متى ستغيّر دائرتك؟
نعيش ضمن دوائر نحكمها أو تحكمنا، تخدمنا أو نخدمها، وربما تكون لبعضها الصفتان معًا؛ فهي تخدِم وتُخدم في آن واحد مثلًا. وتقع هذه الدوائر في مجالات متنوعة شخصية، ومجتمعية، ورسمية، ومنها ما هو ماضٍ مستمر، أو حاضر قائم، أو مستقبل متوقع، أو آتٍ لا محالة. ويرتبط قسم منها بالعمر، والانتماء، والتخصص، والاهتمام، والمكان، والاعتقاد، والجنس، وفي أكثرها قابليّة للتغيير والتجديد، ولبعضها ثبات وبقاء، فمنها ما يشبه المبادئ والجلد لا يتغير، وكثير منها مثل المواقف والملابس قابلة للتبديل، وهي دوائر يرد عليها احتمال التعدد والتقاطع والتضاد.
وتغيير الدائرة ليس عيبًا أو نقصًا دومًا، بل هو في أحيان عين الحكمة، ومقتضى الواجب سواء أكان واجب الزمان أم المكان أم الحال أم المآل المراد. ومن المجزوم بمراعاته سلفًا ألّا يقود التغيير إلى ارتكاب محظور، أو تقحم سبل العطب، أو الزهد في مكاسب بورك فيها؛ فهذا خلاف الصواب ونقيض الرشد. وإنما يكون التغيير لجلب مصلحة أو دفع مفسدة، وهو مقصد شرعي عظيم، فلربما استعصت دائرة، أو ضاقت، أو أجهدت دون طائل، أو استبان براعة الآخرين فيها، أو حتى أصابها تشويه في المنظر، أو نتن في الريح، أو أُلصق فيها من البشاعة ما هي منه براء، وليس هناك عقد استنفاع دائم مع دائرة دنيوية صرفة تمثل سببًا أو وسيلة، وبالتالي فلا مناص من التغيير.
والأمثلة كثيرة، فقصص الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- تمثّل مرجعًا أصيلًا في التغيير الرشيد، والعبور من دائرة لأخرى. وتعدُّ أركان الإسلام مثالًا واضحًا على تغيير الدائرة، ففي الشهادتين توحيد وإيمان بعد نقيضهما، والصلاة انقطاع عن الدنيا عقب الانغماس فيها، والزكاة إخراج للمال الحبيب المكتنز، بينما يأخذنا الصيام إلى هجر عوائد مألوفة، وامتناع عن لذائذ طيبة، ويبدّل الحاج إبان منسكه دوائره المكانية والزمانية والسلوكية.
وإذا تجلّت الفكرة فسوف يتذكر القارئ توفيق الله لأبي بكر الصديق في الخروج من دائرة الرفق إلى القوة في التعامل مع المرتدين ومانعي الزكاة؛ فحفظ الله به الدين والملة. وبراعة خالد بن الوليد رضي الله عنه في تحركاته أثناء معركة مؤتة حتى تحول من موقف إلى آخر وهو حميد غير ذميم. وانتقال أبي محذورة من خانة الغناء العابر إلى رحاب الآذان الخالد، وخروج صقر قريش وحيدًا طريدًا من منطقته التي ألفها إلى أخرى بعيدة غريبة ليبني دولة أندلسية عظيمة، ومزج الإمام الشافعي في تلقي العلم بين الأثر والرأي حتى أبهر أهلهما، رضي الله عنهم جميعًا وأرضاهم.
أما من المعاصرين فيحضرني الأستاذ أبو فهر محمود محمد شاكر الذي نشأ في أول عمره محبًا للرياضيات واللغة الإنجليزية، بينما تعسرت عليه العربيّة، وفي لحظة فارقة غيّر بوصلته نحو لغته حتى صار الإمام المقدّم فيها تذوقًا وقراءة وعلمًا. وكذلك تغيير الدكتور نبيل علي موضع اهتمامه من هندسة الطيران إلى سعة علوم اللغة والبرمجة؛ فغدا عَلَمًا تتسابق إليه الجوائز، ولو بقي في دائرته الأولى فلن يعرفه أحد. ومنها ترك الشيخ صالح الراجحي بلدته والزراعة ميممًا وجهه صوب بلدة أخرى، وممارسًا لأعمال مصرفية لم يعهدها، فوفقه الله لبناء اسم كبير لأسرته في عالم الثراء والعمل الخيري. ولو لم ينصرف “إدوارد دي بونو” إلى التفكير الإبداعي لعاش عمره مقصورًا على عيادته النفسية ومراجعيها، وقرأت عن روائي عالمي أنه ترك الطب إلى الكتابة الإبداعية بناء على نصيحة من مريضه أستاذ الأدب السبعيني؛ فبرع في الكتابة السردية ووجد روحه التي كانت تائهة في أروقة المستشفى.
ولا يقتصر تغيير الدائرة على الأفراد، بل يمتدّ ليشمل الشركات والمؤسسات والدول، فكم من شركة ظهرت للعيان في تجارة أو صناعة ثمّ هجرتها إلى غيرها، وكم من دولة كانت ذات عناية بإقليم أو منتج أو حلف، ثمّ ألقته خلف ظهرها بعد أن فقد قيمته، أو اطمأنت على أمنها القومي من جانبه، أو اضطرت لذلك تحت وطأة خارجة عن إرادتها. فمثلًا اختلفت دوائر الإنجليز في القرن العشرين كليّة عن دوائرهم قبله بقرن، وتراقب شركات التقنية والتسليح والطاقة حركة الرياح في مجالها تحسبًا لأي طارئ، وتخشى مصانع أدوية التعايش مع مرض السكر من الانهيار لو اكتشف علاج ناجع لهذا المرض.
عليه يكون السؤال: متى ستغيّر دائرتك؟ وكيف ستصنع ذلك؟ وهل الأجدى لك أن تكون متقدمًا أو متأخرًا؟ وأيهما يحقق مصالحك هذه الدائرة أم تلك؟ وما هو الحقل الذي تتوقع ازدهاره وتعاظم الحاجة إليه؟ وهل سيظلّ مصدر رزقك باقيًا بنفس الكلفة والعائد والمنافسين؟ والأسئلة من هذا القبيل كثيرة، لا يكاد أن يحيط بها حصر، وتنتظم تحتها شؤون الناس في خاصة أمرهم وعامته، وفيما يتعلق بالدنيا والآخرة.
والسعيد من أبصر أو تبصر أو استبصر منفردًا أو بالتشارك مع من يناسبون للشورى وتقليب الآراء؛ لأن من يضع نفسه في دائرة ضيّقة من العلاقات، والقراءات، والحوارات، فستكون آراؤه مبتورة وربما مضحكة، وقد لا يصل إلى قناعة باختلاف الزمان ولوازمه وأدواته، أو لايثق بجدوى التغيير فضلًا عن وجوبه، هذا غير أن للضرورات أحكامها، وأطواق النجاة تظهر فجأة في لمعة خاطفة ثمّ تختفي بسرعة، والموفق من تعلّق منها بسُبل نجاته وسلامته.
فمن نقيض الحكمة البقاء في دائرة أحيط بها، أو ازدحمت، أو تجمّدت، أو صارت منبوذة، أو غدت علامة على سوء وإن لم تكن سيئة في حقيقتها، ففي الأرض خيارات وفسحة ومنأى، ولن يأتي على الناس زمان ليس فيه إلّا باب واحد مهما بدا أن الحلقات ضيقة، والإغلاق مستحكم، فسعة الأفق، وارتفاع السماء، ورحابة الأرض، وعمق البحار، وكثرة الأبواب والنوافذ والمخارج، كلّها تؤكد على الوفرة وتنفي الندرة، وتشير إلى إمكان الاختيار دون اضطرار أو إجبار.
كذلك لبعض الدوائر مزاج أو تاريخ أو أسرار، وسيكون من إضاعة الوقت محاولة الانتصار فيها بفقدان شيء من مقتضياتها. وبعض الدوائر استنزافية للجهود، أو مصيدة ولو بعد حين، ومن الحصافة أن يعرف صاحب القرار تاريخ أيّ دائرة، وحركة المراكز والأطراف فيها، وما يؤثر عليها من داخلها وخارجها، فمثل هذا الاستعداد مجلبة للأمن، ومحمود العاقبة وإن كان متعبًا، وإنما لذيذ العيش في النَّصَب أحيانًا، ومن جاوز مالا يستطيعه إلى ما يستطيع فلن تدركه ملامة.
وقد يُغفل عن أثر بعض الدوائر لسبب أو آخر، فاللغة مثلًا دائرة عظيمة مهملة وفيها رزق وفير، وثبات كبير، وعزة باقية. والتاريخ ينافس الفكر في الارتقاء بالعقول فضلًا عن لذته المعرفيّة، ودلالاته العميقة. والرياضة وعوالمها تتقدم على الثقافة في بعض المفاهيم والأدوات وطبائع الجماهير. والتراث الشعبي يقاوم التغريب وعمليات سلخ الهوية، والموروث بعمومه يختصر كثيرًا من الإجابات، وذاكرة المكان تحيي أحسن المعاني. وكم هو خصيب هذا البساط المهمل، وما أجدره بالالتفات والاقتناص، فهو مورق بديع مزهر لم يستثمر كما يستحق، والفرص فيه تنادي على الكرام أن هلّموا.
أيضًا من المهم تحديد الزمان المناسب لأيّ تغيير والمكان والكيفية، وفي بعض المرات تكون الدقيقة مؤثرة كما يحدث في المآزق والأزمات أبعدها الله، وينبني على هذا الحذر من القفزة في الظلام، أو التبكير قبل الغاية، أو السهو عنها وتجاوزها، أو الانضمام لقارب يغرق. ومن أشهر الأمثلة على التوقيت الخاطئ في تغيير الدائرة إعلان فرعون المتأخر لإيمانه وهو يعاين الموت غرقًا، وتصرفات آخر رئيس للاتحاد السوفييتي السابق “ميخائيل جورباتشوف” الذي يسميه البعض بناء على حاله السياسي المزري: “جرّب تشوف!” وكانت المحصلة لتجاربه الفاشلة انهيار ذلكم الاتحاد الضخم.
ويبدو أنه من الحنكة السابقة على أيّ تغيير حتميّة التصالح مع الماضي بعد الإفادة من عبره واستلهام أمجاده، فليس من الكياسة في شيء البقاء في وحل التقريع، أو الانحباس في دائرة كانت عبر زمن مضى بما ومن فيه. ومنها مغادرة دائرة الجدل الضنكة إلى محيط العمل الواسع، بمعنى أن البعض سيثير كلّ يوم قضية؛ وليس هدف فئام منهم الوصول للحق؛ ولذا فأكمل تفاعل مع أضرابهم تركهم وحيدين يتطاحنون في دائرتهم، والانصراف نحو العمل، ومن حسن العمل وكماله تغيير الدائرة بعد التحقق من شتى العوامل والمؤثرات.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
السبت 05 من شهرِ رمضان عام 1442
17 من شهر أبريل عام 2021م
2 Comments
مقال قيم ومفيد . به من الحكمة الشئ الكثير . وكما تفضلت عن الحكمة في تغيير الدائرة التي تحكمنا الى الاصلح .بعد الخروج من الدائرة العقيمة والابتعاد عن الجدل المضني .
الله ينفع به وبالجميع