من بركة الحرمين!
لمكة والمدينة-زادهما الله شرفاً- تأثير كبير على نفوس الحجاج والعمار والزوار، ولذا فكثيراً ما يتغير الإنسان إلى الأحسن بعد زيارتهما والعيش في كنفهما على إثر أداء ركن عظيم أو عبادات جليلة.
وقد لاحظ المحتل الكافر أثر الحرمين على الشعوب المسلمة؛ فسعى الإنجليز-مثلا- إلى استصدار “فتوى” تحرم الحج على الهنود؛ بدعوى مشقة الرحلة، وكلفتها، وصعوبة الوصول، وخشية الأمراض المنتشرة ، إلى غير ذلك من أسباب –بعضها- واهية لكنها وجدت مَنْ يفتي بها!
وسار على هذا المنوال الخبيث الطغاة الذين ابتليت بهم أمة الإسلام، فوضعوا العراقيل والصعوبات للحيلولة دون شعوبهم والرحلة للحرمين، فلا يكاد الواحد منهم ينعم بفرصة حج أو زيارة إلا بعد بلوغه سنَّاً أقرب إلى الشيخوخة منها إلى الشباب، وبالتالي يكون أثر الرحلة مقصوراً على فئة عمرية أثقلتها السنون بهموم الحياة والمعاش، وانصرفوا عن هم الدين والأمة في غالب شأنهم.
وإذا كان الأثر كذلك مع عامة المسلمين فهو آكد في حق الخاصة من أهل العلم والفكر والريادة، لأن لديهم من الوعي ما يجعل الرحلة للحرمين غير قاصرة على أداء الشعيرة مع عظمها، فتجدهم يهتبلون هذه الفرصة للقيا من قد يصعب لقاؤه في غير تلك المشاعر المقدسة والمواضع الطاهرة، وينهلون من علم الأشياخ؛ أو ينشرون علمهم وما يمتازون به من فنون، وكم من عالم مغربي تجده شيخاً لمشارقة، أو عالم مشرقي يكون شيخاً لمغاربة، ومكان التتلمذ والتلقي بينهم في رحاب الحرمين الشريفين. ولم يقتصر الأمر على حمل العلوم وأدائها، بل تجاوزه إلى غير ذلك مما لا يستغرب لبركة المكان وربما الزمان.
فقد نادى المجاهد أحمد بن عرفان في الناس بالحج سنة 1822م، وأرسل الكتب إلى أنحاء الهند لحث العلماء على الالتحاق بحملته، وأعلن بأنه سيتكفل بنفقات من ليس له زاد، وغايته بعث شعيرة الحج التي توقفت فترة من الزمن. وتجمع في حملته 400 حاج، وتحرك الركب في شوال 1236، وقد حث رفاق حملته على التحلي بحميد الأخلاق ليعرف الناس جمال دينهم ويعودوا إليه، وقال:”إنني لأرجو أن يهدي الله في هذه الرحلة مئات الآلاف من الناس…”، وخلال طريق الرحلة كان داعياً إلى الله، معلماً للناس، مصلحاً بينهم، قاضياً حوائجهم، ونفع الله به بلاد الهند والتبت، فلما عاد بدأ حركة إحياء وجهاد ضد المحتل الإنجليزي حتى آخر يوم من حياته، تقبله الله شهيداً.
ومن أثر الحرمين الشريفين، ماكان من شأن العلامة الجزائري محمد البشير الإبراهيمي حين التقى-لأول مرة- بلديه العالم المربي عبد الحميد بن باديس -رحمهما الله- في مسجد النبي-صلى الله عليه وسلم-بالمدينة النبوية خلال مجاورتهما هناك، وقال الإبراهيمي واصفاً هذه اللقاءات: “كانت هذه الأسمار المتواصلة كلها تدبيراً للوسائل التي تنهض بها الجزائر… وأشهد الله على أن تلك الليالي من سنة 1913 ميلادية هي التي وضعت فيها الأسس الأولى لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين.”
وفي سير عدد من أعلام الأمة في القرنين الأخيرين؛ أثر عقدي واضح للحرمين، حيث كان انتشار الدعوة السلفية فيهما سبباً لنشرها بين الحجاج وتصحيح النظرة إليها، وكم من عالم أو مجاهد أصبح سلفي المعتقد بعد زيارة مكة أو المدينة، بل إن الشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب قد تأثر بلقاء علماء المدينة، كالشيخ محمد بن حياة السندي ، والشيخ عبد الله بن إبراهيم بن سيف، وربما أن فكرة القيام بدعوة للتوحيد الخالص قد انبثقت في تلك الرحاب الطاهرة، خاصة أن حفيده قال أن الشيخ دعا الله في حجته وعند الكعبة المشرفة، أن يوفقه الله لدعوة الناس إلى التوحيد وسلامة المعتقد.
وقد أثَّرت رحلة الحج في الكاتب الأمريكي المسلم جفري لانج ودون تفاصيلها في كتابه: (الصراع من أجل الإيمان: انطباعات أمريكي اعتنق الإسلام) حيث انبهر بالتَّنوع البشري في الحج، كما كانت رحلة الحج سبباً في تصحيح أفكار الزَّعيم الأمريكي المسلم مالكوم إكس عن الإسلام؛ حيث استبان له ضلالة معتقداته السَّابقة، وعاد إلى بلاده داعية إلى الدِّين الحقِّ الذي عرفه واقتنع به في بطاح مكة الطَّاهرة؛حيث أدى أول صلاة له وفق الهدي النبوي.
كما أن رحلة الحج التي شرع بها الكاتب المصري محمد حسين هيكل ووضع عنها كتاباً بعنوان: (في منزل الوحي) كانت بسبب نصيحة من عبد الكريم جرمانوس-المسلم المجري- الذي تحسنت حياته بعد أن أدَّى فريضة الحج، ووصف رحلته في كتابه عن رحلة الحج بأنَّها: “لحظة من لحظات الإشراق”.
ومن التأثير العلمي للحرمين ماكان من خبر الشيخ عبد الرحمن الأفريقي المالي الذي حج ودرس في مكة والمدينة، واغترف من معين العلم فيها حتى نفع الله به، وكذلك ملازمة الشيخ بكر أبو زيد آل غيهب عشر سنين للشيخ الشنقيطي ودراسته عليه بعض الكتب وتأثره بشيخه لغة وأسلوباً، وهذه من أعظم مزايا قصد الحرمين الشريفين.
يقول الذهبي: “ولقد كان من خلق طلبة الحديث أنهم يتكلفون الحج، وما المحرك لهم سوى لقيّ سفيان بن عيينة؛ لإمامته وعلو إسناده”، ويقول عبد الرحمن بن يحيى المعلمي: “كان من أعظم ما يهتم به العالم إذا حج الاجتماع بالعلماء والاستفادة منهم وإفادتهم، لقد كان بعض العلماء يحج ومن أعظم البواعث له على الحج طلب العلم والاجتماع بالعلماء”.
ومن بركة الحج أن كان سبباً في سكنى عدد من العلماء والقراء في رحاب الحرمين؛ حيث نهل من علمهم واستجازهم عدد كبير من المسلمين، ماكان لهم أن يفيدوا منهم لولا اشتهار أمرهم بين الحجاج ، وسهولة الوصول إليهم لمن امتن الله عليه ببلوغ الرحاب المقدسة، ومن أشهر أولئك العالم الأصولي الرباني محمد الأمين الشنقيطي صاحب أضواء البيان رحمه الله. ويذكر الشيخ بكر أبو زيد أن ابن تيمية قد آلت إليه الإمامة في العلم والدين، بعد أن أدى فريضة الحج.
هذه أمثلة وغيرها كثير، وقد جعل الله الكعبة قبلة للمسلمين تهوي إليها أفئدتهم، فإذا مابلغوها ورأوها سرت في أرواحهم حالة شعورية من الإيمان والمحبة لرب هذا البيت، وكم في هذه المشاعر الفياضة من بركة وخير حين يكون معها علم راسخ، وفهم ثاقب، وهمة لا تخور، ونية لا تفسدها الشوائب.
أحمد بن عبد المحسن العسَّاف-الرِّياض
الثلاثاء 04 من شهرِ ذي القعدة الحرام عام 1434
7 Comments
اللهم احفظ بلاد الحرمين حكاما وشعبا قبلة جميع المسلمين , ومقيميها المخلصين . اللهم اجعل هذا البلد الامن الطاهر . امنا وارزقهم من الثمرات ومتعهم بالامن والامان والبركة والرخاء . واصرف عنهم كل من اراد بهم سوء .امين برحمتك يا ارحم الراحمين
لبيك ربي وان لم اكن بين الزحام ملبيا . اللهم ارزق كل مشتاق مسلم ومسلمة لااداء فريضة الحج .