سير وأعلام عرض كتاب

الشيخ حمدان الباتل: مصباح في مشكاة الزلفي

الشيخ حمدان الباتل: مصباح في مشكاة الزلفي

بين يديّ كتاب أحاط بالبِّر من جميع الجهات، عنوانه: الشيخ حمدان الباتل: مصباح في مشكاة الزلفي 1310-1385، تأليف: أ.د.عبدالله بن إبراهيم بن علي الطريقي، صدرت الطبعة الأولى منه عام (1438=2017م) برعاية من حملة قافلة المنار للحج والعمرة، ويقع الكتاب في (178) صفحة تشتمل على مقدمة وتمهيد جاءتا في (30) صفحة، ثمّ أربعة فصول فملاحق يعقبها الفهرس.

أما لماذا أحاط هذا الكتاب بالبِّر من جميع الجهات؛ فلأن المؤلف يترجم لجدّه من ناحية والدته، فهذا العمل بر بوالدته إذ حفظ سيرة أبيها، وهو بر بجده الشيخ حين أبقى على أخباره وحماها من النسيان، وبر بأسرته آل الطريقي التي ينتمي إليها الجد الشيخ، وبر ببلدته الزلفي وبقبيلته الوداعين من الدواسر بتوثيق سيرة أحد أعلامها وعلمائها المؤثرين، وبر بعلوم الشريعة بتخليد ذكرى أحد حملتها، وبر بالعلم كله بالتأليف في السير والتراجم، وبر بمن يقتدي به فينفع بلاده ورموزها والعلم وأهله.  

يُعدُّ الشيخ حمدان بن أحمد بن حمود بن باتل بن حمود بن محمد الطريقي الودعاني الدوسري (1310-1385) أحد سروات بلدته الزلفي، وربما يكون أشهر علماء البلدة في زمانه. وقد اجتهد المؤلف في تتبع سيرته على ندرة المكتوب عنها؛ فلجأ إلى الرواية الشفهية يلتقطها من أفواه الرجال وأحاديث النساء سواء الذين عاصروا الشيخ حمدان أو سمعوا ممن عرفه وعاش معه، إضافة إلى استنطاق الوثائق، والاستنتاج بناء على المنطق، واستقراء عرف ذلكم الزمان، وإجراء المقارنة.

ولد حمدان مبصرًا وظلّ كذلك حتى العاشرة من عمره، وبعدها انطفأ الباقي اليسير من بصره على إثر كلمة تعجب من همة الفتى الصغير وتردده على مكان بعيد عن منازله، وهي كلمة صدرت عن عجوز لم تذكر الله ولم تبّرك مع أن الفتى ليس لديه إلا جزء من عين واحدة! فيا أيها القراء: من أعجبه شيء فليذكر الله قائلًا: ما شاء الله تبارك الله، ولا يتحجج ببرودة عينه فهذه البرودة لا تقاس ولا يُجزم بها، وبعض البرودة قاتلة فربما يكون السيف الباتر باردًا كفانا الله وإياكم لمعانه فوق الرؤوس.

وقد تزوج الشيخ أربع مرات، وبقيت معه زوجتان فقط، فأنجب منهما أحد عشر ابنا وبنتًا، وهم سبعة أبناء وأربع بنات. ومع أنه حرم من نعمة البصر إلّا أنه يمشي بدون قائد لمسجده ولبيوت صحبه، ويعرف أصوات المتحدثين، ويميز كتبه بلمسها. وثابر على طلب العلم في بلدته ثمّ في القصيم مع صعوبة السفر والانتقال على الأعمى، وأصبح من مسرد مشايخه في عنيزة القاضي، وابن سعدي، وفي بريده ابن سليم، وفيما بعد تخرج على يديه مشايخ وأكاديميون وشعراء مثل المشايخ ابن غديان والبدر والعباد، ود.العبدالمنعم، ود.العقيلي، ود.البدر، والشاعر النافع، وغيرهم خلق من أهل الزلفي على اختلاف في مقدار العلم الذي نهلوه منه، أو المدة التي قضوها معه.

أصبح الشيخ في بلدته أشبه بدوائر شرعية متداخلة، وجامعة علمية، ومؤسسة اجتماعية، فضلًا عن واجباته المنزلية نحو بيتيه إذ لا يغيب عنهما يوميًا. فمن أعمال الشيخ التي صرم عليها نصف قرن فأقل الإمامة والخطابة، والتعليم والفتيا، وإصلاح ذات البين وقسمة المواريث، وعقد القِران والحكم في وقائع الطلاق، والرقية مع تعبير الرؤى، والتعبير علم يشتهر به أهل الزلفي حتى لكأن ابن سيرين منهم! ومن أعماله الحسبة تطوعًا ورسميًا، وفوق ذلك يقضي حوائج الناس عبر المكاتبة أو السعي فيها، وخير الناس عند الله أنفعهم لخلقه.

وامتاز الشيخ في أعماله الكثيرة التي حملها على عاتقه بأمور منها تأهيل الصف الثاني وتدريبهم على القراءة، والإمامة، والتعليم، والخطابة، والالتزام بتيسير الفتوى دون تضييع لحكم الله أو تمييع لثوابت الشريعة، فليس له موقف متشنج تجاه الأمور المستحدثة مثل التعليم النظامي أو المذياع أو التصوير، مع أن الانكماش من الجديد طبيعة بشرية مشتركة في الغرب والشرق، وليست صفة خاصة بمجتمع، ومن بحث عرف.

كذلك منها استقبال الناس في كلّ وقت حتى أن النساء تطوف ببيوته طلبًا للفتيا طوال اليوم، وربما عقد القِران للمتزوجين وهو في الشارع، ويحرص على نفي تهمة المحاباة عن نفسه؛ فإذا ما وقع قريب له في منكر بدأ به فعاقبه ولم يصفح عنه، وإذا سمع بعض اللغو من جماعة مسجده تجاهه أعرض كأن لم يقولوا شيئًا، والله يوفق الأئمة للإحسان والسنة والصبر. وشملت أعمال الحسبة التي تولاها مراقبة المكاييل والموازين، وأما علومه التي نشرها فهي علوم شرعية متنوعة إضافة إلى النحو والأنساب والتاريخ النجدي.

كما كان للشيخ علاقات واسعة داخل بلدته وخارجها خاصة في المحيط النجدي، وهي علاقات شملت فئات الناس كافة، فله صلة بالملوك والأمراء، ومكاتبات مع العلماء ومراسلات فيها كتب مهداة، هذا غير الذين درس عليهم أو تخرجوا عليه أو زاملوه. وله قائمة تطول من الأصدقاء على مختلف أعمارهم واهتماماتهم، إضافة إلى المحبة التي زرعت في قلوب الخلائق له حتى عند الأطفال والنساء والعامة، ومن اللافت إجماع أحفاده وأسباطه وطلابه على أنه كان لهم بمثابة الأب. ومن ثقة العلماء به أن رفض الشيخ محمد بن إبراهيم شكوى أحد الناس ضده، وأجاب مستفتيًا بما معناه: يكفيكم وجود الشيخ حمدان.

وفي بيته فتح الباب للأضياف وتولى أولاده خدمتهم وإن خدمة الضيوف لمكرمة، وألقى الدروس في المسجد وبيته وبيوت بعض الوجهاء، وعمر وقته كله بالمفيد، لذا لا تفارق الساعة جيبة إذ يتحسّسها بأصابعه فيعرف الوقت، ويشرف على الأعمال بنفسه وهو ضرير ولو أن يرقى المنارة لإعلان دخول شهر رمضان، وينظم وقته في المفيد مع الزهد عن المشاركة في المنافسة على الدنيا، ومن فقهه وتألهه أنه يتصدق بالتمر قبل صلاة الاستسقاء رجاء لإجابة دعاء المصلين من ربهم الكريم. ومع تدينه وزهده ورفيع مقامه إلّا أنه يستخدم لغة لينة رفيقة تطمينية مبشرة حتى إن وقع حريق في منزل، أو سقط إنسان من سطح، أو ظهر ثعبان في منزل، أو عبر به موقف حرج.

أيضًا اشتهر الشيخ بقراءته الطويلة للقرآن في الصلاة، وختم القرآن في رمضان مرتين جريًا على عادة بلدان نجد آنذاك، والاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان حتى أن ثوبه الجديد يأتي إليه في معتكفه فيلبسه ويخرج إلى صلاة العيد، وله عناية بتحضير الخطب التي يلقيها، وعنده دولاب يمتلئ بالكتب يتذكره المؤلف، وحصل على ثلاثة كتب من هذا الدولاب عام (1393)، ولعل بقية الكتب ذهبت لمن يستحقها من طلاب العلم، وهو واجب على الأبناء الذين يترك لهم أبوهم مكتبة وليس لهم بها حاجة.

ولا تخلو حياته الجادة من طرائف ومواقف، فمنها أن مستفتية جاءت إليه كي تضع بينها وبين النار “مطوع” كما يقول العامة؛ فرفض إفتاءها. ومشى في سوق مزدحم فاصطدم مع إنسان بالخطأ فدعى على الشيخ بالعمى، فأجابه الشيخ بهدوء: هل يوجد أكثر من هذا العمى؟ ومن مواقفه رفض منصب القضاء الذي كان يستحقه، وامتناعه عن التأليف مع قدرته عليه، وهي خصيصة وافق بها شيخه صالح القاضي (توفي 1351)، ووافقه فيها تلميذه الشيخ ابن غديان (توفي 1431)؛ مع أن للأخير تسجيلات محفوظة، وأبناء طلبة علم قمين بهم خدمة تراث أبيهم الأصولي الكبير.

وبعد أن أمضى الشيخ عمره الطويل في الخير والمنفعة الخاصة القاصرة على النفس، والعامة المتعدية للعائلة والأسرة والبلدة وأهلها، وبعد مسيرة علمية وعملية، وتبتل وعبادة، وحسن عهد ومعشر، غادر الشيخ حمدان الباتل حياة الناس عقب مرض ألم به في أواخر أيامه، وحين شاع خبر موته سارع الناس إلى المسجد راجلين وراكبين، حتى امتلأ كاملًا، وصلى بالمشيعين قاضي الزلفي الشيخ عبدالله الغفيلي، وكان غسيل الشيخ وتكفينه والصلاة عليه ودفنه دون تأخير تطبيقًا للسنة.

غفر الله للشيخ ورحمه، وجزى سبطه فضيلة البروفيسور عبدالله الطريقي خيرًا على صنيعه المبارك من كل ناحية، وعسى أن ينهض القادرون إلى حفظ تاريخ سروات الناس فيهم من أهل المروءات والمكارم والفضائل والنجدات، حتى لا يندثر العرف والخير في المجتمع، ويسير الأواخر على الصواب من خطى الأوائل، فمعرفة التاريخ، وحفظ الأحداث، وروايتها، وفهمها، عمل رشيد يقترب بنا من العراقة الأسرية، والأصالة المجتمعية؛ ويدفع السوء وإن تقاطر من كلّ حدب وصوب، وإن جلجلت به أبواق، وسعت لأجله ركائب.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

 ahmalassaf@

ليلة الجمعة غرة شهر ذي القعدة عام 1442

11 من شهر يونيو عام 2021م

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)