قراءة وكتابة

فنُّ التحرير وإعادة الصياغة

فنُّ التحرير وإعادة الصياغة

تحرير الكتب والأبحاث، والخطب الرسمية، والكلمات المنبرية، وأوراق المؤتمرات، أسلوب متعارف عليه، ولا أظنه جديدًا، فكم ضمّ الأمراء والخلفاء إلى بلاطهم من كتّاب وأدباء، ثمّ يلقون عليهم الكلام ليدونوه ببهاء يليق بذي السلطان، ومن الطبيعي ألّا تكون مهمة أولئك الكتّاب وفيهم أكابر وأساطين مجرد الاستملاء، أو نقل ألفاظ الحاكم إلى الرقعة مباشرة دون إبداء رأي.

وفي عصرنا الحديث قلّما يلقي زعيم كلمة أو خطابًا دون أن يراجعها كتّابه ومستشاروه البارعون في هذا الحقل، بل ويصححون له ولو كان عتيًا لا يقبل ربع كلمة من النقد، بيد أنه لا يجد غضاضة في الاستماع لآرائهم وقبولها، ولا يجفل من تصويباتهم ومقترحاتهم لأنها تصب في خانة حضوره وظهوره، وبذلك يكون القلم شريكًا في المصير مع السيف إن في المجد أو في غيره!

لأجل ذلك فمع أن عمل المؤلف في الغالب جميل إلّا أنه سيصبح أجمل وأكمل حينما يُعرض على غيره، ويشاركه فيه محرر حصيف خبير بالذائقة الثقافية، متفنن بملكة التحرير والصياغة، والواجب على المحرر أن يكون أداؤه احترافيًا مفيدًا فيه إضافة للعمل، والمؤلف، والقارئ، ومن نقيض الأمانة نقص الاجتهاد فيه، وضعف الإتقان والضبط، وترك أيّ جزء منه دونما فحص وتنبيش يشبه وقوف شحيح ضاع في الترب خاتمه.

واستكمالًا لمقالة آنفة، سأكتب من خلاصات الخبرة والقراءة والحوار ما أحسب أنه يفيد المحررين، ولا أستغني عن إضافاتهم وتعديلاتهم، ويلائم قبل الشروع في ذلك الإشارة إلى صفات لا بدّ من توافرها فيمن يتصدى لعملية التحرير؛ لأنها الكتابة وإعادة الكتابة، ولا مناص فيها من الإعداد، والاستعداد، لحمل العبء، وإنهاء المراد على أحسن صورة مرضية، ثمّ اختم بفوائد وإشارات، وفيما بين الصفات والفوائد خطوات عملية التحرير والصياغة.

صفات المحرر الناجح:

  1. المصداقية مع المؤلف في رأيه حول الكتاب ومحتواه، وفي المدة المناسبة للتحرير مع الالتزام بها.
  2. الأمانة مع دار النشر والقارئ، ومع الثقافة والحضارة التي يخاطبها الكتاب، فلا يدخل عليهم نصًا تافهًا، أو مسروقًا.
  3. ديمومة القراءة، وله مع الأدب واللغة ولع وعلاقة وثيقة خصوصًا في النظر المتواصل بكتب المفردات والتراكيب والمعاني، والكتب التي يرتكز إليها هذا الفن، دون إغفال كتب الأخطاء الكتابية مع التحفظ على مطلق الإيمان بها.
  4. معرفة الأنظمة المرعية وقواعد سوق الكتاب عمومًا.
  5. حسن إدارة الوقت.
  6. القدرة على النقد.
  7. جودة الخيال والتصور.

أما خطوات عملية التحرير وإعادة الصياغة فيمكن كسرها على ثلاث مراحل، تمثل أجزاء العمل التحريري من بدايته إلى ختامه، وإنها لرحلة فيها جهد يتعب العين، ونشاط يكدّ الذهن، ومشقة تؤلم الظهر والأكتاف، وانشغال يجلب السهر والأرق، وما يدفع فيها ليس بكثير خاصة لمن أخلص ونصح وبر، وهذه الخطوات هي:

أولًا: قبل بداية التحرير:

  1. طلب نسخة إلكترونية من الكتاب فهي أفضل من الورقية؛ وللمحررين أمزجة وتفضيلات.
  2. فتح ملف إلكتروني خاص بهذا النص لتقييد الملاحظات فيه.
  3. قراءة النص كاملًا قراءة متأنية ليس منها قراءة سريعة ولا ضوئية ولا أمثالهما!
  4. كتابة رأي المحرر لصاحب النص أو طالب التحرير بوضوح ودقة.
  5. تبيين النواقص أو الثغرات التي يراها المحرر في النصّ، ولصاحبه أن يكملها ويصلحها أو يهملها.
  6. تحديد مدى الحاجة لمقابلة صاحب النص، أو أيملته، أو التواصل معه هاتفيًا أو عبر تطبيقات التراسل الفوري.
  7. اقتراح الزمن المناسب لإنهاء التحرير، وفي حال الإصرار على تقصير المدة فلا توافق إلّا بشرطين هما: ثقتك بمقدرتك على الوفاء بالعقد، وزيادة المبلغ المتفق عليه للتحرير.
  8. اقتراح المقابل المالي الملائم لك مع احتساب أوقات اللقاء مع صاحب النص إن كان لها ضرورة.
  9. يمكن أن تبدأ بتحرير المقدمة القصيرة، وتطلع عليها صاحب الكتاب ليرى قدراتك، ولتستكشف رغبته وما يريده، ويجوز تأخير هذه الخطوة وجعلها مع بداية المرحلة الثانية.
  10. استوثق من صاحب النصّ إن كان يريد التحرير منجمًا أو دفعة واحدة، ولكلّ خيار محاسن ومساوئ.
  11. حددّ عدد المراجعات بعد إنهاء التحرير، وقيمة التعامل مع الإضافات الطويلة دون القصيرة التي تحرر بسماحة.
  12. كن واضحًا بشأن ظهور اسمك على الكتاب من عدمه، والأمر لا يخلو من آراء متباينة، وتقدير المصلحة في الظهور أو الاختفاء يعود لأطراف العمل.
  13. إذا توافقت مع صاحب العمل على كلّ شيء فليكن بينكما عقد مكتوب موقع، مع أن كلمة الأحرار الأبرار عن ألف ورقة.

ثانيًا: خلال التحرير:

  1. قراءة الكتاب مرة أخرى خاصة إن طال العهد بقراءته القديمة، ولا بأس فيها من القراءة السريعة المنهجية.
  2. الاطلاع على أعمال أخرى للمؤلف ولقاءات مسجلة معه؛ حتى تتوافق مع روحه وأسلوبه ولغته قدر المستطاع مالم يكن لديه خلل جلي في أسلوب الحديث والكتابة.
  3. العمل على نسخة إلكترونية أخرى غير النسخة الأصلية المرسلة لك.
  4. إنشاء ملف ملحق بنسختك تضع فيه أيّ شيء تحذفه من الأصل مهما صغر شأنه؛ فربما ترجع له.
  5. لا بد أن يشتمل صنيعك على حذف وإضافة، ودمج وتوسيع، وتقليل التكرار، والتخلص من الحشو، وإزالة الغموض، وتجلية المعنى، وتجميل الشكل، وسبك الأسلوب بما يزيده متانة مع رونق وجاذبية، وحذف أي كلمة تعدّها حجر عثرة.
  6. انقذ النص من الألفاظ المعلبة، وآثار الترجمة، والكلمات التي لا تناسب في جرسها، أو فخامتها، أو مدلولها، أو قد تثير لغطًا.
  7. من الضروري لبعض الفقرات والنصوص الطويلة أن تقسمها، أو تبتكر لها عناوين يلتقط القارئ معها أنفاسه، ويمسك بتلابيب المحتوى والمعنى.
  8. من البراعة أن يستخرج المحرر من الأقسام الطويلة أقسامًا أقصر ذات وحدة موضوعية دون اعتساف.
  9. إذا استربت من معلومة أو نقل فابحث بتعمق، أو سل صاحب العمل أو غيره من أهل الفنّ، وانصب حتى يعلو عملك وتزداد بصيرته ومنافعه.
  10. اكتشف أيّ تناقض وقع فيه المؤلف وعالجه بعد إخطاره، وخلّص النص من الاسترسال الممل، ومن التكثيف والترميز المرهق لذهن القارئ.
  11. الحساسية للزمن، والتواريخ، وتسلسل السرد، والهوامش، منقبة ثمينة لدى المحرر يُساق فيها الذهب، وتحول دون افتضاح العمل أمام ناقديه.
  12. توحيد نماذج الجداول والأشكال والهوامش، وكذلك طريقة كتابة الأعلام، مع ترتيب المصادر والمراجع بطريقة منهجية، وضبط التقسيمات الرقمية منعًا لأيّ تداخل أو التباس.
  13. إذا فرغت فلا تعِد العمل لصاحبه مباشرة؛ بل انتظر ثمّ كرّ عليه كرّة أخرى لمزيد تجويد وتحسين.
  14. تأكد مع آخر مراجعة لك من سلامة النص في الإملاء وعلامات الترقيم، والنحو والصرف، مع شكل الكلمات الملتبسة، ولو أن تستعين بذي اختصاص.
  15. حين ترسل الملف المُحرَّر للمؤلف ضع عليه رقمًا أو تاريخًا كي يسهل التفريق بينه وبين النسخ الأخرى، واحتفظ به لديك في غير ما مكان، ولا تتلفه.
  16. يُبتلى كثير من الناس بلزمة مكتوبة أو منطوقة لا يشعر بها، فضلًا عن ثقة النفس المفرطة بعملها، فترفق بالمؤلف وأنت تناقشه أو توضح له، فإن أجابك فبها، وإلّا فهو كتابه وذمتك براء حين أخبرته بما تره الأصوب.
  17. لك أن تقترح على المؤلف عنوانًا أو أكثر.
  18. صنع الفهارس، والكشافات، ليس من شأن المحرر البتة، وهو عمل مجهد للغاية.
  19. لا تبخل على النص بأي إضافة تصيره وضيئًا مؤثرًا خالدًا.

ثالثًا: بعد نهاية التحرير:

  1. تقبّل ملحوظات المؤلف، وحاوره حولها، ثمّ نفذ ما يطلبه مما هو داخل ضمن حدود التعاقد بينكما.
  2. أنجز المراجعات الإضافية دونما تأخير، وضع لكلّ ملف رقمًا وتاريخًا.
  3. قد يحتاجك المؤلف في تحرير كلمة الغلاف الخلفي فلا تتأخر عن ذلك، بل وساعده في انتقاء أجود الفقرات التي تصلح للغلاف الخلفي.
  4. من حسن العهد أن تعاون المؤلف برأيك في الغلاف، وحجم الكتاب والخط ونوع الورق، واختيار دار النشر والتسويق، وتوقيت العرض، وغير ذلك.
  5. تفاعل مع الكتاب بعد صدوره وتوزيعه بالقدر الذي تراه، والطريقة التي تحبذها، شريطة الموضوعية والعدل.
  6. أرسل جميع ما يتعلق بالنص عقب نهاية العمل للمؤلف حتى يحفظها.

فوائد إضافية:

  1. يستفيد المحرر النبيه من المؤلف أكثر مما يفيده أحيانًا، ومن الكياسة واللطف التسامحُ معه والتغاضي عن دقائق الأشياء.
  2. يصطاد المحرر الفطن الأقلام الواعدة ويبرزها.
  3. وظيفة المحرر تحسين عمل قائم مكتوب أو مسموع وليس إنشاء شيء من العدم، فلا تكتب لغيرك.
  4. لا تقبل عملًا ينافي دينك ومبادئك، أو يشيع الفواحش ويهون الكبائر، أو يتعارض مع الأنظمة، أو يعتدي على الآخرين.
  5. تقتضي أمانة المحرر فحص العمل حذار أن يكون مسروقًا، ومن إفادة المؤلف لفت نظره لمن سبقه في التأليف إن لم يكن على علم به.
  6. لا تسلم بعض الأعمال من غثاثة الترجمة، وأثر العجمة والدراسة بلغات أجنبية والقراءة بها، وعلى المحرر أن يخرج العمل من بيد يديه بلسان عربي مبين مشرق حتى لا يقول القارئ الفصيح: هؤلاء قوم من لساننا، يكتبون بلساننا، بطريقة ليست من لساننا!

فهنيئًا لعالم الكتاب والقراءة إذا تضافر على إنتاجه علم عالم، وعقل عاقل، وخبرة خبير، وبصر بصير، وقلم حاذق ماهر أمين، لأن هذه المقومات تضمن الإفادة في العمل إن بمضمونه، أو بشكله، أو بطريقة عرضه، أو بأسلوب إقناعه ونقده ونقضه، وتلك مزايا تجعل التأثير أكبر وأبقى، وهي خصائص يشتاق لها القارئ كي لا يصرف وقته بقراءة مضنية لا ينجيه منها إلّا دواء صداع، أو حموضة، أو غثيان!

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

 ahmalassaf@

الأحد 18 من شهرِ جمادى الآخرة عام 1442

31 من شهر يناير عام 2021م 

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)