مذكرات الكتبي النابه قاسم الرجب
ما أجمل أن يقع بين يديك كتاب يجتمع فيه عبق الزمان والمكان والإنسان والموضوع، ولعل هذا ما تميز به كتاب: مذكرات قاسم محمد الرجب صاحب مكتبة المثنى ببغداد، الذي قدم له وعلق عليه المؤرخ الموصلي العباسي د.عماد عبد السلام رؤوف، ونشرت طبعته الأولى الدار العربية للموسوعات عام (1429)، وجاءت في (296) صفحة، وصُّدر الكتاب بمقالة تأبينية للأديب الموصلي كوركيس عواد، وعلى الغلاف الخلفي كلمات تنبئ عن سعادة الناشر العراقي خالد العاني بهذه المذكرات التى خطها زميله وبلديه.
ذكر كوركيس عواد في مقالته أن مكتبة قاسم الرجب تحوي كتباً نفيسة وطريفة، وهو من أعرف العارفين بالكتب العربية، وله ذاكرة عجيبة، ولم تكن مكتبته حين اتسعت متجراً فقط؛ بل ملتقى لمثقفي البلد، ولا غرو لديه بأن الرجب خدم الثقافة وسوق الكتاب في العراق. وفي المذكرات ثناء عاطر من صاحبها على مؤازرة كوركيس له ونهمه في اقتناء النفائس.
بينما قال د.رؤوف في المقدمة إن أول مكتبة لبيع الكتب في سوق السراي ببغداد افتتحت سنة (1869م)، وأنشأها الملا خضر، ومع تكوين الدولة العراقية الحديثة زادت الحاجة إلى المكتبات؛ فبدأت دكاكين السوق تتحول إلى مكتبات على التوالي حتى صار سوق السراي مركزاً لبيع الكتب.
وفي عام (1930م) عمل الصبي قاسم الرجب بائعاً في المكتبة العربية التي يمتلكها نعمان الأعظمي، لكنه كان نابهاً تجاوز مرحلة البيع إلى بناء علاقة وثيقة مع الكتِاب والمثقفين على اختلاف مشاربهم، وأكسبته التجربة خبرة في هذه التجارة الماتعة حتى أقدم على تأسيس مكتبة صغيرة وسط السوق.
وبجرأة عجيبة؛ وبعد سنوات من العمل بائعاً؛ اقترض الرجب من قريبته أربعة دنانير ونصف، والأعجب أنها أقرضته فاشترى معجم الأدباء من الخارج ثم باعه وهكذا كلما باع نسخة منه طلب غيرها رافضاً شفاعات الوسطاء من زبائنه سابقاً كي يعود لمكتبة نعمان، ثم شاركه خاله فاكترى دكاناً وسط السراي لا تزيد مساحته عن مترين، واتخذ من أخشاب الصناديق رفوفاً غير جذابة وافتتح مكتبته في 05-07-1936 م.
فأسمى متجره مكتبة المعري؛ لكن صديقه الأستاذ عبد الستار القره غولي أشار عليه بأن يغير الاسم إلى المثنى نسبة إلى المثنى بن حارثة -رضي الله عنه- أحد المشاركين في فتح العراق، وكانت الروح الوطنية حينذاك في أوجها فامتثل إشارته وغير الاسم، ثم ألف الأستاذ القره غولي كتاباً عن المثنى بن حارثة وأشار فيه لافتتاح المكتبة؛ ووضع على غلاف الكتاب: يطلب من مكتبة المثنى، وكان هذا أول كتاب يذكر عليه اسم قاسم الرجب.
لم يعتن الرجب بكمية المعروض وإنما بنوعيته؛ فغدت “المثنى” في خمسينيات القرن المنصرم المكتبة الأولى في العراق، وامتدت صلات مالكها بكبار الناشرين وخبراء المخطوطات في العالم العربي؛ حتى عده الدكتور محمود الطناحي من خبراء المخطوطات والتراث، وأصبحت المكتبة ندوة ثقافية مفتوحة، ومعلماً يقصده زوار بغداد من العلماء والأدباء.
وفي السبعينات أعاد قاسم الرجب طباعة النفائس النادرة، وتجليدها وفق أصولها دون إغفال بيانات الطبع؛ واسم الناشر الأول ومحققيها، وقد بلغ مجموع ماطبعه (250) كتاباً بعضها يقع في بضعة مجلدات، وأثنى د. الطناحي على هذه الخطوة الريادية غير المسبوقة، وأشاد بأمانة هذا الكتبي وحفظه للحقوق. وقد أورد المؤلف مسرداً ببعض هذه الدرر في أواخر الكتاب.
وهو صاحب أفكار متعلقة بالكتاب مما يدل على استيلائه على ذهنه، فأصدر فهرساً سنوياً بقائمة محتويات المكتبة، ومجلة شهرية أسماها المكتبة، وافتتح فروعاً لمكتبته في داخل العراق وخارجها، لكنه تعرض لضغوط مالية ونفسية من جملة ماتعرض له العراق من بلاء على يد الشيوعين ثم البعثيين، حتى مات فجأة خلال زيارته لبيروت في الأول من أبريل عام (1974م) -أي قبل أربعين عاماً- فرحمه الله وأجزل مثوبته.
وكان قد كتب مقالات فيها ذكرياته ونشرها في صحف بغدادية وفي مجلة المكتبة، لكن د.عماد ظفر بدفتر يحتوي على مذكراته كاملة، وتشتمل على المقالات السالفة وغيرها؛ فاعتمد نشرها لما في ذلك من فوائد موضوعية وزمانية، وقد أحسن غاية الإحسان، وحفظ لنا تاريخاً جميلاً، وسيرة عذبة من سير النضال الثقافي.
سطَّر المؤلف ذكرياته في مقالات قصيرة ماتعة، وحافظ على وحدتها الموضوعية، ووصف نعمان الأعظمي-صاحب المكتبة التي عمل بها أول مرة- بأنه كان سمحاً في البيع والشراء والمعاملة، ويقبل إرجاع الكتاب ولو بعد حين من شرائه، ويبدو أن السماحة تعدت إلى مضمون الكتب؛ فإذا عصت عليه جمل أو كلمات في ملازم المطبوعات أكملها حسب إدراكه دون تقيد بالنص! وإذا رأى ورقات قد تزيد من حجم الكتاب مزقها قبل الطباعة! وإذا باع كتاباً تغزل به؛ ويضرب المجلدات ببعضها حتى تظهر صوتاً كما يفعل باعة الأحذية ثم يقول كل الصيد في جوف الفرا، وهو رجل كثير النسيان ولا يحب المطالعة، لكنه اكتسب دربة من كثرة عمله في الكتاب، ومن رحلاته والتقائه بالكتبي الخبير محمد أمين الخانجي.
وقد عمل الرجب في مكتبة الأعظمي سبع سنوات بحماسة واجتهاد، ولم ينقطع عن العمل لا في عطل ولا جمع، واكتسب فيها معرفة وثيقة بالمؤلفين والكتب والقراء مما سهل عليه الاستقلال في مكتبة خاصة له. واستثمر فائض الوقت في القراءة، وكان لكتاب الأغاني فضل في تحبيب القراءة إليه، وليس الروايات الفجة أو كتب المختارات الهشة التي ابتلي بها البعض. ومن خبرته وصف الكتب الروحانية بقوله: اقرأ تفرح، وجرب تحزن، ووصف قراءها بأنهم: “مغفلون فاشلون في الحياة فراحوا يتشبثون بالأوهام والخيالات ويستعينون بالأكاذيب والترهات “.
وتحدث عن أصدقاء السوق وهم من نخبة المجتمع العراقي مثل طه الراوي، وجميل الزهاوي، ونوري السعيد. وأكبر زبون للسوق هو المحامي عباس العزاوي؛ الذي يدخل السوق أربع مرات يوميًا، والكتاب المخطوط يظل على الرف لسنوات إن لم يبتعه العزاوي. وشهد أنه لم ير كثيراً من أصحاب الأقلام والأعمدة الصحفية في السوق، وعجباً من كاتب ليس بقارئ!
ودون ضجر قال بأنه لم ير أحداً أحرز ثروة من تجارة الكتب، ولو زاد لقال: ومن القراءة أيضًا. وذكر أن اليهود يسيطرون على سوق الورق والقرطاسيات في العراق، ويتجرون ببيع المصاحف واللوحات القرآنية، وبحسرة الكتبي المثقف جزم أن جل تجار الكتب لا يفقهون ما بداخلها.
وقسم الزبائن: فمنهم الخبير العارف، وفيهم المولع بالكتب الجنسية، وبعضهم يشتريها ولا يستفيد منها إنما يتخذها للزينة، وبعضهم لا يساوم في قيمتها وإن ارتفعت كالفقيه الورع أمجد الزهاوي الذي كان مفتياً عثمانياً للأحساء عام (1906م)، وكان لا يدخل المكتبة منتعلاً، وقد سرقت مكتبته المنزلية مراراً وبيعت محتوياتها القيمة.
ومن الزبائن من يفاصل في قيمة أي كتاب، ومنهم من تمنعه قلة ذات اليد من شراء بعض الكتب حتى يضطر لاحقاً لدفع أضعاف ثمنها، ومن الطريف أن الكردي لا يشتري كتاباً مالم يكن ورقه أصفر نباتي؛ فإذا اضطر لشراء كتاب مطبوع على ورق أبيض صبغ صفحاته بالزعفران.
وأصبحت “المثنى” مكتبة معتمدة لدى كبريات المكتبات التجارية والحكومية في العالم؛ والسبب أن مكتبة المثنى لا تهمل طلباً، ولا تتأخر في الرد على أي رسالة تصلها من أي مكان، ومن أعجب ما مر عليه رسائل من جامعات يابانية تطلب كتباً دينية وتاريخية ولغوية. وكانت المكتبة تضم أحدث الاصدرات وأنفسها مع صغر حجمها مما أحدث دوياً في الاوساط الثقافية، وأصبح قاسم أنشط كتبي يوزع الكتاب الممنوع حتى اشتهر بذلك؛ وعندما زار أخاه في سجن أبي غريب، رأى أحد زبائنه مقيداً بالحديد فسأله: “اشجابك” -يعني ما الذي أتى بك إلى السجن؟- فأجابه المثقف الأسير: كتبك الممنوعة!
ومن الغرائب حسب المؤلف أن الكتب الشيوعية كانت ممنوعة، وبعد ثورة 14 تموز صرنا نعجب ممن يسأل عن كتاب غير شيوعي، ورأينا مئات من الناس ممن لم نعهدهم من زبائن الكتب يتأبطون رزماً من الكتب الشيوعية التي لا أظن أن أحداً منهم قد فهم شيئاً من رموزها وطلاسمها، ولذلك دهش صاحب المذكرات من زبون طلب بعض تفاسير القرآن وكتباً إسلامية!
وذكر أن كتب القانون والاقتصاد أقل شيء يطلبه الزبائن، وأكثر الكتب المطلوبة هي الروايات، وأن الكتب الجنسية نادرة جداً مع شغف البعض بها، ومن هذه الأخيرة كتاب رشف الزلال من السحر الحلال للسيوطي وهو عبارة عن عشرين مقامة على لسان عشرين عالماً دخلوا على زوجاتهم في ليلة عيد الفطر! وذكر عن نائب مثقف أن مكتبته تحوي كتاب “جامع اللذة” وكان لا يعيره إلا لمن وثق بأنه متزوج أو على أهبة الزواج، وما أجمل التبصر من الكتبي حتى لا يضل غيره.
ومن أحزن ما في المذكرات خبر اثنين من أكراد السليمانية درسا في الأزهر، ثم فتح كل واحد منهما مكتبة ومطبعة، ونشرا كتباً علمية لابن تيمية وابن القيم، لكنهما اعتنقا البهائية، وأخذا ينشران الكتب البهائية ومؤلفات تولستوي التي توافق معتقدهم الجديد، فاللهم نعوذ بك من الحور بعد الكور. ومن العبر ما أشار إليه د.عماد في أحد الحواشي من أن جامع السراي حمل اسم أربعة حكام في أعصار مختلفة؛ لكن اسمه آل إلى السراي، وما كان لغير الله فليس يبقى.
ومما في ورد في هذه المذكرات النفيسة أنه صدر في عام (1931م) كتاب عن عبدة الشيطان في العراق، وخبر المكتبة القادرية وهي وقف علمي من تجار العراق على طلبة العلم وكانت تتفوق على المكتبات الحكومية، وأن باعة الورق يشترون الكتب المدرسية ويستعملون ورقها في لف السجائر، واليهود يبحثون عن الكتاب المستعمل وقلما يشترون كتاباً جديدًا، وكانوا يسيطرون على سوق الصاغة خلا تاجراً مسلماً واحدًا، ويجاور هذا السوق سوق الكتب، ولا يعمره سوى الأغنياء والراقصات الشقراوات اللاتي يسلبن أموال رجال بغداد ويحولنه لذويهن.
وأكثر مدن العراق شراء للكتب هي بغداد والنجف والموصل والبصرة وكربلاء، وأقلها الكوت والرمادي، وكان سوق الكتب مزاراً للمستشرقين ومن يخدمهم؛ حتى أن يهودياً عراقياً اشترى أكثر من ألف مخطوطة وباعها في مهجره بأمريكا لجامعات ومراكز بحثية.
وعاب المؤلف على موظفي المكتبات العامة جهلهم بالكتب جديدها وقديمها، وكان المطلوب منهم أن يكونوا عوناً للباحث ومجيباً للسائل، ولا يتأتي ذلك إلا بمتابعة دقيقة لسوق الكتاب، وأذكر أن ألبيرتو مانغويل قد ذكر نفس الملاحظة في كتابه “المكتبة في الليل” الذي صدرت ترجمته العربية عن مكتبة المدى العراقية وسبق لي الكتابة عنه. ومن ذكاء قاسم أنه أجبر المكتبة العامة على شراء كتب من مكتبته، حين نشر مقالة في الصحف استنكر فيها خلو المكتبة العامة من كتب بعينها.
وإذا كنت من محبي الكتب فابحث في مكتبتك عن مطبوعات عليها اسم مكتبة المثنى، وإذا نظرت في سيرة هذا الرجل المكافح فلا تحرمه من الدعاء بالرحمة والمغفرة لإخلاصه وحرصه على توقي الحرام. ونأمل أن يكون أصحاب المكتبات والناشرون في عالمنا مثله حرصاً واجتهاداً وصبراً على الرقابة وإحنها، ولهم من جمهور الكتب خالص المحبة وصادق الدعاء.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرِّياض
الجمعة 20 من شهرِ جمادى الأولى عام 1435
One Comment
جزاك الله خيرا . مقالة جديرة بالقراءة .ارجعتنا الى ايام ذهبت ولن تعود .