سير وأعلام

زكية أبا الخيل في أيامها الأخيرة

زكية أبا الخيل في أيامها الأخيرة

بعد أن انقطع عن بيته لمدة عامين، يدخل الدكتور عبدالرحمن الصالح الشبيلي إلى منزله يمشي هونًا، ينشر البسمة والهدوء كما هو طبعه الراقي، ثمّ يدخل عند زوجته التي تشاطرت معه الحب والوفاء في المحيا والممات، فتسارع نبض قلبها لرؤية رفيق الدرب الطويل، وكم تمنت لو حادثته وباحت له بمكنونها عن سبعمئة يوم مضت، بيد أنّ الرجل لم ينتظر سماع كلمة مع شوقه الأكيد لها، وبلهفة وتؤدة حمل زوجه على كتفيه، وعاد يمشي بثقة على بساط أحمر كما لو كان في موكب شامخ أو محفل مهيب، وحينها فقط استيقظت أم طلال لتعلم علم اليقين أن ما شاهدته في أيام العيد والست من شوال رؤيا، وأنها ليست أيّ رؤيا!

ومع أن المرأة المبجلّة متداخلة مع ابنتيها، وبينهما أحاديث صداقة إلّا أنها لم تخبرهما بما رأت، وإنما روت منامها لبعض قريباتها الأخريات، فمثل هذا المشهد حقيق ألّا يكتم. والذي يبدو أنها فهمت رسالة رؤياها فآثرت الابتعاد عن تحزين ابنتيها وأحفادها وحفيداتها، وبدلًا من ذلك اختارت أن تردّد على مسامعهم بأنها مشتاقة لزوجها ونجلها، وهو الشوق الذي استقر في نفسها منذ رحيلهما، واستمر يتزايد مع الأيام، فأبى إلّا أن يظهر على هيئة رسالة مشفرة لمن حولها، تنعى لهم بها نفسها بسكينة وحكمة؛ كي تخفف عنهم مصابًا سيحدث ولا مناص منه.

هذه الحكاية الحقيقية تكشف جانبًا جليًا من شخصية الشيخة الكريمة الراحلة زكية بنت عبدالله المنصور أبا الخيل (1367-1442=1948-2021م)، فهي عظيمة التقدير والمحبة لزوجها، وقد جعل الله حبيبها حامل نعيها إليها في منامها، وهي التي تنتظر لقياه يومًا إثر آخر. يضاف إلى ذلك كونها شديدة المراعاة لمشاعر مَنْ حولها، والتحرز مما يؤذيهم؛ ولأجل هذا أخفت رؤياها عن بناتها وأهل بيتها الأقربين حتى لا تجمع عليهم ألم الخوف والترقب وحزن الواقعة الفاجعة. وثالث جانب هو حسن علاقتها مع محيطها إذ أسرّت بما رأت لغير امرأة من ذويها مع خصوصية الرؤى، ورابعها دقتها في الرواية وإن الدقة مع الضبط لمن مفقودات الروايات كلما تأخر الزمان.

أما مصاب المرأة الكبيرة على أرض الواقع فمختصره أنها اعتادت النوم في غرفتها محتضنة حفيدتيها الصغيرتين شادن وشهلاء بنات ابنها طلال بعد رحيل جدّهما الذي كان يفعل ذلك فلم تقطع زكية عوائد زوجها الحنون. وكانت سفرتها العامرة على غداء كلّ خميس تضم أسرتها القريبة مع آخرين يشاركون الأسرة مائدتها، والمضيف والضيوف في سرور ظاهر بهذه الشراكة، وتلك عادة شبيلية كريمة أصرت الزكية ألّا تتلاشى أو تُفقد حتى لو غاب سيد المائدة عنها.

وفي آخر خميس من أيامها لم تخرج من غرفتها ولم تكن الصغيرتان عندها، ولم تجب على الاتصالات الهاتفية، وحين دلف بعض أفراد الأسرة إلى الغرفة قبيل الظهر وجدوها ملقاة على الأرض في حال إغماء، فاسرعوا إلى طلب الإسعاف الذي حضر وحمل المرأة بعد عملية إسعاف مستعجلة، وركبت معها في سيارة الطوارئ “كنزها” -كما كانت تصفها دومًا- ابنتها الأميرة شادن، ولم يكن همّ الأم المسيطر عليها وهي في وضع ضرورة واضطرار إلّا أن تطلب من بنتها زيادة سترها، إذ لا تريد ملاقاة ربها ولو بيسير انكشاف!

ثمّ أُدخلت على عجل إلى الطوارئ وأدركتها ابنة أختها الفاضلة العاقلة رانيا العوهلي حرصًا منها على مراجعة الأذكار لها على ثقل لسان الخالة التي لم تفتأ عن الدعاء لرانيا وتوصيتها على أولادها مع أن وضعها الصحي خطير. وبعد ذلك نُقلت أم طلال إلى غرفة العمليات لسحب جلطة دماغية كبيرة هجمت عليها، وبعد سلسلة من الإجراءات الطبية تبين أن الأمل في حياتها ضعيف جدًا نظرًا لعظم ما في الدماغ من أثر، وسبحان من جعل مصابها الأخير مماثلًا لمصاب زوجها، فكلاهما أصيبا في الدماغ وسقطا على الأرض.

عند ذلك تحوّل المستشفى إلى مزار حتى وإن تجنب الناس المستشفيات بعد جائحة كورونا، ولم تقتصر الزيارة على خاصتها الضيقة، بل إن أزواج حفيدات أقاربها، وزوجات أحفادهم، حضروا للزيارة والاطمئنان مع بُعدهم النسبي، وبعضهم حديث عهد بالأسرة فلم يصهر إليها إلّا قبل سنة أو أقل! وتناوب أخوها صالح وأختها عائشة على رُقيتها بالقرآن يوميًا. وإن تعجب فعجب تعاهد الأطباء لها بالزيارة حتى في أيام إجازتهم، وقائل منهم يقول: لم أستطع ترك السؤال عن هذه الوالدة البهية حتى وأنا بعيد عن أجواء العمل.

وإن سرَّ هذا التوافد لزيارتها يكمن -والله أعلم- في أنّ أم طلال كانت بمثابة شمعة مضيئة في أسرتها لا تذبل، ودرة في بيت زوجها لا تخفت، واستطاعت برويّة ضبط إيقاعات كثيرة، فمنعت غير خلاف، وأزالت أيّ احتقان محتمل، وحالت دون سوء فهم. ومن مدهش خصالها أن تبادر فتحادث إنسانًا طالبة منه إصلاح خطأ، أو التلطف مع آخر، وهي بذلك تردم هوة أو تمنع نشوء بقعة عكرة، وما أحوج الأسر إلى مثلها.

كذلك سعت جاهدة إلى إرضاء وإسعاد مَنْ تعرف؛ ولذا أصبح الذين حولها يبتغون مرضاتها بداية من بناتها وهنّ يخفضن لأمهن الجناح، وانتهاء بعمالة منزلها وبعض العمالة معهود بالمناكدة والمناكفة لكنهم مع أم طلال صنف آخر فريد بالطاعة والإخلاص. وسيظلّ القبول سرًا لا يمكن أن يجُزم بسببه، ونضرع لربنا أن يكون قبولها نازلًا إلى الأرض من السماء، وأن الله جعل لها في القلوب ودًا؛ فتعارفت مع الزكية أرواح زكية، وتآلفت وإياها قلوب سليمة مسلولة السخيمة أو أكثرها.

كما أنها تحسن مراعاة الأحوال، فمن توفي من ذويها وله عمل نافع تولت أداءه كي لا يندثر صنيعه الحسن، ولا تكتفي بذلك بل تذكر أن هذا الإحسان هو من عادة فلان أو فلانة إذ ليس من طبعها إغفال إيجابيات الناس وصوابهم فضلًا عن حيازتها لنفسها. وحين علمت بخبر عقد قِران عروس في محيطها طلبت شراء هدية ثمينة جميلة لها كي تسعد بها الفتاة في أحلى أيامها، وتزداد الهدايا الممنوحة لها، وهذه دقائق نفيسة يغفل عنها كثيرون.

ومع أنها لم تحضر أيّ حفلة عرس بعد فراق زوجها لأن قلبها لم يعُد فيه مكان للفرح والبهجة بعد موت الزوج والابن، إلّا أنها استجابت وشاركت في حفل زواج سبطها فيصل الإبراهيم قبل مدة يسيرة من وفاتها؛ فخطفت الأبصار في تلك المناسبة بألقها ونضارتها وتناسق ملابسها الفخمة الرزينة. وفي أواخر أيامها توعك أخوها فآلت على نفسها إلّا أن تتابع شأنه الصحي كأنها مسؤولة عنه، حتى أن مكالمتها الأخيرة صبيحة يوم الإغماء كانت تخصّ أخاها بالسؤال عنه والاستفسار ممن حوله.

ويشاء الله أن ترحل أم طلال بين يدي أفراد أسرتها، فيرونها وهي تغادر الدنيا تشيّعها دعواتهم مع دموعهم الصامتة، وهو نفس المشهد الذي حصل لهذه الأسرة مع طلال في باريس، ومع أبي طلال في الرياض. وعقب وفاتها وانتشار نعيها والصلاة عليها والكتابة حولها استذكر الناس راحلين كثر من آل الشبيلي وآل أبا الخيل وآل العبدالجليل؛ فنالتهم دعوات وصدقات يحتاجها الأموات، فنعم المرأة المباركة على آبائها وخؤولتها وزوجها وولده، وهم لهم عليها أثر في المحيا وبعد الممات، فوفاء الناس لزوجها وأسرتها وأخوالها وبرهم بهم جليٌّ للغاية، تشهد عليه الصلاة والدفن والعزاء المزدحم بجمع من الناس أتى بهم حبّ خصال أولئك الراحلين ومحبة من ارتبط معهم بسبب أو نسب.

ومما لفت الأنظار حين ظهرت نشرة العزاء تخصيص زوج ابنتها الأمير وليد بن بدر بن الملك سعود، وأرملة نجلها الموفقة نجلاء بنت عامر الشهيل بالعزاء، وفي هذا الإعلان النادر تأكيد على خصيصة امتازت بها الراحلة، ذلك أنها كانت ذات نفس رضيّة، وأخلاق عليّة، فأصبح زوج البنت لها ابنًا، وغدت لها زوجة الابن بنتًا، والله يديم المعروف بينهم والألفة والصفاء.

هذا هو غراس عبدالرحمن وزكيّة التي بكى عليها أناس من الأقران وربما الأضداد، ولم تتمالك امرأة منصفة نفسها بعد أن عايشتها واستبان لها سموها فصرّحت بخلاصة معبرة إذ قالت: زكية: ليتني ما عرفتك! وهذه هي زكية التي جعلت محبتها مثل نبتة روحية تُسقى بماء القلوب والعيون، ولذلك حرص الجميع على ملازمتها في مرضها الأخير، والقرب منها وهي تحتضر، وشاركت ابنتها رشا مع خالاتها عائشة وعفاف وعبير في غسيل الراحلة وتكفينها وتجهيزها للقاء مولاها.

ولقد كنت أحدث نفسي بالكتابة عنها وهي على قيد الحياة، بيد أن إرادة الله شاءت أن تصدر هذه الكلمة وما سبقها بعيد وفاتها وانقطاعها عن الدنيا، ولعلها أن تكون من الأجر الباقي لها والذكر الحسن عند من يقرأ ويسمع، وإني مع لوم النفس على تأخير الكتابة لأجد العزاء والسلوان فيما سمعته أو قرأته من تعليقات ودعوات تبعت نشر المقالة الأولى، وعسى أن تكون هذه مع غيرها مما يبقي على سيرتها، ويديم الاستغفار لها ولمن ارتبط بها.

ثمّ إن الرمز الثقافي الراحل الكبير د.عبدالرحمن الشبيلي يدخل إلى مكان فسيح في منام ثانٍ، يمشي وعليه السكينة، ويغمره الاطمئنان على من بقي من أهل داره، فصاحبته الأثيرة لحقت به وبابنه إلى العالم الآخر بعد أن استقرت شؤون وأمور، ولذا ترك في زيارته الخاطفة على مشجب عالٍ عباءتين من “بشوته” الثمينة الجميلة بذاتها وبما يزينها من إضافات، وتلك من آثار المرء التي تظلّ بعده محافظة على الإشعاع الملهم، باقية في ارتفاعها، محتفظة بجاذبيتها، والله يرحم من سبق، ويحفظ السائرين على تلك الدروب الرشيدة إلى يوم الدين.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

 ahmalassaf@

ليلة السبت 16 من شهرِ ذي القعدة عام 1442

26 من شهر يونيو عام 2021م

Please follow and like us:

7 Comments

  1. قرات المقال هذه المرة . وتجمدت دموعي في عيونى ابت ان تنهمر بغزارة كما فعلت اول مرة . . والله هي اخت لي في الله. .فوفاة هذه الشيخة الجليلة بهذة الصفاة . تضيف الطمانينة على قلوب اصحاب الفطر السليمة . من اقارب ومحبين ومعارف وقراء . واللي خلف ما مات . عندها بناتها وزوجة ابنها واحفادها . اللذين مهدت لهم الطريق باعمالها التي تشابه اعمال الصحابيات . فهي صحابية الطباع . فهي الزوجة المثالية والام المثالية والحماة المثالية لهذا العام .. ولا انسى كنتها زوجة ابنها الكنة المثالية ايضا . بارك الله في والديها اللذين ربوها على الاخلاق الحميدة . اللهم ادخلها وزوجها وكل احبائها جنة الفردوس . والهم عائلتها الصبر والسلوان . وان لله وانا اليه راجعون

  2. لم اتمالك نفسي حين القراءه ،، استعبرت وتباكيت حتى بكيت ،،، ودموعي اذا انهمر طوفانها لاتكف ،، رحمها الله ورحم زوجها وابنها ،،، وإني لااتسأل لما لانشم عبق الطيبين الا بعد رحيلهم ،، لما حجبت عنا هذي المآثر الماجدات ،،، لما لانرى حولنا الا غبشا من احياء ؟!! اماتوا فينا الأمل ،،، واحاطونا بالخجل حتى ظننا ان هم الغالبين ،، وأننا مجرد اطياف تعيش بالماضي الذي انتهى وانتهى معه كل شئٍ جميل ؟!!

    1. شكرا لك، والله يرحمهم وأمواتنا. هذه من طبائع الحياة ومن المعتاد أن يحرك الموت والغياب النفوس نثرا وشعرا. حياكم الله.

  3. رحمك الله رحمة واسعه وادخلك الجنة انت وزوجك وابنك . اطلب لكم الرحمة والمغفرة لكم الثلاثة اكراما لك يا كريمة الاصل في صلاتي وعند الدعاء لوالدي ولمن توفي من اخواتي واخواني . وناس اخرين تركوا اثرا جيدا في حياتي كثيرون . رحم الله امواتنا واموات المسلمين واسكنهم فسيح جناته

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)