الوزير المانع يترافع لكم.. وللتاريخ!
صدر عن دار طوى للنشر الكتاب الأول لوزير الصحة السعودي السابق د.حمد بن عبد الله المانع بعنوان: لكم وللتاريخ: سيرة وزارية صريحة. ويقع الكتاب في 250 صفحة تقريباً، ويمتاز بتركيزه على الفترة التي قضاها المانع وزيراً للصحة؛ أكثر الوزارات الخدمية تماساً مع حياة الناس وتعرضاً للانتقاد.
والكتاب مقسم على فصول تختلف في حجمها، ولكل فصل عنوان خاص به، وغالب العناوين جذابة، وتحت كل عنوان اقتباس يحمل دلالة عميقة على مضمونه، ويكثر المؤلف من الاستشهاد بمقولات من حضارات مختلفة؛ فضلاً عن وقفات يراها مناسبة للتذكير بعبرة إدارية أو حياتية تفيد من ينشد الإنجاز ويروم النجاح.
لم يكن في حسبان المؤلف أن يكتب سيرته يوماً ما، لما في ذلك من مشقة؛ فضلاً عما يعتري الكتابة من ضرورة التَّعرُّض لأحداث وأشخاص تفاعلت مع صاحب السِّيرة إن سلباً أو إيجاباً، لكنه تلبية لطلب أصدقائه، ورغبة في تحقيق المنفعة العامة، قرر أن يعكف على تدوين سيرته الوزارية متعهداً بثلاثة أمور: الصدق، والمحافظة على أسرار الدولة، ونسبة الإنجاز للفريق المشارك معه دون أن يتهرب من مسؤولية أي خطأ كان خلال فترته الوزارية، وعزاؤه أن الخطأ غير مقصود، ولا يسلم منه بشر ألبتة، مع بقاء التحرج لديه من تفسير صنيعه على أنه تشييد مجد شخصي، أو الدِّفاع عن تاريخ مضى بما فيه.
تخرج المؤلف في كلية الطب عام 1404، وبعد ذلك بعشرين عاماً اختير وزيراً للصحة بعد أن قضى ثلاث سنوات مديراً عاماً للشؤون الصحية في الرياض، وقد كان هذا الاختيار فاتحاً لشهية الكثيرين حيث لم يعهد المجتمع تسمية وزير في مقتبل الأربعين، أو انتقال موظف من مدير عام منطقة إلى منصب الوزير مباشرة.
وفي سياق ترشيحه للوزارة، والمكالمات المهمة التي تلقاها، والتعليمات التي أعطيت له، والحوادث المتعاقبة خلال أسبوعين فيما بين إخطاره بالترشيح والإعلان الرسمي، دلالات ذات معنى، ومواقف تحث الناس على تقديم الحسن من القول والفعل فربما يصبح من أمامك رئيسك في يوم قريب! ومن الموافقات أنه تلقى خلال هذين الأسبوعين اتصالين من مسؤولين رفيعين؛ الأول يخبره بأنه مرشح للمنصب والثاني يؤكده له، وكان الاتصالان في يوم الأحد من كل أسبوع؛ وهو يستعد لإجراء عمليات جراحية!
وقبل أن يتحدث عن تجربته في الوزارة عرج على إفادته من قربه الإداري في مجلس منطقة الرياض من الأمير سلمان- أمير الرياض آنذاك-، وذكر بعض التجارب التي عادت عليه بالفائدة الإدارية والإنسانية، ثم طالب الوزراء بتدوين أعمال وزاراتهم خلال الفترة التي قضوها على مقعد الوزارة، لأن هذا من حق الوطن وأجياله، وليتهم أن يستجيبوا لمقترحه بصدق وتجرد.
كذلك من محتويات الكتاب قصص تأخذ القارئ معها، وتنفي عنه الملل، فمنها موقف الوجيه المتعالي، وواقعة استرجاع أرض الوزارة بالقوة، وتفاصيل قرار منح موظفي مشافي الوزارة إجازة نهاية الأسبوع أسوة بموظفي الدولة، وضغوط السفارات الأجنبية على الوزارة لرفع أسعار الأدوية، وحرب التبغ ومقاضاة شركاته، وقراران أثارا جدلاً؛ أحدهما خاص بمنصب مدير مشفى العيون التخصصي؛ والثاني بمراكز الأعمال، ثم معضلة ندرة وجود أراض لمشروعات الوزارة حتى استطاع الوزير الحصول على غيرما أرض من بعض الأمراء إضافة إلى أرض من وزير التربية، وبلفتة رمزية يوجه المؤلف نصيحة لمن يمشط الأجرب بألا يتوقع منه غير الأذى!
ومن الفصول المؤثرة النقاش تحت قبة مجلس الشورى مع عضو كان مديراً عاماً في الوزارة، والسجال مع عدد من الوزراء-مجتمعين أو منفردين- حول بعض أعمال الوزارة، والمواقف الإعلامية التي تعرض لها الوزير مابين تصريح منحول يضطر لتكذيبه، وحكاية مريضتي الإيدز التي ناقشها بإسهاب، مروراً بفاجعة استئصال رحم الأمة وما خلف أكمتها! ووفاة رزان طفلة جازان، وما جرى للمذيع مع الحاضنة، وصولاً إلى فرية تعرية مرضى شهار، ثم واقعة طفلي نجران التي شغلت الرأي العام السعودي والتركي، وانتهاء بجلوس أصغر أنجال الوزير على منصة المؤتمر!
كما لا يترك د.المانع قارئه دون أن يرسم البسمة على شفتيه بأحداث طريفة، مثل القبض عليه من قبل عشر سيارات شرطة في إحدى الليالي، والفلاشات التي يتهم بترتيبها مسبقاً وكيف يجيب عنها، وعصا العم ودران الغليظة التي كادت أن تقع عليه لولا ستر الله، وخاتمة الطرائف مع ذاك الطبيب النادل! ومن الغرائب التي ذكرها أن خلفه افتتح أبراج مدينة طبية سبق أن افتتحت رسمياً! وعرض الوزير الخلف نموذج المراكز الصحية على الملك مع أن الملك قد اعتمدها أيام المانع وجرى العمل بناء على ذلك الاعتماد! ومما يبهج القارئ سرد خطوات اتخاذ أسرع قرار في تاريخ مجلس الوزراء، حيث صدر أمر إلزامي بالفحص الطبي قبل الزواج استجابة لصرخات طفل في خميس مشيط ظلت تدوي في مسامع الوزير ذات ليلة من ليالي التجوال.
وقد تحدث المؤلف عن رؤيته وأسهب في شرح سبل تحقيقها، وكانت مكونات هذه الرؤية مكتوبة على لوحة في غرفة الاجتماعات كما في إحدى الصور الملحقة، والمؤلم أن بعض من شارك مع الوزير المانع في اجتماعات هذه القاعة أنكر وجود شيء اسمه الحزام الصحي ضمن رؤية الوزارة! وقد يكون الإنكار متسقاً مع موقف الوزير الخلف من هذه الفكرة وغيرها، وأياً كان فإن المواطن سيسعد حين يعلم أن للوزارة رؤية معلنة، يراها كل من يدخل إلى غرفة الاجتماعات.
يأتي على رأس هذه الرؤية تشغيل مدينة الملك فهد الطبية؛ حيث كان إنجازا ًكبيراً وتحدياً صعباً يحسب للمانع وللفريق المشارك معه مابذلوه من جهود مضنية لبدء العمل فيها؛ خاصة ماقام به د.عبد الله العمرو الذي تولى إدارتها وحمل عبء التأسيس وعنائه، حتى أصبحت المدينة بمشافيها ومراكزها وأسرتها وطاقمها تنافس مثيلاتها المحلية أو تتفوق عليها، وربما لم يصدق أحد أن هذه المدينة الضخمة التي كانت تشبه المقابر ستدب فيها الحياة لينتفع من خدماتها التخصصية المرضى في كل مكان من المملكة.
ثمّ يلي تشغيل المدينة افتتاح كلية طب فيها، والعنت الذي قوبلت به هذه الفكرة من وزارة التعليم العالي مع أن الكلية اعترف بها دولياً، وسبقت مثيلاتها إلى تنظيم مؤتمرات عالمية وإقليمية، وحصلت على شهادات وتزكيات وعضويات معتبرة، ومع ذلك لم تحظ باعتراف من وزارة التعليم العالي! علماً أن د.إبراهيم الحقيل الذي تولى هذا العمل المتقن، هو أحد منسوبي وزارة التعليم العالي! وقد أثنى عليه المؤلف كثيراً ووصفه بالعميد المؤسس، وبعد إعفاء المانع عرضت للكلية أحداث وصفها بالغربية، وآلت بها إلى الذوبان وكأنها كانت منكرا ًيجب إزالته!
وأما الحزام الصحي فكانت فكرته بناء مستشفى تخصصي في كل منطقة؛ لتقليل سفر المرضى وتخفيف الضغط على مشافي المدن الكبرى، وهو من المشروعات التي قلصت بعد رحيل المانع عن الوزارة لأسباب لم يعلن عنها بعد، وكما التف حزام خانق على فكرة الحزام أصبح مصير “بلسم” مجهولاً؛ وبلسم هو مشروع التأمين على المواطنين بعد أن اكتمل التأمين على المقيمين، ويعد إتمام هذين المشروعين تمهيداً لخصخصة القطاع الصحي مما قد ينقذه من مشكلاته.
وعلى غرار الكلية وبلسم والحزام عرض د.المانع عدداً من المشروعات والبرامج والأفكار، كبرنامج الملف الطبي الموحد، ومكافحة مرض السكري وغيرهما، وتساءل بحرقة عن مصير ما أوقف منها وعن أسباب إلغاء أو تجميد بعضها، وكرر مراراً أنها مشروعات وطنية بغض النظر عمن ابتدأها، وعسى ألا تكون صرخته بلا صدى! والمأمول أن يوضح الوزير الخلف وجهة نظره، قبل أن يحمي وطيس نقاشها عبر الإعلام؛ أو يفتش عنها صانع القرار أو متخذه.
بينما أفرد المؤلف فصلاً لبيان منهجيته الإدارية التي أقصت أناساً، وأدنت آخرين فيما قلصت صلاحيات فريق ثالث، وتوقف في عدة محطات دولية ليمد القارئ بإنجازات ومعلومات ربما يتعجب من بعضها ويطرب أن كان لبلاده فيها يد مصلِحة وسباقة. ومن الفصول الأليمة زفرات المؤلف عن صدمة الكادر الصحي حين كان يسعى لإقراره ويجد ممانعة من بعض الوزراء الذين لايزال أكثرهم على قيد الحياة، ثم يُتخذ قرار بذات الأمر الذي طالب به ولكن بعد رحيله مباشرة، وكأنه أمر بيت بليل لأجل أن يكون الكادر في غير أيامه، وبدا أن المانع من اعتماد الكادر ليس سوى وجود المانع!
وفي أواخر السيرة يذكر المؤلف كيفية وصول خبر الإعفاء إليه، حيث اضطر لقطع إجازته والعودة إلى المملكة لأخذ أغراضه الشخصية من مكتبه وترتيب استقبال الوزير الخلف، لكنه تفاجأ حين ذهب إلى مكتبه بوجود الوزير الجديد، مع أن العرف جرى بعدم مباشرة الوزير أعماله إلا بعد أداء القسم! ثم يعود الوزير السابق إلى بيته ليجد نفسه ملكاً بين أسرته تحفه مشاعر حب وإعزاز من زوجه التي صبرت وصابرت كثيراً، ومن أولاده وبناته الذين طالما قطعهم المنصب عن الاستمتاع بأبيهم، تماماً كما حرمته المسؤوليات من لذات الشعور الأسري.
ثمّ ختم الوزير كتابه بملحق حول الاستراتيجيات الصحية وآخر فيه بعض الصور، وعلى غلافه الخلفي كلمة مختصرة أنهاها بقوله: “وفي هذه السِّيرة جهود ونقاشات وآراء ومواقف ورجال وأفكار وحكايات، وأطلب من القارئ الحصيف أن يطالعها بذهن متوقِّد، وفكر مستقل، وأن يضع لها ما يشاء من أسئلة واحتمالات، آملاً منه أن يثق أنِّي قد سطَّرت ما سيراه: صادقاً في اعتقاده، ناصحاً في إيراده، غير متشبع بما لم أعط في تعداده!”، وهذه دعوة منصفة من الوزير المانع لكل قارئ بأن يدع الأحكام الجاهزة، ويقرأ ويفكر ويناقش، فالفضاء أضحى متاحاً للرأي والرأي الآخر أكثر من ذي قبل.
أحمد بن عبد المحسن العسَّاف-الرِّياض
الخميس 29 من شهرِ ربيع الأول عام 1435
4 Comments