سير وأعلام عرض كتاب

قوافل العقيلات وآثار خالدة

حركة التجارة والصناعة، وأعمال الاقتصاد على وجه العموم، تُعدُّ من أسباب التوازن في المجتمعات، هذا غير آثارها التنموية والمعيشية والمنافع المترتبة عليها، وهي في ذلك قرينة لهيبة العلم، وحضور الفكر، وأثر الأدب والثقافة، وضرورة الأمن والإدارة، في إحداث استقرار مجتمعي تضمن له العدل والاعتدال، ورعاية المصالح العليا والعامة، وحفظ الضرورات فما دونها، ومنع أيّ تشوهات أو انفراد بشأن يخصّ الناس كافة، ومن الخير والحكمة أن يشارك فيه سراة الناس ورؤوسهم.

لذا قضيت وقتًا أنيسًا مع موسوعة بعنوان: قوافل العقيلات ودورها السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي بين منطقة نجد والدول العربية، تأليف: د.بدر بن صالح الوهيبي، وتقع في ثلاث مجلدات صدرت طبعتها الأولى عام (1438=2017م) عن دار الصميعي للنشر والتوزيع، وعدد صفحات المجلد الأول (277) صفحة، بينما بلغت صفحات المجلد الثاني (295)، وأما المجلد الثالث فصفحاته عددها (362)، وبالتالي فالمجموع ألف صفحة إلّا قليلًا وبالتحديد (934) صفحة، والطباعة أنيقة جدًا ومكلفة،علمًا أن هذا الكتاب الموسوعي جزء من رسالة الدكتوراة للباحث التي يبلغ عدد صفحاتها (1600) صفحة، وهذا الجزء هو المتاح للنشر طبقًا لاشتراطات الفسح والمراجعة.

ابتدأ المؤلف عمله الضخم بإهداء لوالديه وزوجته الصالحة الجوهرة بنت عبدالله العلي اليحيى، ثمّ أورد افتتاحية بقلم الأمير د.فيصل بن مشعل بن سعود أمير القصيم أهم حواضر العقيلات ومدنهم، وقد أشاد الأمير بهذا العمل التوثيقي، وكتب الباحث بعد ذلك مقدمة فتمهيد، تلاها ثلاثة عشر بابًا، وختمها بفهرس للمراجع والاستشهادات مع تعريف يسير بالمؤلف، ويحوي الكتاب كمًا كبيرًا وبعضه نادر من الوثائق والصور، هذا غير التراجم والقصص والقصائد، ويوجد تقديم وتأخير بين الباب الحادي عشر والذي يليه في الترتيب ويسبقه موضعًا في المجلد الثالث.

أوضح الباحث العقيلي مراكز العقيلات في القصيم، والخميسية، وسوق الشيوخ، وبغداد، ودمشق، وعمّان، والخليل، وغزة، وإمبابة، وتحدث عن تجمعاتهم في عدة بلدان من ديار الجزيرة العربية، والهلال الخصيب، والخليج العربي، والشام، ووادي النيل، وشرح اختلاف أسماء أعضاء القوافل التي تدل على التراتبية والخبرة فمن ملحاق إلى عقيلي فرئيس خبرة، وأخيرًا شيخ الحملة وأميرها وهم الأقل عددًا وهذا هو الطبيعي.

ثمّ بيّن مالهم من تنظيمات إدارية وعسكرية قضائية وتجارية، مع وجود محكمين فيهم، ولجان صلح، وقضاة، وأمراء سلم وحرب، وأبان عن دأبهم في التجارة ودراسة السوق، وذكر أن القوافل تنطلق في الخريف وربما تفعل ذلك في الشتاء أو الربيع هروبًا من حرارة الصيف اللاهبة، وحددّ أشهر المسارات التي تسلكها؛ وشرطها الأهم توافر الماء والأمن، ووضع عددًا من الصور لتلك المواضع، وروى شيئًا من أخبار التحالفات والعلاقات مع القبائل والحواضر التي تكون على طريق القوافل.

كما حدّد الكاتب المواضع التي اشتهرت بأهل هذه القوافل مثل خبّة عقيل في حائل، وصوب عقيل في بغداد، وعرّج على أشهر الأسواق التي عمروها بالتجارة في بلدان عربية كثيرة، ونوّه بآثارهم التي كانت على هامش أعمالهم التجارية مثل توريد السلاح للمدافعين عن حقوقهم، ونقل المسافرين العرب مجانًا، ونقل الرحالة الأجانب بمقابل، وحماية مراكب الأمراء والسلاطين لأداء فريضة الحج بمقابل، وأشاد بالصورة البهية التي تركوها في نفوس المتعاملين معهم عن بلادهم وإنسان صحراء الجزيرة العربية ومدنها.

أيضًا ترجم د.الوهيبي لعدد ضخم من العقيلات على اختلاف أعصارهم، وبلادهم، ومراتبهم، والبلاد التي خرجوا منها أو استقروا فيها، ووقف بإجلال مع صفاتهم الحميدة، وخلالهم النبيلة التي تشرفهم وتنعش أحفادهم إن ساروا عليها، وهي بجملتها أخلاق العربي الأصيل التي جاء الإسلام ورسوله الخاتم صلى الله عليه وسلم ليتممها، وكم في تلك الصفحات من مروءة، وصدق، وكرم، ونجدة، وشجاعة، وحمية، وهبّة، وحسن تدبير، ويكفي أن نقرأ قصتهم مع قصيدة الخلوج لشاعر نجد الكبير العوني، أوأن نسمع حكايات تحرزهم من أن تلحق رفاقهم أيّ تهمة كما فعل الشيخ فوزان السابق وغيره، أووقائع حياة ابن شويرخ العجيبة، أوجرأتهم في السفر حتى لأماكن بعيدة كما صنع ابن خليفة وابن مطلق وغيرهما ممن لم يأتِ خبره في الكتاب.

كذلك نبّه المؤلف إلى صلات العقيلات السياسية مع القوى الإقليمية وحكام البلدان آنذاك، وتعمق في سرد علاقاتهم مع الملك عبدالعزيز، وكيف أن بعضهم صار من سفراء الملك، وممثليه، ووكلائه التجاريين، وبعضهم أصبح من مشاهير رجال الدولة إبان نشأتها نظرًا لجديتهم وإخلاصهم وحصولهم على قدر من العلم والخبرة، ولذا عمل فريق منهم في الديوان الملكي، وفي إمارة المدن، وصاروا مستشارين ومرافقين، وإن العظيم لا يجمع حوله إلّا العظماء.

وفي الكتاب الكبير بيان لمواقف العقيلات في أمور شتى، ومنها الإصلاح الاجتماعي، وبناء المساجد، وطباعة الكتب، ونشر المكارم، ونصرة الضعفاء، والنجاح في تجارة الخيل وسباقاتها، والمشاركة في حفر قناة السويس، وابتداء أعمال غير مسبوقة مثل المصارف وشركات الكهرباء ومصانع السيارات وهذه الثلاث الأخيرة تسجل لأسرة الراشد الحميد العقيلية العريقة التي يستحق تاريخها التدوين.

ومما لا تخطئه عين القارئ كثرة معلومات الكتاب، وغزارة مادته، وأنه يمكن استلال عدّة كتب من مضمونه المتنوع، وأظنّ المؤلف قد فعل شيئًا من هذا في كتابه الآخر عن الخيل والعقيلات وربما أنه توسع فيه، ولعلّ الباحث المجتهد أن يكرر هذا الاستلال الرشيق مع موضوعات أخرى، حتى يستفيد منها من أراد الرجوع لموضوع بعينه، وليت أن جماهير القراء يتفاعلون مع د.بدر بناء على طلبه، ويضيفوا إليه ما يخصّ أجدادهم وأسرهم من روايات ووثائق وصور،فهذه القوافل ذات قرون متوالية، وفيها ما هو أكثر من التجارة وأبعد.

إن حفظ التاريخ لمنقبة يفوز بها من يبادر إليها بعلم وعقل وخلق، وتحتاج هذه المنقبة بعد ذلك إلى تفسير وتعليل؛ كي يخرج القارئ بلباب من الخبر والعبر، وحتى تنتفع الأجيال بالمعرفة والوعي، ويسير الأواخر على الدروب السامية والمناهج الشريفة التي اختطها الكرام الأوائل الراحلون، وللأحياء منّا وممن يقرأ الدعاء بالتوفيق والعون، وللراحلين ابتهال متجدد بالرحمة والرضوان، وللقادمين رجاء وأمل بحسن القدوم والتلقي والأداء.

 ahmalassaf@

الرياض- الأحد 04 من شهرِ جمادى الآخرة عام 1442

17 من شهر يناير عام 2021م 

Please follow and like us:

2 Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)