أفضل كتب تعليم الكتابة!
هل يمكن أن يتعلّم إنسان الكتابة من قراءة الكتب فقط؟ وماهي الكتب التي تعين على إجادة صنعة الكتابة إذا كان الجواب بالإيجاب؟ وكم يكفي منها عددًا وزمنًا؟ وغير ذلك من الأسئلة التي ترد فرديًا أو خلال البرامج التدريبية والحوارية. والإجابة تحتاج إلى بسط، والبسط يرهق الكاتب والقارئ، وعسى أن يكفيهما الاختصار الذي يوصل الفكرة دون إسهاب وبلا اقتضاب، ومن غير خلل أو ملل.
نعم! إن القراءة تعلّم الكتابة، وأيضًا لا! فالقراءة لا تعلّم الكتابة! وفصل القول بين جوابين حالهما مثل سهيل والثريا لا يلتقيان أن القراءة خير رافد للكتابة، وأقوى دافع إليها على الأغلب؛ لكنها أحيانًا لا تفعل، بل ربما تكون سببًا في الإحجام والتردد قبل استلال القلم. ومن المؤكد أن القراءة وحدها لا تكفي، ولا تجعل القارئ في حال استغناء عن مناجم أخرى للكتابة والابتكار.
أما الجواب بنعم فلأن القراءة بعامة تغدو مفيدة للكاتب، فهي وقوده وحافزه، وحتى ينتفع منها في كتابته فعليه ألّا يقف عند حدود جني المعلومة أو حصول المتعة؛ بل يظفر بهما، ويلتقط معهما الأسلوب والألفاظ والتراكيب، ورشاقة العرض وحسن التقسيم، وقوة الإقناع وعمق النقد أو النقض، وكيفية إثارة السؤال والإشكال، وسبُل الجواب أو التهرب، وكيف يقول الكاتب شيئًا دون أن يكتبه وذلك بالتلميح والكناية والمثل، وهي فوائد قرائية ربما يغفل عنها بعض القراء.
والقراءة التي هذا شأنها يمكن أن عامة أو تخصصية أو حصرية في شؤون الكتابة، ومن المهم أن يطوف عليها الكاتب جميعها، فيكون له نصيب من قراءة عامة في أركان الثقافة والموسوعات ومداخل العلوم، وحظ كبير من قراءة تخصصية، ومكوث حثيث مع قراءة حصرية في شؤون الكتابة وما يؤول إليها، سواء كانت الإيالة إلى الكتابة مباشرة أو غير مباشرة. ولا يحسن بالكاتب أن يحبس نفسه على حقل علمي واحد أو منهج ثابت في القراءة إلّا في أحوال خاصة ومؤقتة، وقليل من يصبر على طعام واحد.
فمن القراءة التخصصية مثلًا ينبغي للشاعر قراءة الدواوين أو حفظها، والقاص لا بد له من التزود من منتجات قصصية تعينه على التعبير بفنه الجميل، ومثله الروائي الذي يقرأ مئات الروايات قبل أن يخط الحروف الأولى من روايته، وأيضًا كتّاب المقالات عندما يقضي الواحد منهم عمرًا مع الأدباء وعظماء هذا المجال. ولربما يعجب القارئ حين يعلم أن نسيان هذا المقروء مفيد للكاتب كي لا يستأسر له، فالنسيان لا يعني زوال الفائدة، وإنما اختلاطها مع مكونات أخرى ينتج عنها ما يخصّ الكاتب وحده بصبغته وأسلوبه الصافي من أوشاب التقليد.
أما القراءة الحصرية فمنها أن يصنع الكاتب علاقة دائمة مع كتب تعليم الكتابة، وهي كثيرة عظيمة التنوع جليلة الفائدة في الغالب، وفيها القديم والحديث، وبعضها عربي وكثير منها أجنبي، وجزء منها طويل مسهب يصل إلى مجلدات مثل صبح الأعشى، وبعضها قصير مختصر مثل الصناعتين. وتعرض أقسام منها شؤون الكتابة بعامة مثل درب الكتابة، وتختص أخرى بفن معين مثل فن المقالة، وربما تقتصر على أدوات أو تقنيات أو أساليب أو مشكلات مثل أدوات الكتابة، والموفق من هداه الله لما ينفعه وتعظم حاجته إليه؛ لأن المعروض أكثر مما تستوعبه الأوقات والهمم.
كما لا يفوت التنبيه إلى ضرورة القراءة في كتب اللغة نحوها وصرفها ومعانيها؛ لأن اللغة أحد ركني الكتابة، ومن الضرورة الحتمية أن يبني الكاتب علاقة حميمة مع المعاجم سواء معاجم الألفاظ وما أكثرها وفيها المختصر وفيها المتوسع، ومنها معاجم المعاني وكتب فقه اللغة والألفاظ الكتابية ومعاجم الأشياء، ومنها معاجم التراكيب التي تغني الكاتب بلفظ عن جملة وربما عن فقرة، وإن كتب اللغة لخير زاد للكاتب؛ تمنح بيانه الإشراقة والوضاءة، وتسيّر معه وخلفه جيشًا مطيعًا في الحرب والسلم.
حديث المعاجم هذا يقودنا إلى الضفة الأخرى من كتب تعليم الكتابة، وهو جانب قد يغفل عنه بعضنا، والمقصود كتب تعليم التفكير، وهي ميدان رحب فسيح. والكاتب بحاجة لصناعة الفكرة، ولا مناص له من منطقية العرض وموضوعية التفكير، وتشرب فنون الإقناع والحجاج، والحذر من المغالطات، والقدرة على التعاطي مع النقد، وغير ذلك مما يمنحه القوة الكتابية ويساعده على المضاء الواثق في مسيرته القلمية. ومن حاز نصيبًا مفروضًا من التفكير والبيان فسوف يصبح أدبه مثل تراث الجاحظ الذي ينشط العقل والذهن ويعلم المنطق والحجة قبل أن يعلم اللغة والأدب ويروي الشواهد.
أيضًا من خير ما يفيد الكاتب أن يجعل قسطًا معلومًا محددًا من قراءة أمات كتب الأدب ومراجعه الأساسية وهي كثيرة في أدبنا العربي وفي غيره، والنظر في كتب الدراسات في أساليب المدارس الكتابية مثل أمراء البيان لكرد علي، وعمالقة الأدب الغربي لبرتون راسكو، ومن بابها نقد أعمال الكتّاب، لأن النقد يوقف صاحب الصنعة على المآخذ فيها، وما أكبر خيرات النقد وأكثر بركاته إذا كان نقدًا علميًا رزينًا بعيدًا عن الأغراض الشخصية والدوافع الفئوية، سليمًا من التعالم والحسد ومحاولات الارتقاء على الآخرين.
ومن الكتب المهمة جدًا للكاتب تلك الكتب التي تتحدث عن سير الكتّاب سواء أكانت سيرًا ذاتية أم غيرية أو نتاج مؤتمر أو جمعًا لمقالات وندوات؛ فمعرفة عصر الكاتب ومجتمعه ونوازعه والمؤثرات عليه تعين على الفهم واستخلاص العبر المفيدة. وسوف يجني الكاتب فوائد لا تحصى إذا قرأ أو شاهد الحوارات مع الكتّاب وهي كثيرة، وبعضها يجمع أكثر من كاتب، أو يعتني بمن فاز بجائزة نوبل، وأرقاها ماكان تحت إدارة مثقف بصير وليس صاحب مهنة يؤديها وقد تخلو من الروح والتفاعل.
أما القراءة التي لا ترتبط بكتاب، وهي أساسية في عمل الكاتب ومقدرته الابتكارية، فهي قراءة الحياة، وتحليل الشارع، والنظر في حركة الناس وتعابيرهم، وظلال الأحداث ومجرياتها، وإدامة التأمل والنظر والاستبصار، ودراسة المستقبل، وإنها لقراءة يُحرم منها المنكبون على الصحائف وأوراق الكتب، الذين أغلقوا على أنفسهم المكتبات ولم يفتحوا النوافذ. وأشد من هذا الحرمان وهذه الغفلة أن ينصرف الكاتب عن قراءة نفسه وفكره وعواطفه ومكوناته وغيرها، وقلّما يفلح المرء في فهم الحياة والآخرين قبل أن يفهم نفسه أولًا، ويتصالح معها ثانيًا!
ثم إني أقول لا! فالقراءة وحدها لا تفيد الكاتب كثيرًا، وربما لا تنفعه من الأساس؛ وإنما لباب الفائدة أن يقرأ الكاتب وبعد القراءة يفكر ويقارن ويوازن، ثمّ يقرأ فيحلل ويفكك ويربط ويعيد التركيب ويجيد التأويل، ثمّ يقرأ فيجمع النظائر المؤتلفة، ويعرف المواضع المختلفة، ويبصر المكتوب وما خلفه، ويحاول دون اعتساف وظلم التفسير وإعادة بناء المقروء وتهميش الملحوظات والاستدراكات حتى تصبح نسخة الكتاب التي بين يديه نسخة فريدة لا مثيل لها في العالم، وقيمتها لديه تتجاوز السعر الموجود على ورقة الأسعار الكئيبة.
فيا معشر الكتّاب والكاتبات: اديموا هذه القراءات الواعية الرشيدة، وليكن منها الجاد والمستطرف الذي يبهج أرواحكم، واستكشفوا الكتب التي تفتح لكم المغاليق، أو تخرجكم من دائرة الانحباس، وبذلك سوف تمضون واثقين غير وجلين ولا منقطعين إلى عالم فسيح من القراءة السعيدة التي تزيدكم، وإلى محيط واسع من الكتابة الخالدة التي تعلمكم قبل غيركم، وحينها سوف تشرع لكم الأبواب لصناعة المحتوى وتحريره. وكم في القراءة والكتابة- وحدهما أو معًا- من رقية للروح، وجلاء للهموم، مع الحرية المسؤولة، والهناء الذي لا يباع ولا يشترى ولا يسعّر، وفوق ذلك فيهما خلود ولسان صدق وأجر عند مليك مقتدر.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الجمعة 02 من شهرِ ربيع الأول عام 1443
08 من شهر أكتوبر عام 2021م
2 Comments
كلامك جميل ومفيد ن ونصائح في غاية الأهمية.لكن مشكلتي في اختيار ما أقرؤوه. أحتاج لمثل هذه النصائح من أمثالكم
أهلا بالعزيز. كتبتُ ملامح عامة ستعينك، وأشرت لبعض الكتب. في المعاجم مثلا: القاموس المحيط، فقه اللغة، جواهر الألفاظ، الألفاظ الكتابية، معجم التراكيب، قاموس الأمثال والحكم، معجم أساطير العالم، وهي مثال فقط والقارئ يختار مايناسبه وما يعجبه. المهم أن نقرأ ونتأمل ونفكر، والله المعين والموفق. وأهلا بكم.