خطباء على منابر الجامعة
الخطابة والحديث إلى الجمهور فنٌّ ذو أهمية وتقدمة، ومن الجميل أن يكون في برامج التربية البيتية للأبناء ما يعينهم على إتقانه، مثل أن يطلب الأبوان من أبنائهما الحديث في جلستهم اليومية، أو في اللقاءات الأسرية، وأمام الضيوف، حتى يحسنوا عرض مطالبهم خطابة مرّة، وكتابة أخرى؛ فلهذا أثر حميد على الشخصيّة وبنائها وتكميلها؛ لأنّ المرء المبين عمّا في صدره، لا يضيع له حقٌّ في الغالب.
كذلك الحال في المؤسسات التعليمية، التي يُطلب منها إضافة إلى التعليم، أن تختلط عملياتها بالتربية المتينة، مع رعاية المواهب والقدرات، ولعلّ من أجلّها القدرة على البيان، وإجادة التفكير بمناهجه وطرائقه، والتدريب على القراءة والحوار والخطابة والكتابة، والظهور على المسرح، إلى غيرها من جملة الأنشطة في حقول شتى، وهي مفيدة في التأهيل، والتوجيه، واكتشاف الشغف، وتُعدّ المرحلة الجامعية من أنسب سنوات الدراسة لتلك المباهج التي لا تزاحم المناهج.
وخلال دراستي في جامعة الملك سعود، أقيمت مسابقات على مستوى الطلبة للخطابة، ولم أشارك فيها مع أنّ زميلًا من أهل اليمن، سبقني دراسيًا بعدّة سنوات، اسمه كمال البعداني، قال لي عقب أن ألقيت كلمة كلية الصيدلة في حفلها: أنت خطيب مصقع! ويبدو أني تحمسّت خاصّة بعد إصرار مشرفنا الثقافي الأستاذ محمد زهران؛ فشاركت في إحدى المسابقات التي حكّمها أساتذة جامعيون منهم د.أحمد البراء الأميري نجل الشاعر الأميري، ومع الحماسة لم يُكتب لي الفوز إلّا بالمركز السادس، والحمدلله أن العهد بَعُد بالدكتور البعداني -الذي تخرج وغادر وانقطعت أخباره- فلم يعرف أن فراسته بخطابتي لم تصب!
في تلك المسابقة شارك زميل من دفعة سابقة، وحينما اعتلى المنبر، شرع يخطب مثل شلّال متدفق لا ينقطع، ولا يتوقف، ولا يتلعثم، وكان د.الأميري يرمقه بكلتا عينيه، وأما بقيّة المستمعين فأصاخوا وانصتوا كأنما أتاهم أمر نافذ ناجز بالصّمات، وتحدّث زميلنا عن أبي بكر الصديق رضوان الله عليه، وعندما أُعلنت النتائج إذا به هو الأول عن استحقاق تام، وزميلنا فيما أعلم يعمل حاليًا أستاذًا في كلية الطب بإحدى الجامعات، وهو الدكتور أسامة الخميس.
ومما أذكره حسب بعض الزملاء بأن الخميس شارك في مسابقة السنة التي سبقت فوزه، ونال المركز السادس فيها، ويبدو أنه لم يكن يعرف طريقة التقييم، وعواملها الأساسية في الترجيح؛ فلما فطن لها فاز في المركز الأول من قابل، وفي العام الذي يليه لم أشارك، بينما شارك زميلان من الكلية هما أسامة الخميس، وماجد الشهري، بعد أن نجح المشرف زهران في إقناعهما بالمشاركة، وأظنّ أنّ الأول منهما لم يعزم على المشاركة إلّا مغرب ذلك اليوم، والمسابقة تبدأ بعد العشاء.
في تلك الليلة زارني الزميل ماجد الشهري بعد المغرب، واستعار مني كتابًا هو الجزء الرابع من ستّة أجزاء، وقال سوف أستفيد منه في الخطابة ثمّ أعيده، وفعلًا فاز بالمركز الرابع، وكانت خطبته عن آية قرآنية، وعلمتُ بأن الخميس حينما صعد على منبر المسابقة، تذلل له القول، وصار الكلام يواتيه ولا يتمنع، وهو يتابعه ولا يتعتع، منطلقًا بدُّري اللفظ، وعسجدي المعنى عن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وينقل الزميل ماجد الشهري عن زميلنا الأقدم أسامة الخميس أنه قال بصوت جهوري هزّ أركان القاعة: “ها أنا اخترق حجب التاريخ وأفتح الباب…”، ويعلّق ماجد بلطفه المعهود، بأن المتسابقين حينما سمعوا هذه الجملة، عرفوا يقينًا إذ ذاك بأنهم قد خرجوا مع الباب، وضحك ماجد بابتسامته العذبة، ولاحقًا بلغني أن د.أسامة لو لم يتخرج؛ لأكمل منظومة الخطب عن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم وأرضاهم.
يقودني هذا الحديث إلى أني سألت ماجدًا عن كتابي المستعار؛ لأنه واحد من أجزاء لا ينبغي أن تنخرم؛ فقال لي: هو بجوار سريري، وأنا أقرأ منه كلّ ليلة باستمتاع! ثمّ أعدت السؤال بعد شهور فأجاب: فرغت منه؛ ولكنّ أخي بدأ يقرأ منه كل ليلة بمتعة وانشراح، فقلت له: يسرني ذلك؛ ولولا أنه واحد من مجموعة لما حرصت عليه، وبعد أن بقي الكتاب لديه سنة كاملة أعاده قائلًا: هنيئًا لك الأجر، وطبعًا هذا التأخير جرى بتوافق بيننا.
بيْد أنّ الذي أحزنني وأنا أدخل إلى الطائرة قبل عامين، وبجواري زميلي الحبيب محمد العقيل أن قال لي في سياق حديث عابر: ماجد رحمه الله! فاستوقفته على عتبة الباب مستغربًا مستفهمًا، وأنبأني بحزنٍ ظاهر أن ماجدًا توفي منذ عامين من يومنا ذاك في كندا فجأة؛ ففجعني خبر رحيله، وتألمت لتأخر علمي بذلك، والله يسبغ عليه رحمته، وعفوه، ورضوانه، ولعلّ الله قد قبل الدعاء له في تلك الرحلة المكية عام (1440)، ولا يزال في النفس عنه بقيّة من حديث.
والشيء بالشيء يذكر، فمن لطائف مسابقات الخطابة التي سمعتها، أن أحد الزملاء القدامى في كلية الصيدلة، فاز فيها بمركز متقدم، وبينما كان يمشي في ممرات الكلية، صادفه أستاذ جادٌّ للغاية، وفيه صرامة وتجافٍ عن الطلاب من غير أن يكون متغطرفًا أو متغطرسًا؛ بل حرصًا عليهم كي لا يكونوا-حسب كلمته المعتادة- “كحيانين”، فوقف الأستاذ أمام الطالب الفائز خلافًا لعادته وقال له: “خطابة فيه، علم فِش!”، ولي مع هذا الأستاذ مواقف ربما أسردها يومًا.
ومنها كذلك، أنّ أستاذًا من مشاهير أساتذة الكلية، ومن الذين يتقاربون مع الطلبة بوداد وحنان، قابل أحد الفائزين بعد أن نُشرت صور الطلاب الحائزين على الجوائز في صحيفة رسالة الجامعة، وهي صحيفة تصدر عن الطلاب، فقال الأستاذ للزميل: هل سمعت ما حدث في عليشة من ارتباك وتزاحم؟! وعليشة هي مقر كليات الطالبات -أبعدهن الله بفضله عن الاختلاط-، فأجاب الزّميل بعفوية وتعجب: كلا! ولم يتركه الأستاذ ليغرق في متاهة الحيرة؛ إذ فكّ رموزه المشفرة قائلًا: -وهو يمزح وليس لكلامه من الحقيقة نصيب-: إنّ الطالبات تزاحمن على أخذ نسخ من الصحيفة، حين علمن بوجود صورتك فيها أيّها الطالب الفائز بمسابقة الخطابة!
اسأل الله بمنه وكرمه، أن يغفر للأساتذة والزملاء الراحلين، ويحفظ الباقين ويبارك لهم، وييسر اللقاء بمن تفرقت بنا وبهم شعاب الدنيا، وأن يجعل مؤسساتنا أيًا كان مجالها، ذات بركات متنوعة، تعود على الإنسان والمجتمع والدولة، بما يثري حياتنا الروحية والمادية، ويزيدنا قوة، وألفة، وتعاونًا؛ لأن تحقيق المصلحة غاية العقلاء حتى لو اختلفوا في مئة مسألة، وأعاذنا الله من أيّ سلوك يقترب من الجدل العقيم، الخالي من الفكر القويم، والتحليل العميق، والعمل الرشيد، والأثر النافع الخالد.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الأربعاء 11 من شهرِ شعبان عام 1442
24 من شهر مارس عام 2021م