق ما يصبون إليه مما أسخطهم عليه، مع أنهم لا يعارضون أصل فكرة الاستفتاء، فأعلن “ديغول” في الثامن والعشرين من شهر أبريل عام (1969م) تنحيه عن منصبه الرئاسي، ولم يطلب من أحد الخروج في الشارع عبر حشود مصطنعة للصراخ من أجل بقائه! ولأنه لا يحفل بالجموع كتب في وصيته طالبًا ألّا تقام له جنازة رسمية، لكن الجماهير الغفيرة شاركت طوعًا في وداعه إلى قبره بعد وفاته في التاسع من نوفمبر عام (1970م).
أما أعجب ما وقع في هذه الحادثة أو من أعجبها؛ فهو أن الكاتب الفرنسي الشهير “جون بول سارتر” أيّد بشدة وعلانية مظاهرات الطلبة الفرنسيين عام (1968م) وثورتهم ضد ديغول؛ فاقترح بعض المغرضين والمتزلفين على الرئيس الفرنسي أن يعتقل سارتر، ويزج به في السجن بتهمة التحريض؛ فرفض ديغول هذا المقترح الآثم، علمًا أنه ليس على وفاق مع سارتر منذ القدم، وقد تألم الرئيس صراحة من موقف الكاتب المناهض له، ومن وقوفه ضده، وقال ديغول كلمة خالدة: أنا أعتقل سارتر وأحاكمه! مستحيل فسارتر هو فرنسا أخرى، فهل يمكن اعتقال فرنسا؟!
اشتهر “ديغول” بخطب ملهمة، وجمل ذات معنى يحتشد فيها بأقل عدد من الكلمات، ومما عرف به أنه لا يتحدث في أي موضوع سياسي قبل طلب الخريطة وفحص المواقع، وهذه الطريقة ليست بسبب خلفيته العسكرية فقط، بل هي من صلب عمل السياسي الذي ينظر إلى الخريطة ويتمعن فيها قبل اتخاذ أي إجراء أو ترجيح أي رأي؛ فالجغرافيا السياسية علم ضروري للحاكم والقائد.
وبرحيل “ديغول” عن السياسة وعن الحياة لم ينطمس اسمه من التاريخ الفرنسي والعالمي، إذ بقيت له مدرسة وآثار فكرية داخل فرنسا وفي نخبتها السياسية على وجه الخصوص، فقد كان الرجل بحقٍّ رجل دولة مشهود له بخدمة بلاده وشعبه بإخلاص وفق اجتهاده، وبناء على ما تمليه عليه المصلحة الفرنسية العامة والعليا، دون أن يستهدف استرضاء أحد، أو الانسياق خلف الأقوياء بله القرناء والضعفاء.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الجمعة 30 من شهرِ ربيع الأول عام 1443
05 من شهر نوفمبر عام 2021م