الفكرة قاتلة ومقتولة!
نحن لا نعيش بلا فكرة، ومن الخير للمرء ومحيطه أن يكون لديه أكثر من فكرة، وأن تبدو الفكرة بأكثر من طريقة؛ ذلك أن الحياة ليست مجالًا واحدًا ينحصر الإنسان بين حدوده، بل فيها مجالات عديدة حسب اجتهادات المؤلفين في هذا الباب، وينبني على وجود هذه المسارات المتنوعة أن يصبغ كل إنسان بأكثر من صفة حياتية؛ فالخادم في العمل سيد في بيته، والكبير في عيون الناس يتصابى مع أطفاله، والناس بعضهم لبعض وإن لم يشعروا خدم كما قال المعري، وهذه الانقلابات بين الأحوال خلال يوم واحد كفيلة بالثراء الفكري، وإذابة الجمود وإزالة الرواسب.
كما تختلف الأفكار في طرق صناعتها، وفي عمقها وحدودها وامتدادها الزماني والمكاني، وما جرى ويجري عليها من اختبارات تؤدي إلى وضع نماذج وأطر لها، ومن الطبيعي أن تتباين الأفكار بحسب خطورتها وارتباطها بالمجال العام أو انكفائها على العقل المعيشي والشأن اليومي الخاص المحدود في نطاق ضيق. وتلتصق الفكرة بأعمال وحرف أكثر من غيرها، مثل العاملين في بناء الإستراتيجيات، وصناعة المحتوى، والتسويق، والتفاوض، وعالم التجارة والاقتصاد، وهي كما أسلفت شأن لا ينفك عنه آدمي البته مادام له عقل يعقل ولو ببعض العقل.
مع ذلك ففي الفكرة صفة منفصلة عنها ومتصلة بها تجعلها قاتلة أو مقتولة، ولذا فحري بنا حماية أفكارنا من ذلكم المصير المخيف، وأهم من ذلك وقاية أنفسنا ومجتمعاتنا من أن تصطلي بنار فكرة أو تذوق من ويلاتها، أو أن نخسر حسنات الفكرة بسوء التدبير وخطأ التقدير؛ لأن التفكير وما ينبثق منه يفترض فيه أن يقود إلى مصالح، ويدرأ مفاسد، حتى لو كان المرء متشاءم الفكر كما وصف الكاتب والمفكر الماركسي الإيطالي “غرامشي” فعليه أن يكون-بحسبه أيضًا- متفاءل الإرادة كي لا يقعد بكل صراط يفسد ويثبط ويسيء.
أما متى تصبح الفكرة قاتلة ومقتولة فسؤال جوابه طويل، وحقيق بي اختصاره، فالفكرة تكون قاتلة إذا صدق عليها ما قاله ” كارتير”: أنا أخاف من إنسان ليس لديه إلّا فكرة واحدة! فصاحب الفكرة الواحدة شغوف بها لدرجة تشبه حال الأسير المقيد، فهو مسكون بفكرته فلا يزاحمها شيء مهما كان وجيهًا، ومفتون بمعانيها وصولًا لمرحلة الهوس المرضي، ونسبة كلّ شيء إليها، وقياس أيّ أمر وفق مقتضياتها ولو باعتساف ولوي أعناق، ولربما تطورت هذه الفكرة إلى ما لا تحمد عقباه إذا أضحى حال الواحد معها مثل المسحور سحرًا أسود.
والأمثلة على هذا الوضع الكئيب كثيرة؛ ويمتاز أصحابه بتشدد مقيت تجاه فكرتهم. ومن أراد أن يستجلي أثر الفكرة الواحدة المهيمنة فعليه أن يسترجع نجوم فرق ومذاهب وبداياتها، فالخوارج لم يحتملوا وجود الكبائر والآثام مع أن الذنوب حتمية تبغضها قلوب أهل الإيمان دون إفراط، والمتصوفة انطلقوا من التزهد والزهد مطلوب في أصله شريطة ألّا يطمس معالم الحياة، والشيعة اتخذوا من محبة آل البيت معيارهم الوحيد وإن حب العترة الطاهرة لمن الدين والإيمان وإنما البلاء فيما زاد عن قدر الحب من صفات وتراتيب.
وينسحب هذا الأمر على المذاهب الفكرية البشرية، وعلى من أدمنوا حفظ الأمثال والحكم وترديدها حتى في غير مناسباتها، وجعلها مادة قابلة للاستدعاء ومنصة للمحاجة وسببًا للحكم والفصل بين الأمور. ويقال ذلك على طريقة تفكير بعض الكتّاب وتعبير بعض المفكرين وإدارة بعض النافذين الذين تسيطر عليهم فكرة واحدة حتى يغدو هو هي وتصير هي هو! وكان حقيقًا بمن ارتفع أن يرى المدى الفسيح. ومن أمثلة الفكرة الواحدة الجليّة نسبة الشرور والنقائص كلها إلى العدو أو البغيض أو المقصى، مع أنه ليس بطاهر الساحة ولا برئ الحال؛ بيد أنه يستحيل أن ينفرد بالمسؤولية عن المآسي والعثرات جميعها.
هذه هي الفكرة قاتلة مجرمة مسيئة، ولكنها تغدو مقتولة مظلومة مسكينة، وتندفع نحو هذه العاقبة المحزنة حينما يغلو بها وفي تطبيقاتها أهلها كما يقول الشيخ الحكيم صالح الحصين. وهذه الحال تنطبق على الفكرة الصالحة في أساسها مثل بعض ما سبق الإشارة إليه في خانة الفكرة الواحدة، ويُساق هذا الرأي مع الأفكار التي تتضارب الآراء حولها أو يجزم الأكثرية بخطلها وسوئها. وإن غلو الشيوعية المقيت آل بها إلى فناء أو شبه زوال وسقوط مشهود على مرأى ومسمع، فالفطرة لا تناقض، وطبائع الأشياء ونواميس الكون ليس من الحصافة في شيء مصادمتها، وللقارئ أن يستعرض أعمالًا وأفكارًا حاول أقوام غرسها بالقوة والسلطة والتلبيس وامتحان الآخرين بها، وهي اليوم تنافس الهباء المنثور بانعدام القيمة والهوان، ولربما أن البقاء لأضدادها، وهي يذهب مصيرها بين الهباء والجفاء.
ويستطيع الموفق من البشر النجاة بنفسه وفكرته من هذا المآل المؤلم، ويحصل ذلك بإكثار التفكير بطرائقه ومناهجه، وإدامة القراءة مع تنويعها، وحضور المجالس واستثمار الإصغاء والحوار، والتأمل في الكون والحياة والشارع وحركة المجتمع والناس، وإنشاء علاقات جديدة، وصداقات أفقية عريضة قدر المستطاع، ومحاولة الاطلاع على التجارب والخبرات ووجهات النظر الأخرى، مع إلحاح صادق بالدعاء لإصابة الرشد، والسلامة من الغي.
إن التوسط والتوازن من سمات المجتمعات الأصيلة، والنفوس النبيلة، وكلما ازداد رشد المرء ابتعد عن التخاشن والتضييق، ووجد في الأفق سعة، وفي الكون منازل، وفي الآراء سماحة، وهي كذلك شريطة ألّا تناقض أصلًا من الأصول الشرعية الثابتة، أو تعارض مصلحة ظاهرة معتبرة يقينية. والخلاصة التي آمل بلوغها هي حرص العاقل الكامل ألّا يكون مغلولًا بفكرة واحدة، أو منجذبًا إلى شيء واحد فقط، وألّا يغالي في فكرته وما يخصها من شؤون؛ كي لا تغدو فكرته قاتلة مذنبة، أو تصبح مقتولة من تلقاء نفسها، وفي كلا الصفتين يتجاوزها الحمد ويلتصق بها الذم.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الأربعاء 21 من شهرِ ربيع الأول عام 1443
27 من شهر أكتوبر عام 2021م
One Comment
السلام عليكم ورحمة الله
الكاتب الاديب والقدير . جزاك الله خيرا على هذا المقال القيم . كما عودت قراءك الافاضل بارفادهم بهذ المقالات القيمة . التي تحتوي تحليل تصل على اعماق النفوس البشرية . جعلها الله في ميزان حسناتك وحسنات والديك