مواسم ومجتمع

هكذا ولدوا…

هكذا ولدوا…

قصص الميلاد والقدوم إلى الحياة عادية في أكثر الأحيان، وعجيبة غير معتادة في أحيان أخرى. وقد خلق الله أكثر الخلق من أبوين، بينما ولد المسيح عيسى بن مريم عليهما السلام من أمه الصديقة بلا أب، وخُلقت أمنا حواء عليها السلام من ضلع أبينا آدم عليه السلام الذي خلقه الله بلا أب ولا أم، ولأبوينا الكبيرين، ولأبوينا القريبين، ولجميع آبائنا الموحدين الدعاء بالرحمة والرضوان.

وأذكر بأني قرأت قصصًا لافتة عن القدوم إلى الحياة في سير بعض المفكرين والأدباء والساسة، وسوف أرويها من الذاكرة؛ لأن الكتب بعيدة عني الآن، والعبرة والفوائد متحققة من أصل القصة، وما سوى ذلك من حواشٍ فلا خطر لها لأنها غير مؤثرة في الشاهد، ويمكن الرجوع إلى المصادر للبحث عن الرواية بدقة لمن شاء مزيد تثبت، ولعلي بهذا التنبيه أن أخرج من دائرة المؤاخذة.

أول هذه الحكايات رواها عالم الاجتماع العراقي د.علي الوردي (1913-1995م)، وليس له سيرة ذاتية منشورة فيما أعلم مع أنه كتبها أو نوى كتابتها كما قرأت، لكنها على أيّ حال في حكم المفقود مع عظيم الأسف. ولأنه شخصية مهمة فقد كتبت عنه عدة كتب تروي سيرة حياته أو طرفًا منها، والذين كتبوها مرافقوه أو طلابه أو بعض الباحثين المختصين بكتبه وفكره، وأحدهم نقل عن الوردي قصة مجيئه للحياة.

ففي سنة من سنوات القرن الميلادي التاسع عشر أصاب العراق طاعون فتك بالناس حتى كثر الموات وزادت أعداد الوفيات، وللوردي حديث عن هذه الأحداث في كتابه لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث. وبينما كان جدّ والد الوردي نائمًا رأى أن ملكًا نزل من السماء وكتب على باب بيتين من بيوت جيرانه رقمين هما سبعة وعشرة، ثم كتب على باب بيت الجد رقم ثلاثة عشر؛ وحين استيقظ استغرب ولم يستطع فك رموز الأرقام التي رآها في منامه.

وعندما أصبح الجد سمع عويلًا عند البيت الأول، فذهب يستطلع الخبر فإذا أهل البيت قد ماتوا كلهم وتعدادهم سبعة! فتذكر رؤياه وسأل عن عدد ساكني البيت الثاني فوجدهم عشرة، وراجع تعداد أسرته فإذا بهم ثلاثة عشر فردًا، وهنا استبان له الأمر وانكشف له تفسير رموز منامه، خاصة عندما قضى جيرانه في البيت الثاني عن بكرة أبيهم في نهاية ذلك اليوم أو من الغد.

لذلك اشترى الجد ثلاثة عشر كفنًا، وأعطى لكلّ فرد من أسرته كفنًا، واقترح عليهم الاغتسال والتنظف ولبس الكفن والنوم به، فسوف يصيبهم ما أصاب جيرانهم من أنين ومرض ورحيل، ولا أدري أقصّ عليهم رؤياه أم لا، ولكن المهم أنهم فعلوا وناموا بالأكفان استعدادًا للموت بسبب الطاعون الذي حصد الجيران والقرابة، وأشاع الحزن والمآتم في العراق آنذاك.

ويبدو أن أحد السراق عرف بحلول الطاعون في بيتهم، فاقتحم الدار، ومرّ على الغرف واحدة واحدة؛ ليسرق الأكفان وما يجده من الأشياء الثمينة، وأصبحت غرفة الجد آخر غرفة، وحينما أراد نزع الكفن تفاجأ السارق عديم المروءة بأنّ الرجل حي، فمات ذلكم السارق من الهلع، ودفن مع بقية الأسرة التي ماتت بالطاعون مخلفة الجد وحيدًا؛ فتزوج وأنجب وجاء د.الوردي من نسله، ومن اللطيف أن للوردي الحفيد كتاب لطيف عن الرؤى والأحلام وآخر عن خوارق اللاشعور.

وثاني أعاجيب الميلاد رواها الفيلسوف المصري د.عبدالرحمن بدوي (1917-2002م) في سيرته المطبوعة بجزأين مرجعًا الفضل لوجوده في الحياة إلى ورقة بعد إرادة الله؛ إذ كان والده جالسًا في فناء منزلهم يفحص بعض الأوراق، فطارت واحدة منها نحو الأرض وأجبرت الأب كي ينحني ويلتقطها فارتطمت في تلك اللحظة رصاصة بالجدار وسلم منها رأس الأب، وهي رصاصة من ابن أسرة منافسة لأسرة بدوي وبينهما خلاف، ولولا قدر الله الذي أطار الورقة لاستقرت في جمجمة الأب وحينها لن يأتي الابن إلى هذه الدنيا علمًا أنه الابن الخامس عشر بين واحد وعشرين شقيقًا وشقيقه، وتجاوزت مؤلفاته وترجماته مئة وخمسين كتابًا بعدة لغات.

أما ثالث قصص الميلاد فكانت على لسان الكاتب المصري د.جلال أمين (1935-2018م) في سيرته المنشورة في ثلاثة كتب ماتعة غير مرتبطة ببعضها لافي الشراء ولا في القراءة. وخلاصة القصة أن والده الأديب الكاتب أحمد أمين لم يرغب بهذا الحمل الذي كان الثامن أو العاشر، وطلب من طبيب نساء إيطالي إسقاط الجنين عدة مرات بيد أن والدة جلال أقنعت الطبيب بألّا يفعل، وهو ماكان فجاء الابن الذي يُعدّ الأشهر بين إخوته، وسرد في سيرته مواقف عن والديه أغضبت أشقاءه كما ذكر في ثلاثيته الصريحة الماتعة.

كذلك من قصص الميلاد العجيبة أني سمعت عن ثلاثة إخوة من ثلاث أسر مختلفة، لكلّ واحد منهم أخ غير شقيق يصغره بعقود من الزمن. فبين الأول وأخيه ثمانون عامًا وهما من أهل البكيرية، والثاني من ثادق وبين الأخوين سبعين عامًا تقريبًا، بينما اكتفى المثال الثالث بستين سنة بين الأخ الأكبر والأصغر وهما من ساكني مدينة ساجر. ومن هذه الحكايات أن السفير الكبير فوزان السابق ماتت جميع ذريته عقب ميلادهم أو في طفولتهم المبكرة، وحينما تجاوز الثمانين رزق بنجله الوحيد، ويشبه حاله حال الشاعر الذي رزق بالذرية على كبر فقال شعرًا:

إلى مهدك الميمون يـمناي تمـتد                    رجاءً .. ويثنيها مشيبي.. فترتد

دعاك شبابي قبل أن يـزمع النوى                  ولكـن أراد الله أن يبطئ الرد

وجئت على شيبي فلم أدر هل أنا                  أب لك يا حلم الأماني أم جد؟

بني وشيبي هل سيضعف فيكما                  رجائي أم يقوى بضعفي ويشتد؟

أسأل الله أن يحفظ لنا ولكم الذرية، ويصلحهم، وينبتهم نباتًا حسنًا، وأن يرزق كل محروم ما تقر به العيون وتسعد به الخواطر، وأن ييسر للعزاب من الجنسين الزواج الميمون، ويكثر في أمة محمد النسل المبارك النافع الجاد؛ ذلك أنه مما حث عليه النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم، وهو مطلب تنموي وضروري لحفظ الأمن القومي بمعناه الواسع، ويحول دون استيراد البشر كما تفعل بعض دول أوروبا التي تتعرض للنقص أو الانقراض بعد هدم مؤسسة الأسرة، وتعسير الزواج، وتسهيل الخنا والشذوذ، وتزيين تحديد النسل لا تنظيمه، والله يحمي بلاد المسلمين والعرب كافة من سلوك طرق الضلالة التي سار فيها الآخرون كرهًا أو طواعية.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف- بحيرة إيسيك كول-قرغيزيا

 ahmalassaf@

الخميس 09 من شهرِ صفر عام 1443

16 من شهر سبتمبر عام 2021م

Please follow and like us:

One Comment

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)