رسائل من الأمير وإليه

رسائل من الأمير وإليه

من الخير لأيّ مجتمع ارتقاء مجالس أكابرهم وأحاديثهم وما يُتداول فيها وبينهم؛ لأن ذلك مئنة على عراقة البيئة، وعلو همة أولئك الجلاس والمتحاورين، إضافة إلى أن ما يروج في الأسواق والمحافل والمجتمعات يكون في الغالب انعكاسًا لما لدى النخبة الذين كتب الله لهم علو المنزلة بسبب علم أو منصب أو وجاهة أو مال. ولو زهدت تلك الطبقات في كثير من المظاهر والزوائد فضلًا عن التورع الحاجز دون المآخذ والمآثم لكادت المجتمعات أن تخلو من إشكالات كثيرة، وهي لن تسلم على أيّ حال من وجود نقص أو خلل، والكمال عزيز.

وكتابنا الذي أعرضه سراعًا اليوم دليل على ذلك ويصف المراد بوضوح، ولهذا الكتاب قصة سوف أسوقها لاحقًا. عنوان الكتاب: رسائل الأمير، تأليف: خالد بن حمزة المدني، صدرت الطبعة الأولى الأنيقة منه عام (1430=2009م)، ويقع في (245) صفحة يتلوها فهرس كاشف للأعلام، ثمّ ورقات تمنح مساحة خاصة للقارئ كي يدون اختياراته الإضافية، وأما التي ينتقيها من الكتاب فيمكنه تلوينها لتسهل عليه العودة إليها، والموفق يضمها تحت عناوين موضوعية، ومجرد القراءة تكفى فمن وعى الحكمة نطق بها أو أوشك.

أهدى المؤلف المدني كتابه إلى منشئ هذه الرسائل وراعيها، وسأخبركم عن شخصه بعد قليل. وقد كسر الرسائل على سبعة أعوام تقع بين عامي (1423) و (1429)، وهي متقاربة في عدد صفحاتها باستثناء رسائل العام الأول التي تقع في خمس صفحات فقط لسبب سيبدو فيما بعد، وأكثرها رسائل العام الأخير، علمًا أن هذه الرسائل مستمرة، وأتصور أن تطبيقات التراسل الفوري مثل الواتساب تعين عليها؛ وليت أن رسائل هذا الأخضر المرهق وإخوانه أن تكون قليلة، راقية، نافعة، ماتعة، وتنجو أو تكاد من الرثاثة والغثاثة والفجور، وليت أن جمهرة مكثري الإرسال يعوا كلمة الرافعي المسطورة في هذا الكتاب حين قال: رسالتك لأخيك هي زيارتك له، فلا تجعلها تافهة!

وإن اختيار الكلام أصعب من تأليفه كما قال ابن عبدربه في جملة استهلّ بها الكاتب هذه الرسائل، وتمنى في خاتمة مقدمته القصيرة أن يكون في نشرها إحياء لأدب الرسائل والمختارات المعروف في أدبنا العربي الخالد عظيم المآثر والآثار. وبدأ بعد ذلك يسرد الرسائل التي اجتمع فيها النقل عن عرب وأجانب، مسلمون وغيرهم، معاصرون وقدماء، أهل سنة وسواهم، رجال ونساء، ومن مذاهب فكرية شتى ومجالات اهتمام عريضة المدى، وعلماء وعامة، وشعراء فصحى وعامية، ولا غرو أن يرتفع عدد من تنسب إليهم هذه المقولات إلى (425) إنسانًا لن يتجاوروا إلّا في هذا الكتاب المنتقى، وبعضهم تكرر اسمه، والذين تكاثرت الرواية عنهم بجلاء لافت غالبهم من الشعراء، في انحياز واضح من صديقنا الكاتب والشاعر!

سنجد في هذه الرسائل المفيدة أن البشاشة فخ المودة، وهي عند جبران سفير للإنسان. ويجود بالعطية مَنْ أيقن بالخلف، وفي بعض الشعر تحذير من العَتب لأنه إن جاز حدّ العدل صار مقطعة. ومن كمال العقل ما قاله البرمكي في ذم مَنْ أعطاه فوق حقه، وهي كلمة تسقِط الطبول وقارعيها الكثر! وأما النصيحة للشباب فنتلقفها من قول “بسمارك”: لدي ثلاث نصائح للشباب: العمل، والعمل، والعمل، وهذا السياسي الألماني رجل دولة عتيد، وهو يعني ما يقول، والله يعيذنا من البطالة وآفاتها.

أما أولى الناس بالعفو فهو أقدرهم على العقوبة كما يقول معاوية رضي الله عنه، وقد عجب القائد الكبير المهلب لمن يشتري العبيد بماله كيف لا يشتري الأحرار بمعروفه؟! ونعوذ بالله مع “نابليون” -مع أنه لم يستعذ- من ثورة يدبرها الخبثاء، وينفذها الجهلاء، ويجني ثمارها الجبناء. ويطلق حمزة شحاتة كلمة أشبه بالقذيفة فحواها أن اليأس ليس فقدان الرغبة بالنضال، وإنما فقدان الإيمان بجدواه، ويصيح “غوته” خوفًا من المصائب المحتملة إذا اجتمعت القدرة مع الجهل، وفي اعتقاد “تشرشل” ومذهبه السياسي يحرم انتقاد البلاد إذا كان المرء خارجها، ويجب وهو في داخلها.

وفي رسائل الأمير والمدني حث على إدامة الاختلاف للمسجد كي يصيب المرء ثماني خصال هي: آية محكمة، وأخًا مستفادًا، وعلمًا مستطرفًا، ورحمة منتظرة، وكلمة تدل على هدى، أو تردع عن ردى، وتعين على ترك الذنوب حياء أو خشية. والله يرزقنا صلاح النية لأن الأبدان كما يقول يحيى بن معاذ في سجن النيات، ويلهمنا العلم والعمل به فانشراح الصدر تبع لزيادة العلم لدى ابن القيم. وما أحسن الاستعداد للبرزخ ويوم المعاد؛ ففي البرزخ تصير القبور مضاجع متساوية لرفيع الشأن ووضيعه وفقًا لأبيات ترنم بها البردوني، والسعيد من صلح وأصلح ودلّ على الرشاد تمامًا مثل صنيع ابن باز الذي ناصح إنسانًا بالمكاتبة خمسين مرة حتى أقلع عن غيّه وكفّ شروره.

كما يرد في الرسائل النفيسة مقولات تحث على القراءة والكتابة والتفكير والسمو بالعلم والوعي، فالعقاد يجزم أننا نقرأ للابتعاد عن نقطة الجهل، ويُعدّ محمود شاكر الدراسات الأدبية أخطر أنواع الدراسات، ويفرق الزيات بين النظم لغة الخيال والعاطفة، والنثر لغة العقل والفكرة. ويرى جعفر إدريس بأن الفلسفة تكمن في إثارة أسئلة أساسية أو الإجابة عنها، وليت بعض الخائضين أن يفقهوا درة الشيخ البصير هذه.

لذا لا تنتفع العقول الضيقة بمكاتب واسعة طبقًا للطيفة من “أوسكار وايلد”، وستظلّ المكتبة صيدلية العقل حسب وصف “برناردشو”، ومن الضرورة أن تخرج المعرفة من بطون الكتب حتى يعمل بها وتؤثر كما قال “بيتر دركر”، وينبغي ألّا يقع المثقف في فخ الأستاذية؛ فيعاني من الجهل ويفقد تواضع التلميذ مثلما أورده شعرًا أحمد الصافي النجفي، وخير مغادرة لهذا الباب قول الإمام الشافعي: من تعلم القرآن عظمت قيمته، ومن تعلم الفقه نبل مقداره، ومن كتب الحديث قويت حجته، ومن تعلم الحساب جزل رأيه، ومن تعلم العربية رق طبعه.

وإن الصداقة على حقيقتها مثل حب بلا أجنحة عند “لورد بايرون”، بينما يرى الأمريكان أن الصديق دفء للقلب، وأشهدكم أن المدني وأصحابه كذلك. ويشبه أهل الصين في أمثالهم الحكمة بمشط يمتلكه أصلع! ويحذر “كارتير” من إنسان ليس لديه إلّا فكرة واحدة، وينبئنا “أردشير” بعد مغالبته للدنيا وأحوالها أن الشدة كحل يُرى به ما لا يُرى بالنعمة، وليس الذي يقول الحق ويفعله بأفضل ممن يسمعه فيقبله كما يخبرنا أبو الدرداء رضي الله عنه وعمن تواضع للحق ولان له ولأهله الصادقين المخلصين.

إلى هنا أتوقف وأحيلكم لبقية الكتاب، فربما أنكم تستعجلون قصة كتاب أبي زياد واسم الأمير. أما حكاية الكتاب الواردة في موضع منه فهي أن المدني ذهب في أيام عيد الأضحى عام (1423) للسلام على الأمير وتهنئته، وفي ذلكم اليوم وصلت أولى الرسائل لجوال المؤلف، ومنها أصبح عضوًا في قائمة تراسل فيها مجموعة كبيرة من الأمراء والعلماء وأساتذة الجامعات والمثقفين والأدباء والمهنيين في تخصصات مختلفة، ومن ثمار هذه اللفيف جاء هذا المجموع اللطيف، وأما الأمير فالحقيقة أني لا أعرف شخصه ولم أسأل صاحبي الأثير عنه، ويكفي لهما ولأعضاء المجموعة كافة مني ومن أيّ قارئ تطربه رسائل الكتاب والأمير التحية مع الدعاء.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

 ahmalassaf@

الأحد 11 من شهرِ ربيع الأول عام 1443

17 من شهر أكتوبر عام 2021م