العربية: الأم العريقة المقدسة
ما أعظم شأن اللغة أيًا كانت، فهي للفرد مثل الأم ولذا قيل اللغة الأم، وللمجتمع أضحت أحد أركان ثقافته التي يقوم عليها بناؤه وتماسكه، وللحكومة أصبحت مكسبًا اقتصاديًا، وسببًا في العزة وحفظ الأمن القومي، ولأجل هذا وغيره تغدو اللغة مهمة ولو كانت معقدة صعبة غير مرتبطة بدين ولا ذات جمال وجاذبية. ومن أبجديات هذه الحقائق ألّا يفضل المرء البار امرأة كائنة من كانت على أمه، ولا يكسر المجتمع ركنه الشديد الذي يعتمد عليه، ولا تهمل الحكومات جوانب حماية أمنها القومي، أو تغفل عن مصادر تجلب إليها المغانم الاقتصادية والسياسية والثقافية.
هذا كلام عام يخصّ أيّ لغة، بيد أن الحديث عن لغتنا العربية يشمل ذلك وزيادة؛ لأن اللغة العربية امتازت بمزايا جعلتها فريدة بين اللغات، ويكفيها شرفًا أنها لغة القرآن الكريم ولغة النبي محمد عليه الصلاة والسلام، وهما آخر كتاب ينزل من السماء ويهيمن على سابقيه، وخاتم الأنبياء المبعوثين من رب العالمين للناس كافة. وقد منحها اقترانها بالوحي المقدس ضمانة البقاء، وانبثقت منها علوم لخدمة الشريعة مثل البلاغة والإعجاز والتجويد والقراءات وغيرها، وجاء المعجم العربي الواسع والبديع بعد أن حصرت المعاجم غريب القرآن والسنة في مصنفات مبتكرة، وصار الإسلام أعظم حدث في تاريخ العربية لعظيم آثاره المباركة عليها.
يضاف إلى ذلك كثرة مفردات اللغة التي تتجاوز ثمانين ألف مفردة، وهي لغة حيّة متجددة لأنها سماعية مسندة وقياسية ذات قواعد، وهي قابلة للاشتقاق والنحت والتصريف والإعراب والتعريب مما يزيد في معانيها، ويمنح المتحدث بها براعة السك ومهارة التقديم والتأخير خلافًا للغات كثيرة. ومن خصائص العربية أيضًا أن حروفها متميزة في الرسم والصوت والمخارج حتى عرفت بامتداد مدرجها الصوتي، وبأن معاني الكلمات تتضح أحيانًا من اختصاص بعض الحروف بمعنى ما، مثل “غاص وغاض وغاب” ومثل ” خشع وخضع وخنع” ومثل ” قدّ، وقطّ، وقصّ”، والأمثلة الباهرة على فتنة اللغة كثيرة لا تحصر.
ومع أنها قديمة جدًا إلّا أننا نقرأ النصوص القديمة من عصر الجاهلية نثرًا في الخطب والحكم، وشعرًا في المعلّقات والدواوين، إضافة إلى نصوص صدر الإسلام المقدسة لأنها وحي يوحى أو غيرها من الكلام، وعمر بعض تلك النصوص يصل إلى خمسة عشر قرنًا أو أزيد؛ فنفهم المراد ولا يتعسّر علينا أكثر محتواه سواءً بدقة أو من خلال السياق، وهذا لا يتأتى للغات كثيرة؛ فأين في الإنجليز من يقرأ “شكسبير” بيسر، ومَنْ من الإيطاليين يستوعب لغة “دانتي” دونما عثرات، وأيّ إسباني يفهم “سرفانتيس” بلا صعوبة؟
ثمّ إن دين الإسلام يقوم على نصوص الوحيين الشريفين ولا يمكن فهمهما دون إتقان علوم اللغة، هذا الإتقان الذي عُدّ شرطًا للاجتهاد والفقه في الدين، ونُظر إلى غيابه على أنه من أسباب ضلالة من ضلّ عن الصراط المستقيم حتى بلغ بعضهم أن تمرغ في وحل الزندقة والمروق عياذًا بالله. وبناء على هذا فإن العداء العنيف للعربية من المستشرقين والأعداء مفهوم مفسر خاصة مع انتشاها المذهل دون حاجة لحروب أو كبير جهد في ترويج أو إجبار، وإنما العجب كلّ العجب من عداء أبناء العرب للسانهم، وبعضهم ربما ينتسب إلى تيارات عروبية من بعثية وقومية وغيرها، وآفة القوم-فيما يبدو- تكمن في انكسارهم الحضاري، وهزيمتهم الداخلية، مع تبعية مقيتة واسترضاء للأقوياء الحانقين على جميع ما يرتبط بدين محمد صلى الله عليه وسلم.
وحتى نقف على مركزية اللغة في الهوية والمقاومة نجد أن القرار الأول للمحتل الإنجليزي لمصر هو منع التعليم بالعربية، ثمّ واصل عدد من الأجانب مساعيهم الشريرة لاعتماد العامية المصرية في الكتابة والتعليم وإقصاء الفصحى. وهكذا فعل الألمان حينما سحقوا فرنسا وفرضوا تدريس اللغة الألمانية حسبما ورد في قصة الدرس الأخير المؤلمة للأديب الفرنسي “ألفونسو دوديه”. وعندما هبطت طلائع الأمريكان على أرض الهنود الحمر بادروا إلى قتل أهل البلاد وإبادة الشعوب، ثمّ طفقوا يطمسون الهوية بردم اللغات المحلية، وكسر العمود الفقري لثقافات السكان الأصليين بتغييب لغتهم وتاريخهم وعوائدهم.
وفي هذا السياق قال “إليعازر بن يهودا”: لا حياة لأمة دون لغة، وغادر “جاك شيراك” وهو مغضب مؤتمرًا دوليًا حينما تكلم مواطنه الفرنسي بالإنجليزية، ورفض الحديث مع زعماء أمريكا وروسيا بلغتهم مع أنه يجيدها تمامًا. ومثله يصنع زعماء إيران واليهود في أكثر المحافل واللقاءات، وهو تصرف سابق من إمبراطور اليابان المهزومة بلاده في الحرب العالمية الثانية إذ رفض جعل التعليم بلغة أجنبية، ويماثله قرار صارم من رئيس كوري نحو إعلاء شأن لغة قومه حينما استصعب البعض “تكوير” المناهج الجامعية فأبى الرضوخ لإفكهم وعجزهم. وإن أيّ حراك إفريقي للخلاص من النفوذ الفرنسي ينطلق من الاعتزاز بلغاتهم المحلية وموروثهم الأدبي، ومتى عاد الأفارقة إلى لغاتهم وآدابهم فحينها سيزول الوجود الفرنسي الجاثم على صدر القارة الثرية الفقيرة.
ثمّ إن العبرية التي كانت لغة دينية ميتة محصورة في معابد اليهود فقط قد بعثت من مرقدها قبل احتلال فلسطين بخمسين عامًا، وهي لغة التعليم من مراحل الطفولة الباكرة حتى عتبات التعليم العالي الأخيرة ونهاياته، وهم أمة متقدمة تقنيًا وعسكريًا ونوويًا، ومثلها الفارسية لغة إيران التي تقترب من دخول النادي النووي، وإن أترك كثيرًا من القول فلن أدع الإشارة إلى أن جلّ الفائزين بجائزة نوبل، والذين سجلت بأسمائهم براءات اختراع، هم من أقوام درسوا بلغاتهم المحلية، وإن اللغة لمقاومة واعتزاز ونهوض، والتشبث بها منقبة حميدة، ومكرمة لا يحيد عنها عاقل.
إضافة إلى ذلك فتحت بريطانيا وأمريكا مئات المعاهد لتعليم الإنجليزية ونشرها في العالم، وأصدرت الجمعية الوطنية الفرنسية قرارات ملزمة باستعمال الفرنسية في المعاملات أجمعها، بل اقترحت فرض غرامة مالية على أيّ فرنسي يستعمل لفظًا إنجليزيًا له مقابل فرنسي! ولا يوافق الألمان على إجراء دراسة في بلادهم بغير الألمانية، وأنشأت حكومتهم سلسلة معاهد “جوته” لتعليم الألمانية عالميًا. ويمضي المهاجر إلى إسرائيل -للمشاركة في احتلال فلسطين- ستة أشهر كي يتعلم العبرية ويتخذ اسماً عبريًا له يغيّر به اسمه الأصلي. وأما اقتصاديات اللغة والاقتصاد الثقافي فحقل واسع ويكفي أن ندرك أن كبريات الشركات تقوم على أساس لغوي مثل “فيس بوك”، و “جوجل”، و “مايكروسوفت” وغيرها، ولو التفتت أيّ دولة عربية إلى استثمار لغتنا في التعليم، والتعريب، والترجمة، والانترنت؛ لحصدت من هذا الباب الواسع أموالًا ضخمة، بيد أن بني يعرب لا يأبهون للحسناء الشريفة المثرية التي يمتلكونها، وقديمًا كان الفتى العربي غريب الوجه واليد واللسان!
ومن عجب أن يحدب البعض على آثار ومبانٍ وأشياء قديمة في مقابل إهمال لغتهم القديمة المعمَّرة، ومن اللافت الذي يثير التساؤل أن جدال اللغة، والتدريس العالي بها، واستبدالها بأجنبية أو عامة، وصعوباتها الحقيقية او المتخيلة، لا يثور إلّا مع العربية، ولا نجده مع قريباتها السامية أو غيرها من اللغات. وأجزم أن شعوب الصين والألمان واليابان والإسبان والفرس والترك لم يتعرضوا إلى زلزال لغوي كما يجري على العربية العريقة، وبالمقابل لنقارن منجزات أيّ دولة من تلك الدول علميًا وعمليًا مع غالبية الدول العربية ليستبين لنا الفرق، ففي عدد من الأبحاث العلمية العالمية الرصينة باحث أو مساعد له لغته الأصلية تركية أو فارسية أو عبرية، وقلما تُفقد ترجمة العلوم ومخرجاتها إلى تلك اللغات، وأما الفتى العربي فمفقود باحثًا ولغته غائبة!
وربما يستغرب بعض قومنا إذا عرفوا بأن العربية كانت لغة العلم قرونًا متوالية ليست ببعيدة؛ “فنيوتن” على سبيل المثال يجيدها، وروي عن “روجر بيكون” أو غيره من الغرب أنه قال كلمة معناها لاحظ من العلم لمن لا يتكلم بالعربية. وقد ترجمت عنها أوروبا كثيرًا من الكتب والعلوم والفنون دون إشارة في أحيان متكررة حتى نهض بمهمة كشف تلك السرقات المشينة العالم المسلم التركي الألماني د.فؤاد سزكين، وكتابه التوثيقي لمرجعية لغتنا في تأسيس الحضارة الغربية جدير بأن يطبع من أيّ دولة عربية يسرها أن تفاخر بذلكم التاريخ العلمي الباهر.
أما الكاتب الأمريكي “روفائيل بتي” فيقول: أشهد من خبرتي أنه ليس ثمة من بين اللغات التي أعرفها لغة تكاد أن تقترب من اللغة العربية، سواء في طاقتها البيانية، أو في قدرتها على اختراق مستويات الإدراك، والنفاذ مباشرة إلى المشاعر تاركة أعمق الأثر في نفس السامع والقارئ، علمًا أن هذا الرجل يجيد تسع لغات، وشهادته هذه تشمل لغته الأم التي لا تداني لغتنا لولا قوة السلاح والاقتصاد والإعلام.
بناء على ما سبق يمكن الفوز بشرف خدمة اللغة العربية من خلال:
- تكثيف الارتباط بالقرآن الكريم والسنة والسيرة النبوية من خلال مشروعات متعددة فردية وجماعية.
- تطوير المعجم العربي القديم، وتقريبه للناس بأعمال تجديدية نافعة مثل بحث تاريخ الكلمة، وسياقات استعمالاتها، وإعادة الترتيب المعجمي، والاختصار.
- تفعيل مجامع اللغة، سواء الحقيقية منها أو الافتراضية، والتعاون فيما بينها.
- الإفادة من التقنية؛ لتعليم العربية، وتقريبها، ونشرها ودعم المحتوى العربي في الشبكة العالمية؛ كي يكون موئلاً لأهله، وجاذبًا لغيرهم.
- التواصل مع الجامعات الدولية المهتمة باللغات لتدريس العربية، وتحسين مناهجها، والبدء بجامعات غربية وشرقية لديها أقسام لتدريس العربية.
- مساندة اللغات التي تستخدم الحرف العربي، وتنشيط حركة الترجمة إليها، وهي الآن خمسة وعشرون لغة، وفي السابق كانت ثلاثة أضعاف هذا العدد.
- الالتزام الرسمي باللغة العربية في الحديث مع الوفود الأجنبية أو في اللقاءات العالمية، وتجويد لغة الساسة والإعلاميين.
- استثمار الاقتصاد لتعزيز مكانة اللغة، سواء في العقود، أو في الصادرات والواردات.
- فتح صفوف مجانية للأجانب القادمين للبلاد العربية، وإلزام الشركات الكبرى بذلك، ونشر معاهد لتعليم العربية بمناهج تفاعلية واختبارات تحديد مستوى أسوة بغيرها من اللغات.
- الإصرار على جعل اللغة العربية لغة رسمية أينما وجدت تجمعات كافية من المسلمين وبلدانهم، كما فعلت الدول العربية في الأمم المتحدة، وكما فعل المخلصون في اليونسكو مثل د.زياد الدريس وغيره.
- تجريم الاستهزاء باللغة عبر وسائل الثقافة والإعلام قديمها وجديدها.
- تحريم التعليم بلغة أجنبية، وسرعة التحول نحو تعريب التعليم والعلوم.
- تجويد طرق تعليم العربية حتى لا تكون صعبة على التلاميذ أو مملة.
- على البيت العربي والمسلم مسؤولية أساسية نحو اللغة تعليمًا واعتزازًا.
- مطالبة منظمة المؤتمر الإسلامي بتحمل جزء من العناية بالعربية.
أخيرًا فمن نافلة القول الذي اكتبه اضطرارًا الإشارة إلى أن الحديث ليس عن بلد معين، وإنما هو حديث لكل عربي ومسلم، وأن افتخارنا بلغتنا لا يفهم منه انتقاص لغات الآخرين ولا لومهم على الاعتزاز بها. وكذلك فلسنا في سياق الحجاج حول تعليم لغة أجنبية أو أكثر في سنّ مبكرة أو متأخرة، لأن تعلم أكثر من لغة موضوع اختلفت فيه الدراسات والآراء، وهو ربما لن يضر إذا كانت اللغة الأم مقدمة مقدرة موقرة غير مزاحمة ولا مزرى بها، مع التأكيد على خطر التعليم بلغة أجنبية وكارثيته. وأجدني مضطرًا لختم المقالة بقناعة لها ما يسندها وخلاصتها أن إجادة اللغة الأجنبية ليست شرطًا في امتلاك التنمية، وعدمها ليس سببًا للتخلّف، والدليل أن اليابان والصين وإسرائيل ودول أوروبا متقدمة قوية في مجالات شتى وهي تتعلم بلغاتها ومع ذلك نبغت وبرزت، بينما تنحدر كثير من دول آسيا وإفريقيا نحو الفشل وكثير من السوءات وهي ترطن بإنكليزية أو فرنسية وقد تنسى لغتها القومية أو الدينية!
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الثلاثاء 29 من شهرِ محرم عام 1443
07 من شهر سبتمبر عام 2021م
2 Comments
بارك الله بكم استاذ احمد ، حرصكم ومبادرتكم بالكتابة عن اللغة العربية موضع اهتمام كبير ، ينم عن ايمانكم بأن اللغة هي العمود الفقري للأمة . وهي عنصر توحيدها وقوتها . علينا جميعا ان نقف ضد خرق اللغة كما نلاحظ في الكتابة على صفحات التواصل الإجتماعي والبعيد كل البعد عن اتقان اللغة ، ولكن ذلك يتطلب ارادة سياسية وارادة اجتماعية واردة وطنية لحفظ الكيان العربي بلغته الجميله ، وما ذكرته اعلاه في المقالة الرائعه يبدأ من اعلى ليعتز قادتنا بلغتهم في كافة المحافل الدولية ، المدارس والمناهج والمراجع ….. كل ذلك بتطلب سياسات عليا اولا , والله ولي التوفيق .
شكرا لكم د.مقبولة والله يعين الجميع على تأدية الواجب وحث غيره على ذلك بالقدوة والقول والفعل، وبالنظام والسياسة.