مودة الغرباء وحكايات لا تنتهي
لي مع هذا الكتاب المليء بالحكايات والسير والمذكرات حكايات متنوعة، أولها أني تعبت في البحث عنه منذ رأيت غلافه المنشور قبل طباعته وتسويقه، ثمّ عقب ذيوع خبر طباعته، وتابعت لأجل ذلك متاجر بيع الكتب القريبة مني والبعيدة عسى أن أظفر بنسخة منه، ولم ألجأ للمتاجر الكبرى المعروفة هروبًا من سعر البريد المرتفع، مع أنه كان نافدًا حينما تشجعت وبحثت في إحدى المرات.
ثمّ ذهبت إلى مكتبة جرير لشراء كتاب عن الكتابة، ونسخة شبه أخيرة من سيرة ذاتية سعودية حديثة، وعندما أعطتني البائعة هذه النسخة من الكتاب طلبت منها أن تبتعد قليلًا لأتفحص الرفوف ففعلت مشكورة، وحينها وقعت عينيّ على نسخ قليلة من كتابنا هذا فالتقطت واحدة وأنا غير مصدق، واتصلت مباشرة بصديق كبير وقارئ نهم وأخبرته عن وجود الكتاب في الفرع الذي كنت فيه لأنه مثلي مشتاق لقراءته، ولولا أن بيني وبينه عملًا مؤقتًا بمصالح مادية لأهديته نسخة منه، ولعلّ العوض أن يكون قريبًا بعد نهاية عقدنا المؤقت.
فخرجت من المكتبة أحمل كتبًا كثيرة، وأعلّل النفس ببطاقة التخفيض التي ستنقص من سعرها الذي يثقل الكواهل بارتفاعاته العامة يومًا وراء آخر. ولأني في هذه الأزمنة أقرأ كثيرًا بطريقة “الفراشة” وأتنقل بين كتاب وآخر بلا حرج -كما كنت أشعر فيما مضى- شرعت بقراءة كتابي هذا وأرجأت ماكان بين يدي، وكنت أتمهل في قراءته كمن يتلذذ بشرب ماء عذب في يوم قائض، وأخبرت عن الكتاب صديقًا أثيرًا من حائل؛ فبادر لشراء النسخة الوحيدة المتوافرة لدى فرع مكتبة جرير الوحيد عندهم.
هذه حكاية من حكايات هذا الكتاب الذي تتمنى أن تفرغ منه كي تستفيد مما فيه، وفي المقابل تود لو تتمهل بين صفحاته وفصوله حتى ترتشف لذاذته رويدًا رويدًا حذار أن تنقضي المتعة، والمتعة الحلال من المروء ألّا تقتل! ومما وجدته في كتابنا هذا أنه يسرد كتبًا كثيرة، ويسمي مؤلفين عدّة، فيستجمع القارئ نشاطه للعودة إلى بعض هذه الكتب من جمال عرض المؤلف لها، ولربما أنه بعد نهاية الحديث عن الكتاب يشعر بالاكتفاء بما أفرغه المؤلف على صفحات كتابه، وتلك لعمركم حكاية أخرى.
ويبدو أن صفة الكتاب ووصف شعور القارئ أذهلني عن التعريف به، فعنوانه: مودة الغرباء: حكايات من السير الذاتية والمذكرات، تأليف: محمد عبدالعزيز الهجين، صدرت عن جسور للترجمة والنشر الطبعة الأولى منه عام (2020م)، ويقع في (336) صفحة مكونة من مقدمة وخمسة فصول، وهو حصيلة قراءة ست سنوات هدف المؤلف منها لإثارة فضول القارئ كي يقتني بعض الكتب الواردة خاصة التي لم تأخذ حقها من الانتشار، وهذه النتيجة مقياس التوفيق والنجاح لدى كاتبنا، والأكيد -في تقديري على الأقل- أنه نجح في ذلك.
الفصل الأول من الكتاب عن حكايات من بداية القرن العشرين وفيه سبع مقالات ضمن (62) صفحة، وعنوان الثاني سير ومذكرات في تسع مقالات استوعبتها (70) صفحة، والثالث عنوانه تنويعات من المذكرات والسير بثمان مقالات في (60) صفحة، وعنوان الرابع سير المترجمين وفيه ست مقالات خلال (46) صفحة، أما الفصل الخامس فعن قصص الأدباء عبر تسع مقالات في (78) صفحة، ويعقبها عنوان أخير عن الطفولة في السير الذاتية على أربع صفحات فقط.
من حكايات الكتاب الماتع أنك قد تفهم فكرة متوارية في السرد والنقولات والأخبار، وحسب موقعك الفكري أو نظرتك للمؤلف ستفسر المراد موافقًا أو مخالفًا أو متهمًا، وأيًا يكن فهو حقك إن كنت تعتقده بتجرد وعلمية، وبعيدًا عن الاعتساف ولوي الأعناق الذي يشتكي منه المعجم العربي في أمثاله وتراكيبه وكلماته وربما في حروفه أحيانًا. ويكفي الكاتب براعة أن يقول قولًا يحتمل أكثر من معنى، ويؤول إلى عدة نتائج، وهي خيارات يقتضيها السياق الزماني أو المكاني أو لام العهد، وإن حسن الظنّ لدى فئة لمسبوق بلن زمخشرية والمشتكى لربنا العليم الحكيم!
لن أسرد لكم في هذه المقالة فوائد الكتاب وربما أفعل لاحقًا فلن الزمخشري باطلة في العقيدة وفي اللغة، وسأكتفي هنا بآراء منها أن كلّ فصل من هذا الكتاب يصلح مادة لكتاب مستقل موسع، وما على القارئ الآن إلّا أن يقرأ ويتذوق ويستمتع، ففي الكتاب فنٌّ من خبر القراءة، وصنعة الكتابة، ومهارات الترجمة، والقدرة على العرض والتلخيص والنقد، وهو على أيّ حال جزء من سيرة قرائية عربية نحبها، ونحتفي بها، فنحن كنّا وسوف نبقى أمة اقرأ، وهي أمة إيجابية تقرأ وتفكر وتكتب وتعمل، حتى وإن غفت جفونها فمصيرها أن تستيقظ يومًا قد لا يكون عند العزيز العليم بعيدًا.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
ليلة الأربعاء 13 من شهرِ ذي القعدة عام 1442
23 من شهر يونيو عام 2021م