صلاح الحجيلان وثلاثة وثمانون قولًا
قبل عشرين عامًا تقريبًا أجرى الإعلامي الأستاذ جاسم العثمان، لقاء تلفزيونيًا مطولًا مع المحامي الشيخ صلاح الحجيلان، وامتدّ اللقاء حتى عرضه التلفزيون السعودي على حلقتين، وهو لقاء ثري ناقش فيه المحاور ضيفه الرمز الحقوقي عقب صدور أنظمة الإجراءات الجزائية، ونظام المحاماة، ولم يقتصر اللقاء عليهما، فطبيعة الأحاديث أن تتشعب، خاصة حينما يكون المتحدث بريئًا من الإملال مثل أبي حسام.
وقد استمعت إلى اللقاء فيما مضى، واستللت منه أهم ما قاله الضيف المحامي، ثمّ عرضتها عليه دون أن أستطلع رأيه فيها، وإنما فهمت منه الرضى العام عنها، على أن تناقش محتوياتها في سياق الأحاديث الخاصة معه مربوطة بالوقائع. وبعد رحيله الفاجع المفاجئ رأيت نشر ثلاث وثمانين فائدة منها عسى أن تكون له من العلم الباقي الذي يُنتفع به، ومن أراد مشاهدة اللقاء بجزئيه فسيجده في موقع الشيخ وفي اليوتيوب.
أما لماذا حرصت على هذا الرقم بالتحديد؛ فلأنه يتوافق مع عدد سنوات راحلنا بالتقويم الهجري (19 من شهر شوال عام 1359-09 من شهر شوال عام 1442)، والله يجعلها له من الذخر الباقي والاجتهاد المقبول أو المعذور والمأجور في جميع الأحوال. وما أحرى المرء المسلم بترك آثار حميدة له قابلة للبقاء عقب مغادرته الحياة الدنيا، كي تكون من صالح العمل الذي يدون بلا انقطاع في صحيفته حتى وهو في مثواه البرزخي.
وأشير إلى أنّ الشيخ صلاح امتاز بقدرة عالية في التعبير عن مكنونه ورأيه، وأتصور أنه ورث هذه الخصيصة عن أبيه العقيلي تاجر الخيل الشيخ إبراهيم بن صالح العبدالعزيز الحجيلان الذي لفت نظر طفله الصغير بجاذبية حديثه، وأخذه بمجامع ألباب ضيوفه من العقيلات والمصريين على السواء. ثمّ زاد في تعلمها من أخيه الشيخ الوزير جميل الذي أتاه الله فصاحة القلم واللسان، وأخيرًا عمّقتها لديه الدراسة على يد كبار الأساتذة في كلية الحقوق بجامعة القاهرة؛ إذ يصرح بأنّ طريقة إدارة الكلام وإلقاء المحاضرة من قبلهم كانت لديه أهم من المضمون أحيانًا.
ولديّ انطباع خاص بأنّ الشيخ صلاح يقلّب الفكرة في ذهنه كثيرًا، ويقرأ عنها، ويحاور، ويستطلع، ويستمع، ثمّ يصل إلى رأي نهائي يعتقده؛ فيلبسه حلّة من القول الفخم، والعرض الباهر، وبالتالي فلا تستعصي عليه الإجابة المتقنة ولو كان في ضيق من وقت، أو في موقف حرج. وتنامت لديه هذه الميزة حتى صارت موهبة ومقدرة يستدعيها في الأحوال المناسبة سواء في جلسات التقاضي أو الصلح أو الحوار، وفي جلساته المنزلية التي لا تنقطع، وأصبحت القدرة على الكلام المبين، وسوق البيان العذب، وسرد الحديث المؤدب، من المقاييس المهمّة لديه في تقييم الآخرين.
وإليكم هذه الفوائد حسب سياق ورودها في الحلقتين كما أعتقد لبعد العهد عنها، ومن المهم الرجوع إلى اللقاء المحفوظ خاصة إن لم تتضح الفكرة أدناه؛ لأنّ سياق الحديث وما سبقه وتلاه يوضح المقصود؛ ويقطع الظنّ باليقين، وهي تفيد الكافة وخصوصًا أطراف الرواق العدلي من القضاة، والمحامين، والمحققين، والمصلحين، والمنفذين، فمنها:
- الأنظمة تستهدف تعميق الإحساس بالعدل وهو من أهم ما يُعول عليه في حياة البشر.
- ثقة الناس بالحكم مستمدة من ثقتهم بالقضاء.
- يجب أن يعي المواطن بأن الدولة تقف في صفه.
- تذكير المواطن بالواجبات يقابله منحه قدرًا من الحقوق ولابد أن يعرفها المواطن.
- المحاماة مهنة قديمة ودراسة الشريعة والقانون ضرورية لها.
- تخضع الأنظمة في المملكة لمراجعة من علماء شرعيين، وتطرح على مجلسي الشورى والوزراء، وبالتالي تتعرض لتقييم من عدة شرائح.
- لم تصدر الأنظمة استجابة لضغوط خارجية لأنها تحت الإعداد منذ القدم.
- صدرت تعاميم كثيرة من الوزارات المعنية لمراعاة حقوق الإنسان.
- النظام الجديد للإجراءات الجزائية يعطي للمواطن الحق بأن يطالب بممارسة ما ينص عليه النظام، وله حق الاعتراض على مخالفة مواده.
- يحوي النظام ضمانات تستهدف جوانب حسنة، ومنها أن يعرف المتهم الأدلة التي يجب ألّا تكون سرية كي يقدر على إثبات عكسها.
- يجب على الأجهزة الأمنية والقضائية أن يتسع صدرها لمن طالب بالضمانات المنصوص عليها نظامًا، كما يجب على المواطن تعلمها.
- ينبغي الاستعداد للدفاع عن النفس بهدوء بعيدًا عن الانفعال.
- صاحب الدعوى لا بد أن يستعد لها.
- فكرة التعويض وإزالة الخلل عميقة في المجتمع الأمريكي.
- من يفتري على الآخرين يشير لكونه مفلسًا يريد التخلص من مشكلاته بالادعاء.
- استقرار الحقوق بين الناس يجب أن تكون سياسة محل العناية.
- لا يجوز استمرار الخصومة والاعتراض وفتح القضايا الجانبية بهدف تعطيل الأحكام.
- لا طائل من وراء الاعتراض المتكرر.
- استمرار الخصومة وتمطيطها يسبب القلق وضياع الحقوق.
- بعض تصرفات التمطيط والاعتراض المتكرر تصدر من تاجر على وشك الإفلاس، أو من إنسان مغرور متغطرس، وهو تصرف ليس بصالح من يفعله.
- يجب تيسير الإجراءات الخاصة بالإعسار والحماية من الإعسار بعد الاستيثاق منها؛ لأن الهدف مساعدة الناس على النهوض وتجاوز العثرات.
- الأنظمة الجديدة جيدة والقائمين على القضاء بالعموم رجال أفاضل، وفيهم نابغون مجتهدون.
- هناك مناخ معين لا بد من تهيئته لنجاح عمل الرواق القضائي كله، مع مراعاة أحوال المتقاضين الجسدية والنفسية.
- يتنازل بعض الناس عن حقوقه حتى يتخلص من المعاناة أو من الاعتداء على حقوقه الطبيعية.
- لدينا قدرات مالية وتنظيمية للارتقاء ببيئة العمل القضائي.
- هناك نوايا صالحة للتحسين ويجب تعديل الوضع الميداني بما يدعو للاعتزاز.
- يجب على الموقوف أن يعترض إذا وجد تحاملًا عليه.
- يجوز للمتهم توكيل المحامي من أول لحظة في إيقافه، ومن المهم اعتماد تأمين نظام تأمين المحامي من قبل الدولة للمتهم الذي لا يستطيع التوكيل.
- يجب للمحامي أن يخصص عددًا من ساعات عمله السنوية للتطوع بالدفاع المشروع عمن لا يستطيع توكيل محامي.
- نحن مجتمع ليست المنازعة من طبعه لأننا نميل إلى السلم والألفة.
- تغيير الحقيقة وتلوين الأمور غير جائز وهي حيلة لا تنطلي على القضاة، والمحامي الذي يفعلها لا ينجح ويعتدي على أصول المهنة.
- التعاون بين المتهم والمحامي قد يأتي بأشياء باهرة.
- المدعي العام يمثّل المجتمع ومن الطبيعي أن يطالب بتطبيق العقوبات.
- يخاطب المحامي وجدان القاضي والمجتمع ويركز على بواعث الجريمة.
- التدرج في العقوبة أمر متعارف عليه.
- حقُّ الاستئناف وارد في جميع القضايا.
- ليست كلّ قضية مناسبة للاستئناف.
- هناك إدارة تفحص الطعون في المحاكم الأجنبية؛ فبعض الطعون ليس له وجاهة.
- باب الاستئناف مفتوح لكن ليس لكلّ طارق حتى لا تتشعب القضايا.
- اقتحام البيوت وتفتيشها لا يجوز إلّا لأسباب معينة وبشروط وقيود.
- الاعتراف سيد مجموعة من الأدلة وليس هو الدليل الوحيد.
- يجب فتح الباب للمتهم كي يسحب اعترافه دون أن تغضب المؤسسات الأمنية، والقول الفصل للقاضي.
- سقوط الحقّ في الدعوى مسألة ذات وجهة نظر شرعية، وضبط أمور المجتمع يوجب وضع حدّ لحق الادعاء.
- أيّ صفقة تجارية لابد من نهاية لها بعد مدة معينة.
- ترك الأبواب مفتوحة للادعاء فيه إرهاق للناس وتعطيل للمصالح وتهديد لعنصر الاستقلال في المنازعات، وأتمنى دراسة هذا الأمر وحسمه.
- الدفاع عن النفس قضية معترف بها بشروط معينة حتى لا يكون لكلّ إنسان الحق في الدفاع عن نفسه كما يرى فتعم الفوضى بذلك؛ ولهذا وضعت الأنظمة والأجهزة، مع تقييد الإنسان المدافع عن نفسه بما يرفع العدوان دون تجاوز وبتناسب واضح.
- يمكن للقاضي اللجوء إلى الحلف في مراحل متأخرة.
- هناك خطوات إصلاحية تتجه نحو الأمام بإطر شرعية، ويبقى الوازع الحقيقي مرتبطًا بالتمسك بالشريعة والإيمان القوي بالدين والمبادئ.
- المطالبة بالتعويض عن الضرر لابد منها مادامت حقًا للإنسان.
- المحاماة مهنة مهمة وأنا أفخر بانتسابي لها، وهذا الانتساب مني بسبب تأثري بأخي معالي الشيخ جميل عميد أسرتنا. كما حرصت على أن يسير أبنائي بنفس النهج، ولديّ ثلاثة أولاد وبنت درسوا القانون في أمريكا وبريطانيا.
- التوارث في المهنة أمر متعارف عليه في المكاتب العالمية.
- المهنة فيها جانب وقائي وجانب ميداني، ولدى المرأة قدرة على العمل في الجانب الوقائي بما يفوق قدرة الرجل الذي يفوق المرأة في العمل الميداني.
- لغة البنات جيدة، وتركيزهن أعلى، ولذلك ففرص نجاحهن في المهنة كبير.
- تنتهج الدولة معادلة حضارية في التعامل مع الأنظمة والشفافية.
- يجوز أن تكون الجلسة سرية لاعتبارات أسرية وهذا استثناء لأن القاعدة أن تكون علنية.
- من الطبيعي أن يتخصص المحامي في مجال معين، والتخصص مطلوب، مع العمل بروح الفريق بما يصب في صالح العدالة.
- يجب على المحامي أن يكون أكثر خبرة ومعرفة من المدعي.
- المحاماة تقوم على فكرة الوكالة الشخصية بناء على ثقة المدعي، وليس هناك ضوابط للتكاليف وربما يكون ذلك مستقبلًا، والموضوع متروك للتفاهم بين الطرفين حسب قيمة الدعوى موضع الخلاف والوقت الذي يصرفه المحامي فيها، وحسب نوع الحكم الصادر.
- يجوز للمدعي رفع قضية على المحامي إن قصر، ويجوز مطالبة المحامي بالتعويض، ويجوز تغييره من قبل العميل.
- بعض الدول تلزم المحامي بدفع تأمين على الأداء المهني منعًا للتقصير أو الخطأ أو التأخير أو التفريط في المستندات.
- على المحامي أن يراعي الاعتبارات العالمية في ممارسة المهنة.
- المحلّفون يقررون المسؤولية أو اللامسؤولية يعني الإدانة أو البراءة دون تقدير حجم المسؤولية.
- العلنية ركن من أركان القضاء ولا يوجد قضاء سري، وهناك مصلحة لتثقيف الحاضرين حتى يتعلموا من القضية وسير العدالة.
- العلنية من صالح الدولة والمتقاضين.
- من لا يرغب بالعلنية يتوجه للتحكيم لأنه قضاء خاص بدون علنية، وسريع، وسعره أرخص ولكنه يفتقد للقوة التنفيذية، ولابد من أن تصاحبه قوة ذاتية للتنفيذ، وهو يعين القضاء ويخفف الضغوط عليها، ولابد ألّا يمارس التحكيم إلّا من كان أهلًا له.
- أنصح مسؤولي وزارة العدل والغرف التجارية بإصدار قوائم للمحكمين.
- الغضب، والاعتبارات الشخصية، والمرأة، والتحاسد، والغيرة، لها أثر في تعسير خلافات الميراث والتأثير على عمليات التخارج.
- الابتزاز موجود عند العامل ورب العمل ولا أعرف أيّ قانون يضع حدًا لابتزاز الناس وطمعهم، وهي أمور تخضع للتربية والقيم.
- ممنوع على المحامي أن يأخذ نسبة من الدعوى لأنه وكيل وليس شريكًا، ومن يفعل ذلك يجب صرف النظر عنه، ومسيرته في المهنة ستكون قصيرة بالتأكيد.
- أؤيد نظام تعدد القضاة كي يقلل من الاستئناف مع وجود صعوبة في تنفيذ هذه الفكرة.
- يجب ألّا ننظر بحساسية لمسألة الاعتراض على الحكم.
- القاضي في مجتمعنا له حصانة مزدوجة لأنه عالم دين، ورجل قضاء.
- تعدد القضاة سيصب في صالح العدالة، ويرفع من الثقة بالحكم.
- لابد من زيادة الانفاق على المرفق القضائي.
- لابد من فتح قنوات اتصال بين القضاة والناس.
- للمحامي الحق بزيارة موكله دون حضور أيّ طرف ودون مراقبة اللقاء أو تسجيله أو تدوينه، فهو لقاء ذو حصانة.
- يستطيع المحامي أن ينصح موكله دون تلقينه أشياء لم تحدث.
- هناك فوائد جمّة تصاحب إعلان القضايا إعلاميًا ولها أضرار، لكن فوائدها أكثر وهذا ما تصنعه كلّ الأمم، مع أهمية الأمانة من الإعلاميين في نقل المعلومة، وألّا يستهدفوا الإثارة فقط.
- التشهير بالمجرمين نوع من العقاب ولكنه غير مستحب في بعض الأحيان.
- هناك فرق بين العلنية وبين التشهير، فالتشهير المتعمد يستوجب العقاب، وللتشهير المقبول ضوابط.
- هناك شرف في الخصومة ولا يجوز لأيّ طرف التلاعب أو تناول أمور شخصية تمسّ مكانة الطرف الآخر، وعليه أن ينضبط في المواعيد.
- يفطن كثير من القضاة إلى خرق شرف الخصومة من قبل أحد الأطراف، وربما انقلبت هذه الخروقات على المخطئ.
- هناك مساواة بين المدعي والمدعى عليه أمام القاضي.
أسأل الله أن يغفر لراحلنا العزيز، الذي ترك الدنيا بما فيها، بعد أن صرم نصف قرن في مهنته التي أحبها، وفي تربية بنيه على حبها وعلى البر وصالح العمل، حتى نزلوا الثلاثة جميعهم في جدثه وأدرجوه فيه برًا به وأداء لحقه عليهم، ثمّ وضعوه في لحده وأهالوا عليه التراب بمقتضى السنّة، وتلقوا العزاء فيه صابرين مسترجعين، ولم ينصرفوا قبل الوقوف الأخير على قبره مع الدعاء والابتهال، والله يديم عليهم الألفة والصلة والتوافق، ويحفظ بينهم ذلك الميثاق الكبير الذي أوجده والدهم؛ ليكون الأب الراحل حاضرًا بخير وحنان حتى في تفاصيل ما بعد الوفاة.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الأحد 11 من شهرِ شوال عام 1442
23 من شهر مايو عام 2021م