عبدالرحمن وزكية: تضامن فريد
شاء الله الحكيم الخبير أن أقترب من سيرة الدكتور عبدالرحمن بن صالح الشبيلي من نوافذ لم يتعرض لها في سيرته الذاتية الجميلة المنشورة بعنوان “مشيناها… حكايات ذات”؛ لأن الرجل تحاشى التفاصيل التي تحرجه بالثناء على ذاته بحكم طبيعتها، أو مقتضى سياقها، أو دلالة معناها، وهو الذي دأب على هضم نفسه لدرجة أنه يمضي وقت صمات طويل في مجلس أو يكون الأقلّ حديثًا فيه مع أنه الأحقّ أو من أحقّ الحاضرين بالكلام إما لتخصص أو ثقافة أو خبرة أو سنّ.
ولأني كنت بالقرب لفتت نظري نوادر في العلاقة الطويلة التي جمعت بين د.عبدالرحمن بن صالح العبدالله الشبيلي (1363-1440) وزوجه زكية بنت عبدالله المنصور أبا الخيل (1367-1442)، وهي علاقة زوجية روحية تضامنية متميزة ذات إسهامات خاصة وعامة، ومفتاحها الأعظم أنّ الواحد منهما ساهم بصناعة الآخر وإبرازه إن بسبيل مباشر أو غير مباشر. وخلصت من تلك الملاحظات إلى نتائج ربما تفيد أيّ زوجين في مبتدأ حياتهما أو في وسطها أو حتى بعد نصف قرن مثل شخصيتي العنوان، والمهم أن يؤول الأمر إلى التئام أسري بلا شقاق ولا جروح مؤذية، ولهذه الغاية كتبت عسى أن يعمّ ثوابها الكاتب والقارئ والناقل وصاحبي القصة.
ففي أول شأنهما، وجد الشاب الشبيلي في الفتاة العنيزاوية القادمة من العراق شيئًا مختلفًا في الأناقة والوعي، كما لمحت هي فيه ذات الأمر من الطموح والهدوء، وأفاد كلّ واحد من الآخر باستثمار أحسن سماته واقتباس جذوة منها تزيد أو تنقص. ووازنا في بيتهما بين الانفتاح والمحافظة، وبين الجدية والمرح، وبين الخلطة والعزلة، حتى أصبح التوازن سمة بيت أبي طلال وأمه، ولعلّ هذه الصفة النفيسة كانت واحدة مما ساق الأرواح والقلوب إلى هذا البيت وساكنيه، فالنفس تنجذب إلى أيّ كيان متصالح يقوم على القبول والإعذار ومراعاة الأطر العامة، ولديه استعداد لأن يتجاوز أخطاء الماضي القريب أو البعيد، ويستطيع إعادة تهيئة نفسه ذاتيًا وفق المستجدات ولوازم الزمان والمكان والحال.
ليس هذا فقط، بل إن علاقة الزوجين تزداد بمرور الأيام وكرّ الليالي قوة خلافًا لكثير من البيوت، وحين تقدم العمر بهما لم يزهد طرف بطرف، بل غدت زكية أحبّ إنسان يمشي على الأرض عند عبدالرحمن، وصار هو أعزّ رجل في الدنيا عندها. ثمّ زادت متانة هذه الصِلات بعد أن خلا منزلهما من كواكبه الثلاثة، واستوثقت بعد أن هوى كوكب من علياء مكانه إلى مدفنه تحت الأرض، وأصبح كلّ واحد منهما ملء سمع الثاني وبصره، والمستولي على تفكيره واهتمامه دون منازع أو منافس، وفي هذا وداد خالص، ووفاء لم يدركه المشيب، ولم يكتّما هذا الإحساس بين ضلوعهما، فهو بها يفاخر، وهي به تتباهى.
ومن فرائد الزوجين، أن أبا طلال أنزل نفسه منزلة أيّ فرد من أسرة أبا الخيل العريقة من قبيلة عنزة، فمنح التوقير لآباء زوجه وأجدادها وأعمامها وأخوالها دون أن يرى بعضهم، ولو امتد به عمر لكتب عنهم كتابة وافية كما فعل بسيرة أخيها الوزير الشيخ عبدالرحمن (1345-1442). واتخذ من أخوتها وأزواج أخواتها أصدقاء ومستشارين، وسعد بوجود تزاور عائلي كثيف مع بيوت الأسرة وأنسابها بمن فيهم من أطفال حظي بعضهم بقضاء أربعين النفاس في دار الشبيلي إضافة إلى زمن الصبا الجميل.
فبادلت المرأة زوجها العمل الراقي ذاته، وجعلت من نفسها ابنة لأسرة الشبيلي العريقة من بني تميم، ولم تتمكن من فعل شيء كثير لوالد زوجها (1318-1392) الذي ارتحل عن الحياة بعيد زواجها بسنوات قليلة، ولكنها قامت مقام البنت الخامسة لوالدة الزوج، والأخت الإضافية لشقيقاته، تفرح بوجودهم معها، ولا تتضايق من صرف زوجها الوقت معهم فضلًا عن غيره، وتسعد بأيّ اجتماع أسري واسع أو مختصر يضمه دارها؛ لأنها تعلم علم اليقين أن لصاحبها أثر في محيطه وهو فاعله ولابد.
كما امتاز الزوجان بظاهرة عجيبة عبّر عنها جمع من المحيطين بهما، فهما أستاذان بارعان في “التوجيب”، فعندما تحلّ مناسبة أو حدث، يبادران لفعل الواجب والمستحب والنافلة، حتى أن د.عبدالرحمن يصل أطرافًا بعيدة من أهله وأهل زوجه، وهكذا فعلت عقيلته زكية، وينفقان من مشاعرهما ووقتهما ومالهما ما ليس مفروضًا عليهما؛ فنشأ الصغير على حبهما وتوقيرهما وتقدير سمة البِدار هذه، ووقع لهما في قلب الكبير مكانة بارزة وإن جاءت متأخرة، وأما النظير ومن في فلكهما فيراهما نموذجًا جديرًا بالمسابقة أو المواكبة أو المتابعة، ومن لم يفعل أقر لهما بالسبق والأولوية، وإن من فاضت بركاته استحال جحودها ونكرانها أو الغضّ منها.
ويرتبط بذلك خلّة أخرى هي الكرم الذي ظهر جليًا في الولائم الكبيرة فما دونها، وفي اجتماعات المواسم مثل رمضان والعيدين وغداء الخميس الأسبوعي. ومنه المزرعة الشبيلية التي صارت موضعًا متاحًا للجميع حتى سمعتُ من بعض المستفيدين منها ظنهم بأنها لهم من كثرة مبيتهم فيها، ومع المزرعة التمور التي تذهب هنا وهناك، ويتبع التمور ثقافة النخيل التي لا يتوانى الشبيلي عن نشرها. ومن الطريف أن أبا طلال رسم لزوجه على ورقة بيضاء مواقع المنازل المرتبطة بالأسرة حسب جهات الرياض؛ كي لا يُرهَق السائق وتكون مشاويره للبيوت في جهة واحدة مرة واحدة، وهذا صنيع قوم رحماء لأن السائق سيذهب لجميع الجهات، ومن التخفيف تخصيص كل جهة بيوم.
كذلك لاحظتُ أن أصدقاء ركني هذه العلاقة التي تجاوزت نصف قرن يشعرون بمنزلة كلّ واحد منهما عند الآخر، فأصدقاء الشبيلي على كثرتهم وتنوعهم سمعوا منه الحديث عن أم طلال والثناء المتواتر عليها، وبالمقابل لمح مجتمع زكية النسائي – والنساء ماهرات في اللمح- تلك الوشائج المكسوة بالمعاني الجميلة بين الزوجين دون أن تتراخى العلائق أو تشيخ المعاني وتهرم فلا يكاد يسندها ولا حتى عصا سليمان وهو حال أزواج آخرين! وتجلّى سمو الصداقة حين بكت النساء رحيل زوج رفيقتهن، واستبان يوم أن ذهب الرجال إلى المسجد والمقبرة لتشييع زوجة صديقهم، وهو ملمح لم يفت على بصيرة الكاتب الموفق د.زياد الدريس.
ثمّ إن الزوجين وقد اكتهلا ثمّ شاخا وودعا عالم الأبوة قبل عقود، ودخلا إلى عالم “الجِدادة” منذ عقود أقل، قد عادا بقوة وبلا تلكؤ إلى دنيا الأبوة بعد رحيل نجلهما الوحيد طلال، وتجددّ أحوال استوجبت عليهما منح عدة أطفال وشباب الشعور الكامل بوجود الأب مع غياب الأب الحقيقي، وبوجود الأم إضافة إلى وجود الأم المنجبة وحضورها الكامل بلا قصور. وكانت عودتهما مشتملة على حكمة الكبير ورحمته وحدبه، ورجاء الثواب من الله بكفالة اليتيم وحسن العهد مع الأرملة، ويا له من مغنم أخروي يفرط فيه من يبتلى به.
تلك هي حياة زوجين تقاسما لذيذ الحياة ولواعجها، وعاشا عمرهما بسمو المعنى أكثر من العيش بترف المادة، وتقاسما السعادة ونقيضها، ففرحا كثيرًا واشتركا بالفرح، وأدركتهما الأحزان مثل غيرهما حتى أصيبا برزء فقد الابن الوحيد، فحمل الرجل الحزن في قلبه واستلّه من قلب زوجه وعينها قدر استطاعته؛ وأودع في قلبه المثقل حزنًا مضاعفًا، وتغازرت دموع عيونه بما لم يُعهد عنه من قبل، وكلّ هذا حذار أن تستبدّ لوعات الأسى بحبيبته فتقتلها أو تحرّق كبدها، ولذلك أنست زكية بموقف زوجها وتعزّت بوجوده، حتى فارقها فجأة، فانبجس الحزن مضاعفًا بين شرايين القلب والدماغ وأوردتهما، واستقلت بحمل الأثقال الشداد التي صرفها زوجها عنها إلى أن رحلت مشتاقة إلى اللقيا، مرضية عند من بقي من الآل وذوي القربى. ومن عجيب شأنهما مع مرض ابنهما أن الجلطة داهمته خلال ساعة عند أبيه فيها مناسبة منزلية، فلم تخبر زكية زوجها إلّا بعد أن وضع العشاء، وفرغ الأضياف منه، وهو عمل ينم عن حكمة وحسن تصرف.
وهي قصة يصدق عليها بأن وصف الطيبين للطيبات متحقق في أبطالها تمامًا، إذ أجاد الزوجان تمضية الحياة بعفوية حينما تكون التلقائية أحلى، وبدبلوماسية عندما لا يكون مناص من الذكاء، وبحزم إذ كان لا ينفع إلّا الحسم. ونجحا كثيرًا في قراءة دقائق النفس البشرية والعزف على أوتار مشاعرها حتى تسكن نفس، وتهنأ روح، وتنشط جوارح، وتذوب حزازات، وتنبعث آمال، وتحلو الحياة صبرًا على أكدارها، وشكرًا على مسراتها، ورجاءً لغيب أجمل.
ثمّ شاء الحكيم الخبير أن تكون النهاية متشابهة في أدق تفاصيلها، فحكاية رحيل عبدالرحمن ورحيل زكية، وتفاعلات ما بعد الرحيل، تكاد أن تتوافق لتقف شاهدة على أن الزوجين امتزجا في محياهما، ولم يقطع رحيل أسبقهما هذا الامتزاج، بل أصبح رحيل الثاني تأكيدًا على هذه الظاهرة اللافتة التي اطلعت عليها وتأملت فيها قارئًا ومستمعًا ومحاورًا، فلا تستكثروا أن عاودت الكتابة عنها؛ ذلك أن تخليد سير الرجال والنساء عمل يفيد الأفراد والمجتمع، ورواية نماذج معاصرة من حياة الأزواج صنيع ينفع المجتمع والأسرة التي يُراد لها تشويهًا وتفكيكًا، والله خير حافظًا وهو أرحم الراحمين.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
ليلة الخميس 21 من شهرِ ذي القعدة عام 1442
01 من شهر يوليو عام 2021م
2 Comments
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته الكاتب الفاضل احمد حفظه الله ورعاه . ووفقه الله لما يحبه ويرضاه . المقال عن عبد الرحمن وزكيه تضامن فريد . صدقت والله تضامن فريد .شاء الله ان يجمعها على قيام حياة زوجية ناجحة التي تقوم على ثلاثة اركان {الواردة في القران الاية 21 ومن اياته ان خلق لكم من انفسكم ازواجا لتسكنوا اليها وجعل بينكم مودة ورحمة} سكن ومودة ورحمة
كان اقتران السيدة الجليلة المرحومة زكية ابا الخيل من زوجها المرحوم السيد الجليل د عبد الرحمن الشبيلي زواجا ناجحا مدروسا . ابرز هذا ا الزواج دور الزوجة الصالحة من غيرها. واظهر معدنها النبيل واصلها الطيب الصادق وصبرها بدرجة عالية لا ينالها الا من وفقه الله . فقد تفاعلت مع ازماتها تفاعلا ايجابيا وثبتت وقامت بدورها على اكمل وجه وافضل ما ينبغي . واستمرت على هذا الدور الايجابي حتى اخر لحظة من حياتها فكانت الام القدوة . رحمها الله هي وزوجها وجعل مثواهم جنة الفردوس وكثر الله من امثالهم. . . المجتمع محتاج لاامثالهم
نعم؛ إن واقع الأسر العربية والمسلمة يحتاج مثل هذه النماذج. وشكرا لكم.