نعم! تستطيع أن تكون كاتبًا
قضيت ساعة مع كتاب لطيف عنوانه: نعم..تستطيع أن تكون كاتبًا، تأليف: عبدالحميد الحمادي، صدرت الطبعة الأولى منه عن مركز الأدب العربي للنشر والتوزيع عام (1442=2020م)، وهو مكون من (144) صفحة ذات حجم متوسط، ويحوي الكتاب بعد المقدمة وقبل الخاتمة ثمانية وعشرون عنوانًا تماثل عدد حروف الهجاء التي تتألّف منها الكلمات والتعابير وهي من جيش الكاتب، وفي نهاية كلّ عنوان لمحة تختصره في أهم ثلاث أفكار ترتبط معه.
يحسب للكتاب أنه تجربة شخصية لكاتبه، حتى وإن كانت خبرته متوسطة الطول إذ تبلغ عشر سنوات؛ لأنها ستحفز الشداة والمبتدئين من الشبان والشواب. ومن حسناته مزج تجربته بأقوال كتّاب عرب وأجانب، قدماء ومعاصرين، وفوق ذلك فلغته واضحة مباشرة بعيدة عن التعقيد والتقعر، لتناسب ناشئة الكتاب. وليت أن أساتذة مادة التعبير والإنشاء في المرحلة الثانوية يوصون به أو بمثله طلابهم، وربما يفيد الطلبة في بدايات الدراسة الجامعية؛ نظرًا لضعف التدريب المسبق على الكتابة في التعليم.
في البداية عدّد المؤلف فوائد الكتابة، وعلى رأسها إصلاح الكاتب نفسه، وشعوره بالسعادة مع امتلاك طاقة حيوية، وتطوير مهارات التفكير لديه من خلال الملاحظة والبديهة والرصد، مع تمكينه من إجادة مهارة التلخيص والاختصار، ومنحه القدرة على الربط بين الأشياء، وإتقان التفكر الناقد. وتُعدُّ الكتابة أكبر عامل يدفع الكاتب لتجديد نفسه لدرجة عشق القراءة والكتب، فلأجل أن تعرف قليلًا عليك أن تقرأ كثيرًا كما قال “مونتسكيو”.
كما تتيح الكتابة لصاحبها فرصة التواصل مع الناس، والكاتب يقدر لحظات التعارف مع القارئ، وتصبح محفزة له على مزيد من العطاء، إذ يجزم “راي برادبيري” أن الجزاء الأكبر للكاتب ليس ماديًا بل عندما يقول له أحد القراء” ما أروع عملك الجديد! ولذا فعلى الكاتب أن يتعامل مع حرفته بمسؤولية كاملة؛ لأنها تظهره كبيرًا، ومن المعيب أن يكتشف القراء خلاف ذلك، فالكتابة مصلِحة للكاتب ولابد قبل أن تصلح غيره.
ولا تحتاج الكتابة إلى إلهام وإنما يلزم تحريكها بفعل الكاتب؛ لأن الأفكار تنضج من خلال الكتابة وليس في بقائها داخل ذهنه. كما تحتاج الكتابة لتنظيم الوقت، وتحديد الأولويات، كي لا يغرق الكاتب في متاهة الأعمال والمقاطعات والصوارف المشتتة. أيضًا من الضروري تحديد هدف الكتابة سواء لخدمة المجتمع، أو رفع الوعي، أو علاج المشكلات الاجتماعية، أو استثمار الموهبة، ومن المهم ألّا يكون منها طلب الشهرة، أو الخوض في موضوعات دون هدف أو رؤية مبنية على فهم أو خبرة أو علم.
أما الطقوس الكتابية فليست حتمية ولا من لوازم الكتابة؛ فإن وجدت فيجب ألّا تُربط بالعملية الإبداعية وجودًا وعدمًا كي لا يستأسر لها الكاتب وإبداعه. ثمّ إن الكاتب الخبير يعاني من أجل تقريب الفكرة للقراء حسب نصيحة د.علي الوردي، وهذا التقريب قد يجعلها مثار النقد عند من لا يبهرهم سوى تضخيم العبارة وتكبير المحتوى، ولأجل ذلك صرح الشيخ علي الطنطاوي بخلاصة مفيدة للكتاب فحواها أن استمعوا للنقد المفيد وليس للأذواق المجردة! وأردف المؤلف تحت عنوان خاص ما يعزز أهمية صبر الكاتب بما يفوق صبر القارئ، مع حثّه على استمرار المران، وديمومة تطوير موهبته.
كذلك شبه المؤلف مهمّة الكاتب بما يقوله “روجر فون أويك” في نظريته عن الأدوار الأربعة، وتقوم هذه النظرية على أن المبدع يتقمص أربع شخصيات أساسية، أولها شخصية المستكشف الباحث عن فكرة مناسبة، ثمّ شخصية الفنّان الذي يعمل على تعديل فكرته وتحسينها إضافة وحذفًا، فشخصية القاضي حين يفحص التركيب الذي وصل إليه ويقيّم إيجابياته وسلبياته، وأخيرًا شخصية المحارب الذي يقاتل من أجل تنفيذ فكرته ونشرها، وهذا التشبيه موفق للغاية، وهو من الجديد عليّ تماًمًا في هذا الكتاب المختصر.
أيضًا في الكتاب فوائد عن قاموس الكاتب، ومهارته، ومدة العمل الكتابي، ونقل المؤلف عن أبي هلال العسكري قوله في كتاب الصناعتين: أحسنوا معاشر الكتاب الابتداءات فإنهن دلائل البيان، وبناء على مقولته يحسم الكاتب عبدالحميد الرأي بأن الكلمة القوية هي المنسجمة مع المعنى والسياق. وعرج على ما يتعرض له الكاتب الجديد من نقد وتثبيط، وما يجب منه تجاه التعامل مع الآراء المحبطة، فهو لن يكون كاتبًا بارعًا من التجربة الأولى، وجميع الكتّاب الكبار عبروا من هذه القنطرة وما يصاحبها من ضيق وحزن على سوء آراء الآخرين، وإنما فاز بالمجد منهم من صبر وواصل وثابر، واستجمع الثقة بنفسه إذا جلس للكتابة كما يقول الروائي يوسف المحيميد؛ لتكون ثقته المعتدلة خير دافع له يمنحه الطاقة والحيوية.
ومن ثمين النصائح أن يكتب الكاتب بأسلوبه وليس بأسلوب غيره، وأن يصبح صاحب فكرة وليس صانع ألفاظ فقط، والّا يحرك قلمًا على قرطاس قبل امتلاء نفسه بالفكرة. ومنها أن يرضى بمحاولاته الفاشلة ويتقبلها لتكون مدرجة له نحو النجاح والعلو، فليس الفشل من يضعنا خارج القائمة بل الاستسلام له كما ينقل الحمادي عن د. أحمد بادويلان، ويضيف لها نصيحة من الروائي “والتر موزلي” لجمهرة الكتّاب بأن يرفعوا إراداتهم فوق جميع الأحوال المزعجة.
وبما أنه لا أحد يعطيك الكتابة أو يبعدك عنها حسب رأي “ميغ واليتزر”، فعليك أيها الكاتب أن تواصل عملك وتجذب القارئ إليك، واحذر من الغرور أو التعالم أو الظهور بمثالية وإن كنت تدعو للمثالية والانضباط؛ ففرق بين الدعوة والدعوى. ولبلوغ غاية تحقيق مطلبي الاستمرار وجلب القراء ينبغي للكاتب ضبط وقته وحسن إدارته، وانتقاء العناوين المعبرة اللافتة، وفي الكتاب صفحات لطيفة عن هذه المهارة الأساسية.
وتحدث المؤلف عن أسئلة الإبداع بأنواعها، وهي التي تستثير العقل من بدايته لنهايته، فمنها أسئلة تقيس الحفظ ومقدار المخزون في الذاكرة، وبعضها أسئلة يراد منها فحص الفهم ومعرفة مدى القدرة على التلخيص وإعادة الصياغة، وثالثة تستهدف التطبيق العملي لعلم كالتجارب والحساب والإعراب، أو لمهارة مثل الإلقاء والحوار، وفيها أسئلة لغايات التحليل واستكشاف العلاقات وفحص الفرضيات، وآخرها أسئلة الإبداع بمعناه الواسع، وهذه الأنواع من الأسئلة مفيدة للكاتب في عمله، وسبيل للارتقاء بنفسه وبقارئه ومجتمعه.
ولم يغفل الكاتب عن شؤون القراءة والكتب والمكتبات، وهي أساسية في حرفة الكتابة، مع الحذر من بعض الخدع والأباطيل. وأعاد القول عن رفعة هذه المهنة غير مرة، مؤكدًا حتمية الاستمرار فيها دونما انقطاع، وبين فينة وأخرى يورد شيئًا من تجاربه الشخصية. ثمّ ختم بصفات خالية ليكتب القارئ فيها أبرز ما استفاده من الكتاب وأهم ما افتقده فيه. واتصور بأن إخراج الكتاب بطبعة مستقبلية ملونة ذات تصميم تعليمي، سيجعل رواجه أكبر بين الفئة المستهدفة، وأن وضع عنوان للكاتب سيفيده في تواصل القراء معه، وللكاتب عبدالحميد الحمادي الدعاء بالتوفيق ودوام النفع.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
ليلة الثلاثاء 13 من شهرِ شوال عام 1442
25 من شهر مايو عام 2021م