محمد بن إبراهيم الجميح: أمير الوشم
هاهنا تعريف بكتاب مختصر يصف محاسن الأخلاق، ويظهر السيرة العريقة المتوارثة، ويوحي بهيبة الطمأنينة من غلافه الأول حتى كلمات الغلاف الأخير. عنوان الكتاب: محمد بن إبراهيم الجميح: أمير الوشم في الدولة السعودية الأولى 1218/1229 حياته-أعماله-ذريته، تأليف: يوسف بن عبدالعزيز المهنا، صدرت الطبعة الأولى منه عام (1431)، ويقع في (114) صفحة مكونة من مقدمة فسبعة عشر موضوعًا ثمّ خاتمة يتبعها ملحق فيه (41) وثيقة وصك ورسالة ووصية وبرقية وصورة.
يفصح الكتاب عن أهمية التدوين والتأريخ، حينما ذكر المؤلف بأن ترجمة الأمير محمد بن إبراهيم بن يحيى بن غيهب المعروف بالجميح (1170-1180-….) من حسنات مؤرخ الدولة السعودية ابن بشر الذي أشار إلى إمارته على ناحية الوشم. وهي كذلك ثمرة لحرص أحفاده بعد مئتي عام؛ فالشيخ محمد العبدالله أعطى الوثائق التي لديه للباحث، والشيخ محمد العبدالعزيز هاتفه حاثًا على التأليف بعد أن كتب مقالة مختصرة؛ فلبى الطلب بعد الاطلاع على وثائق الشيخين إبراهيم العبدالعزيز وشقيقه عبدالرحمن، ونشط لدوافع منها توثيق أخبار أسرة عريقة، ثمّ وفاء لحقوق الجوار والقرابة والصداقة مع أسرته لدرجة وجود فرجة مشتركة في السطح بين بيتي الجميح والمهنا.
ابتدأ المؤلف كما هو مقتضى هذا النوع من التآليف بالحديث عن منطقة الوشم الجميلة، ثمّ نفي نسبة بيتين من الشعر عنها للحطيئة، وتحديد موقع شقراء بلدانيًا ومكانتها التاريخية حتى صارت من أهم البلدات المؤيدة للدعوة والدولة بعد الدرعية والعيينة؛ لذا حظيت بزيارات علماء وتجار إضافة إلى رحالة مسلمين وأجانب مثل “سادلير” و “مانجان” و “فلبي” ومحمد أسد. وتُعدّ شقراء مركزًا ماليًا وعلميًا وحربيًا، وموضعًا لتجميع الخيل العربية الأصيلة قبل بيعها في أسواق الهند المحكومة آنذاك من الإنجليز، وإن حركة “نقل” الخيول من الجزيرة العربية إلى خارجها لموضوع جدير بالدراسة فيما أحسب.
ثمّ وقف الكاتب مع حرب شقراء وحصارها من قبل القوات العثمانية على مشارف نهاية الدولة السعودية الأولى على يد الجيش الخليط القادم من مصر، وسرد تلك الأحداث الأليمة- أبعد الله أمثالها عن بلادنا وبلاد المسلمين-. ومما يلاحظ وفرة الطعام بأنواعه في شقراء، وتحصين مدخلها بسور صمد بضعة أيام أمام مدافع الغزاة، ومنها تزيين الشوارع بالأقواس فهي مدينة مولعة بالجمال منذ القدم. ولأهمية الواقعة جرى تسجيل تاريخ الاستيلاء عليها في يناير سنة (1818م) على لوحة في متحف الباشا بمصر.
كذلك أشار المؤلف إلى تداول الإمارة في الإقليم بين عدة أسر كريمة، وممن تولاها ثلاثة أمراء من آل غيهب، الثاني منهم هو الأمير محمد بن إبراهيم بن يحيى بن غيهب المعروف بالجميح، الذي أُفرد هذا الكتاب للحديث عنه وعن ذريته الباقية، وهي ذرية ظاهرة الآثار والبركات وإن لم تكن الأكثر عددًا بين فروع الأسرة المتشعبة. ولم يغفل المؤلف عن الإشادة بأبرز علماء آل غيهب السابقين والمعاصرين، ومنهم العالم صاحب المؤلفات الرصينة المتقنة، والمشاريع العلمية الباهرة، الشيخ بكر بن عبدالله أبو زيد آل غيهب.
ولد الأمير في غالب الظن بين عامي 1170-1180 دون تحديد سنة وفاته، والجميح لقب لوالده استمر مع الأسرة. وتولى إمارة شقراء في عهد الإمام سعود الكبير حسبما نصّ عليه ابن بشر في حوادث سنة (1229)، ويرجح المؤلف أنه تولى الإمارة قبل عام (1224). وقد ترك محمد الإمارة بعد أن شكاه أهل البلدة للدرعية، واتهموه بالانتفاع من بيت المال، وبعد المراجعة تبين أن بيت المال مدين للأمير بأكثر من المبلغ المتهم به ظلمًا واستعجالًا؛ فاعتزل الولاية بيد أن أهل البلد ألحوا عليه أن يختار لهم أميرًا، فرشح ابن عمه للإمارة. ومن المواقف ذات الدلالة أن أمير الدرعية أوقفه على رسائل الشكوى الواردة إليه ثقة به وحسن ظنٍّ بحكمته وعدله. ولم تغضب هذه الشكاوى الرجل الكبير على بلدته وأهلها ولم توغر صدره؛ بل نصح لهم وأبقى حبل الوداد والإحسان متصلًا معهم غير منقطع، وهذه سمة الأكابر المترفعة عن الحقد والغلّ خاصة على الأقربين.
للأمير ولدان هما إبراهيم وعبدالله الذي لم يعقّب، ولإبراهيم خمس بنات وولد واحد هو عبدالعزيز، وإلى عبدالعزيز الإبراهيم تؤول أسرة آل الجميح فهم جميعًا أبناء عبدالعزيز بن إبراهيم بن الأمير محمد. وهذا الجد من مشاهير الأسرة، ورموز البلد وممثليها وأثريائها الكبار السابقين بالنجدة والوقف والصدقة الجارية. ويروى عنه أنّ فقيرًا طرق عليه باب بيته في آخر الليل كي يبشره بمولود أتاه، وليس بينهما صلة قرابة أو جوار أو صداقة؛ فجهز الجميح للوالدة والوليد الهدايا والأطعمة التي يستلزمها الميلاد والنفاس، وأعطى الوالد ريالين فضة مقابل بشراه.
وهو الذي بنى بيت الأسرة التاريخي في حي الحسيني المشهور بسعته وفخامته وعذوبة أمواهه، وعلى جدار البيت توثيق لتاريخ بنائه في الثامن عشر من شهر ربيع الأول عام (1282)، وأصبح البيت بعد رحيل أهله دارًا للمساكين ومكانًا لتفطير الفقراء في رمضان. ثمّ توفي عبدالعزيز الإبراهيم بعد موسم حج عام (1305) تاركًا خمسة أولاد دون العشرين من العمر، توفي اثنان منهم وهم صغار (محمد وحمد)، والثالث لم ينجب (إبراهيم)، فانحصرت ذريته في ولديه عبدالرحمن وعبدالله.
أيضًا أورد الكتاب موجزًا عن بعض شخصيات الأسرة، مثل إبراهيم العبدالعزيز (1285-1371)، وعبدالله العبدالعزيز (1290-1306) وله ابنان من أعلام الأسرة كما سيأتي، وعبدالرحمن العبدالعزيز (1295-1393) وهم أبناء الوجيه عبدالعزيز الآنف ذكره. وبعدهم تحدث عن عبدالعزيز العبدالله (1323-1376) الذي توفي بعد أن سقط من باب سيارته الذي فتح فجأة وهو في رحلة قنص، وله من الأبناء والبنات محمد وعبدالرحمن وحمد وحصة ونورة ودلال، وأكمل هؤلاء الأنجال المسيرة التجارية والخيرية لأبيهم الراحل مع عمهم الكبير الشهير محمد العبدالله (1333-1425) الذي رزق بأولاد هم: عبدالله وإبراهيم وعبدالعزيز وعبدالرحمن وحمد ومنصور، وعدّة بنات نبيلات.
كما يتجلّى في الكتاب القصير صلة هذه الأسرة العريقة مع التجارة القريبة والبعيدة، وحرصهم على الزراعة والنخيل، وتتابعهم على أعمال الإحسان والوقف والمعروف كأنهم تواصوا به؛ لدرجة أن كلّ واحد منهم أوقف قبل أن يموت، وشملت هذه الخصيصة حتى نساء الأسرة اللاتي أكرمهن الله بالتصون والصلاح. ويظهر في الكتاب تعاون آل الجميح مع الدولة السعودية في شقراء وسدير والمدينة وتربة والبريمي، وعلاقتهم الوثيقة مع الأحساء والمجمعة وأمرائها وقضاتها، ومع علماء البلدات المجاورة والقصيّة وأسرها بالتراسل، أو التزاور، أو التعاون، أو التصاهر. ولهم مشاركات قديمة متعاقبة في أيّ شأن يجلب المصلحة لشقراء وأهلها، وهي فضيلة فيهم توسعت لتشمل أنحاء المملكة كافة من خلال أوقافهم ومؤسساتهم الخيرية المباركة.
إننا عندما نقف مع مثل هذه النماذج المضيئة لنكرم أنفسنا ومجتمعاتنا أكثر مما تناله الشخصيات المترجمة؛ ذلك أن في الثناء عليهم ثناء على المجتمع الذي خرجوا منه، وتعزيز لأعرافه الصائبة، وعاداته النبيلة، وتوقير لمرجعيته الشرعية والثقافية. وفيها إبقاء للمآثر حتى لا يفتري أحد على جيل أو عصر أو مكان، إضافة إلى إبراز القدوات الجديرة بالاحتذاء؛ فنقول لمن يسمع ويرى: أولئك آبائي، وهؤلاء إخواني، والقادمون أبنائي، وهذا كله مجتمعي وأناسي، وإننا لذرية بعضها من بعض، يجمعنا الأصل النقي، والنوايا الطيبة، والمحامد التي تتآزر في صناعة لوحة بهيجة عن إنساننا في سلمه وحربه، وغناه وفقره، وفي مراحل عمره كافة، وأيًا كان جنسه، فالخير والعرف وصنائع البر في قومنا وبيئتنا أشبه بالجبلّة الساكنة في الصلب والترائب.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الخميس 17 من شهرِ رمضان عام 1442
29 من شهر أبريل عام 2021م