حدود سلطة الدولة على الحق!
حصلت على نسخة من هذا الكتاب بطريقة لا أنساها، ملخصها أني لم أجده في مكتبة داخلية أو خارجية، وأرسلت صديقاً للناشر في مقره الأصلي، فأخبره بأن الكتاب نافد، وأن نسخه المخزنة احترقت في حرب إسرائيل وحزب الله عام (2006م)، وحينها اتصلت بالناشر؛ فأعطاني رقم مكتبتين في سورية، وقال لعلك تجده عندهما، وتواصلت مع الأولى فأجابت بالنفي، وكانت المفاجأة السارة أنه موجود لدى الثانية، مع كتاب آخر للمؤلف عن خصائص التشريع الإسلامي.
فطلبت من البائع نسخة من الكتابين، وظل الرجل يرددني، ويطلب مني الاتصال مرة غداً، وأخرى الأسبوع القادم، وبعد عدة اتصالات سجل عنواني، ثم أخبرني أنه أرسل لي الكتاب في أواسط رمضان عام 1433-والثورة السورية على أشدها-، وسألته عن الثمن فقال بكل مروءة: إذا وصلك الكتاب فلن نعدم طريقة يصل بها الثمن!
وخشيت أن يتأخر البريد، أو ألا يصل بسبب الأوضاع في سورية-عجل الله لهم الفرج-إلا أنه وصلني قبل العيد بأيام، فهاتفت الرجل شاكراً، وأخبرني عن ثمنهما مع تكلفة البريد، وعن كيفية إيصال المبلغ له، ولازال التواصل بيني وبينه مستمراً، والله يبشره وأهلنا في الشام بعودة الحق إليهم، وأن تحكمهم دولة تخاف الله فيهم، وتراعي الحقوق وفق المقتضيات الشرعية.
عنوان الكتاب المقصود: الحق ومدى سلطان الدولة في تقييده، تأليف: أ.د.فتحي الدريني، صدرت الطبعة الأولى منه عن مؤسسة الرسالة عام (1417=1997م)، ويقع في (352) صفحة، وهو رسالة دكتوراه، تتكون من إهداء وتقديم، ثم تقرير لجنة الفحص العلمي من جامعة دمشق، فمقدمة المؤلف وهي جديرة بأن تفرد في رسالة يُنتفع بها، وبعد ذلك ثمانية فصول تحت الباب الأول، وهو الباب الوحيد في الكتاب.
والمؤلف أستاذ كبير في الفقه وأصوله، وحاصل على دبلومات وشهادات معتبرة في السياسة، والقانون، والقضاء، والتربية، والتدريس، وعلم النفس، واللغة العربية، والشريعة، وله مؤلفات عالية في السياسة الشرعية؛ أحدها بعنوان نظرية التعسف في استعمال الحق، وهو تبع لكتابنا هذا. وقد توفي رحمه الله في رجب عام 1434 عن تسعين عاماً، بعد أن ألَّف كتباً مهمة، ودرَّس في سورية ومصر، والأردن، والجزائر والسودان، وأنشأ أقسام الفقه وأصوله في بعض جامعاتها، وكان قد خرج من بلده فلسطين إلى سورية، ثم استقر به المقام عام (1988م) في الأردن، بناء على طلب من تلاميذه الذين صاروا علماء الأردن، ويلقب بشاطبي العصر.
أهدى العلامة الدريني كتابه الفذ إلى والديه، وجده، وأستاذه الديناري، وزوجه أم المهند، وكتب أستاذه الشيخ طه الديناري-عميد كلية القانون والشريعة بجامعة الأزهر-تقديماً للكتاب، أثنى فيه على جهد المؤلف، ونتائجه المبتكرة، حيث بحث فكرة الحق، وطبيعته في الفقه الإسلامي.
وبين أن الحق معضلة قانونية وسياسية، وعليه مدار الصراع الدائر في العالم، وهو بحث غير مسبوق بهذه الأصالة والعمق، وكانت دراسته الجادة هذه تمهيداً لبحث فخم منبثق عنه، عنوانه نظرية التعسف في استعمال الحق، وهي نظرية وارفة الظل، تبسط رواقها على جميع أنواع الحقوق. وكشفت هذه الدراسة عن شخصية المؤلف العلمية المستقلة، وعن تبحره في علوم الشريعة، والقانون، والسياسة، فضلاً عن تحصيله اللغوي والتربوي الكبير، كما يقول الشيخ الديناري وأصاب.
وفي تقرير علمي مهيب، كتبته لجنة علمية من جامعة دمشق، للتأكد من علمية هذا البحث ولاحقه عن نظرية التعسف، وبيان مدى أهلية المؤلف للتدريس في كلية الشريعة، وضمت أربعة من أكابر علماء الشام، وأساتيذ الشريعة فيها، هم المشايخ مصطفى الزرقاء، وماجد الحلواني، ويوسف العش، ومحمد المبارك-رحمهم الله-، حيث أثنت اللجنة على جهد الباحث ومستواه العلمي، وحررت تقريرها عام (1385=1965م)، وكم هو مبهج أن تفحص الجامعات علمية أساتذتها، بيد أن المحزن تضاؤل هذا الأمر في مقابل تضخم الفحص الأمني!
ذكر الشيخ أ.د.فتحي في المقدمة الحافلة أن نظريات الشريعة الإسلامية ليست أثراً للإرادة الإنسانية، ولذا فغاية الشريعة لم تتمخض عن صراع بين مصلحة الفرد والمجتمع، فهي سماوية الأصول، متصلة بالفطرة، أُنزلت لتخرج الناس عن دواعي الهوى، وشطط النزعات، وما عرف العالمون كالهوى عابثاً في التشريع!
ولذا كان للحق في شريعة الرحمن صبغة اجتماعية، لم تجعل الفرد محور هذا التشريع، ولم تهدر حقه، بل أقرت الحقوق الفردية، كما أقرت حقوق الجماعة، ومن هنا كانت غاية الشريعة في أصولها وأحكامها التفصيلية مزدوجة، وهي رعاية المصلحتين معاً؛ مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة، ووضعت من القواعد ما ينسق التعارض بينهما، حسب العدل وتغليب الخير، ولم تهدر مصلحة لأجل أخرى.
وبهذا صار للحق وظيفة اجتماعية، بحثها هذا الكتاب الماتع النفيس، وأخرج إلى الوجود قسمه الآخر بعنوان نظرية التعسف في استعمال الحق، بمعايير دقيقة، وأصول راسخة، مستنبطة من الكتاب العزيز، والسنة المطهرة، وفقه الصحابة، واجتهادات الأئمة من مختلف المذاهب، ثم يُقارن ذلك بنتاج القوانين الوضعية، التي لم تلتفت لهذا الجانب إلا في مطلع القرن العشرين، بينما هي في الشريعة الإسلامية بينة الأصول، تامة الأركان، غزيرة التطبيق، وارفة الظل.
وسلك المؤلف في بحثه المنهج التحليلي والاستنتاجي، وذلك بعرض النصوص والآراء وتحليلها ومقارنتها، ثم استخلاص المبادئ العامة. واستعرض الباحث طبيعة الفقه الإسلامي ومميزاته، وقرر أنه ليس للمجتهدين سلطة ابتداع المصالح، وليس لهم حق تنكب المصالح الحقيقية، وأن الفقه الإسلامي يجمع بين الواقعية والمثالية، ويمزج في قواعده بين الأخلاق والتشريع العملي، ويعترف بمصلحة الفرد والجماعة، جاعلاً على الفرد، وعلى الجماعة، مسؤولية مشتركة في مراقبة التصرفات؛ لضبط حدود الحرية.
ولأن غاية هذا الفقه مزدوجة؛ فقد شرع من الوسائل ما يحقق هذه الغاية المزدوجة، وقسم الأصوليون الحق إلى قسمين هما حق العبد، وحق الله، فالأول تتعلق به المصالح الخاصة، ويتعلق بالثاني النفع العام، ولذا أضيف إلى الله سبحانه وتعالى لعظيم خطره وشمول نفعه، والازدواج في صفة الحق حالت دون جعله فردياً مطلقاً، أو وظيفة اجتماعية خالصة، ومزجت بين هاتين الصفتين.
وحماية للمصلحة العامة شُرع تدخل الدولة، بالقدر الذي يحجز بين الأفراد وأي تصرف أو استعمال للحق يؤدي إلى ضرر عام، حيث تضطلع نظرية التعسف بإقامة التوازن بين المصلحة الفردية والمصلحة العامة، وهذا باب من السياسة الشرعية، ورعاية الصالح العام، ويتفرع عن أصل سد الذرائع والاستحسان، ويوثق المبدأ العام للتشريع الإسلامي في جلب المصالح ودرء المفاسد.
ومن طبيعة الحق في الفقه الإسلامي أنه منحة إلهية وليس صفة طبيعية للإنسان؛ فالشريعة هي أساس الحق، ثم إنه مجرد وسيلة لتحقيق غاية، وليس غاية بحد ذاته، ولذا فالأصل في الحق التقييد لا الإطلاق. وتأسيساً على ذلك، يمكن أن يكون الفعل مشروعاً بذاته، ومستنداً إلى حق، ولكنه غير مشروع بالنظر إلى استعماله في غير غايته، أو لمناقضة مآل الاستعمال لروح الشريعة، أو قواعدها العامة، وهذا هو لباب فكرة التعسف، فكل حق فردي مشوب بحق الله، وهو المحافظة على حق الغير، ولا يكون ذلك بالامتناع عن الاعتداء فقط، بل حتى عن التعسف في استعمال الحق، فالشريعة لا تعرف الحقوق المطلقة، ولا تقر استعمال الحق على وجه تعسفي، أو غير اجتماعي.
وثمت أسس يقوم عليها تقييد الحق، هي ذات الأسس التي تقوم عليها نظرية التعسف، وهي:
- الأحكام الشرعية مبنية على المصالح، وهذه الأحكام مناشئ الحقوق.
- التكافل الاجتماعي، الذي لا يجوز الإخلال به.
- خلافة الإنسان في الأرض، وهو أصل الالتزامات؛ لأنه مقيد بما شرع المستخلِف.
- الوظيفة الاجتماعية للمال المتمثلة بالإنفاق والاستثمار في الوجوه المشروعة.
- التوسط والاعتدال.
ويقوم التعسف في استعمال الحق على فعل مشروع لذاته، لأنه يستند إلى حق أو إباحة، لكن هذا الحق اسُتخدم على وجه يخالف الحكمة التي شُرع من أجلها، وتظهر هذه المخالفة بأحد وجهين؛ إما من حيث الباعث الدافع، أو من جهة النتيجة والثمرة، ولو زال الباعث غير المشروع، أو انتهى الاستعمال إلى مآل غير ممنوع، فيعود استعماله لحقه إذ ذاك مشروعاً كما كان في الأصل.
ويفرق المؤلف في أمر يختلط على البعض، ويميز بين التعسف والمجاوزة، فالتعسف يفترض أساساً وجود الحق، والمتعسف يتصرف داخل حدود الحق الموضوعية ولا يتعداها، فالفعل مشروع لذاته؛ لكنه معيب في باعثه أو مآله، في حين أن الفعل في المجاوزة غير مشروع لذاته، بقطع النظر عن باعثه أو نتيجته.
ثم بحث المؤلف مفهوم العدل في الشريعة الإسلامية، مقارناً بمفهومه في النظريات القانونية المعاصرة، وذكر بأن مفهوم العدل في التشريع يتفرع عنه حقوق الإنسان، ولهذا التشريع قيمة محورية جعلت منه مبدأ المشروعية العليا التي لا يجوز مخالفته بحال، وبالتالي فليس للحق صفة فردية مستقلة، ولا سمة اجتماعية منفصلة، بل يرعى المصلحتين معاً.
ونبه الباحث إلى اتساع مفهوم العدل في الإسلام، بحيث تنفسح أبعاده لكل مصلحة مستجدة، ولو لم يرد فيها نص خاص بعينها، مادامت لا تصادم قواعد الشريعة، ولا نصوصها القاطعة، ولا روحها، وفي هذا مجال واسع للتشريع الاجتهادي لا يُدرك له مدى. وخلص إلى أن العدل في القرآن الكريم مندمج مع أحكام الشريعة ومقاصدها، ولا عبرة في الإسلام لما يطلق عليه “القانون الطبيعي”.
ثم انتقل المؤلف إلى الباب الأول-وليس في الكتاب باب آخر-وعنوانه: بحث مقارن في طبيعة الفقه الإسلامي ونظرية القانون، وبحث في فصوله الثلاثة الأولى طبيعة الحق في المذهب الفردي، وفي مذهب التضامن الاجتماعي، وفي الفقه الإسلامي، حيث يرى المذهب الفردي بأن الإنسان هو منشأ الحق، ولذا وضعوا القانون على أساس الحق الفردي المطلق، بينما تقول المذاهب الاجتماعية إن الحق منحة من الجماعة للجماعة، وتتولى الدولة تنظيمها، ولذا غيبوا الحق الفردي وأهدروه.
أما الفقه الإسلامي فيقسم الحق من وجهة نظر دينية شرعية إلى قسمين هما: حق الفرد، وحق الله وهو حق المجتمع مما يتعلق بالصالح العام، ولا يسقط بالإسقاط، وليس لأحد فيه خيرة، ومنشأ الحق في الفقه الإسلامي هو الحكم الشرعي، فلا يعد حقاً إلا إذا قرره الشارع، وبالتالي فالشريعة هي أساس الحق، ويترتب على هذا الأصل نتائج منطقية هي:
- منح الله سبحانه الحق لحكمة ومصلحة قصد الشارع تحقيقها.
- الأصل في الحق التقييد، لأنه منحة إلهية مرتبطة بأحكام الشارع.
- تصرف الفرد في حقه مقيد بما يحقق المصلحة المقصودة من شرعية الحق.
- فكرة الحق ثابتة وأساسية في الفقه الإسلامي، وعلى أساسها كان المنح.
- الحق ليس غاية في ذاته، بل وسيلة إلى مصلحة مشروعة.
- للفرد والجماعة اختصاص بحق.
- الفرد مستقل وله شخصيته الذاتية في الجماعة وليس مجرد عنصر تكويني.
- الدولة كالفرد، كلاهما يتلقى الحق من الله تعالى، فالفرد عبد لله لا للدولة، وللفرد حقه، وللدولة عليه حق الطاعة بالمعروف. وبما أن الدولة لا تمنح الحق فليس لها سلبه، وإنما تنحصر وظيفتها في حماية حق الفرد في حدود المصلحة العامة، دون ضرر أو ضرار.
والفرد في نظر الشريعة كائن حي حر مستقل مسؤول، لكن استقلاله ليس تاماً؛ بل مرتبط بالجماعة ارتباط تعاون على البر والصالح العام، فهو ملزم إيجابياً بالتعاون على الخير المشترك، وملزم سلبياً بتجنب الإثم والفساد والإضرار، وهذه القاعدة بوجهيها الإيجابي والسلبي يقوم عليها التشريع الإسلامي فيما يتعلق بالأحكام الدنيوية والمعاملات، ولا يجوز تدخل الدولة إلا في حدود رسمها الشارع الحكيم ترجع إلى مقتضيات الضرورة، وكفالة الصالح العام، وتطهير المجتمع، فطبيعة الحق الفردي في الفقه الإسلامي أنه حق مشترك وليس فردياً خالصاً.
تحدث الدريني في الفصل الرابع عن مسألة مهمة ملخصها أن الفقه الإسلامي تقويمي لا تقريري، يمزج بين قواعد الأخلاق وقواعد التشريع، وهذه خصيصة انفرد بها الفقه عن سائر القوانين، حيث جعل للمثل العليا، والكمالات الخلقية، المقام الأول في تشريعها، ومزج بين قواعد الأخلاق والتشريع في أحكامه، فجمع بين العدل والإحسان، والاقتضاء والتسامح، والمقاصة والعفو، والتعاون على البر ومجانبة الإثم والعدوان.
وضرب لهذا المزج أمثلة لا وجود لها في القانون، وهي لصيقة بالمروءة، وسبب لتمتين الروابط بين الأفراد، ومنها النهي عن خطبة الرجل على خطبة أخيه، وتحريم نكاح التحليل، وتحريم الربا، وإيجاب حسن معاملة النساء والإحسان إليهن، وحقوق الجوار التي راعت الخلق والمروءة، ولم تصيرها حقاً قضائياً فقط، وواضح من الأمثلة أن القيم الخلقية تمثل حجر زاوية في الفقه الإسلامي، فأحكامه غائية لمصالح عامة، وليس القصد منها إخضاع المكلفين فقط، وليست عسيرة لأنها واقعية ولا تفوق الطاقة.
ثم كرر العلامة الدريني في مستهل الفصل الخامس حديثه عن الدعامة الخلقية في الفقه الإسلامي وأثرها في تقييد الحق، وأكد أن حق الغير محافظ عليه شرعاً، وأن المتمعن في القواعد الشرعية يجدها كلها قواعد خلقية في الأصل، ثم أصبحت قواعد شرعية لحماية قيم إنسانية في المجتمع، وهذا المزج ميزة للشريعة باعتبارها لم تأت للتنظيم وإقرار الجزاء والعقاب فقط؛ بل جاءت للإصلاح والتكوين النفسي.
وانتقل من هذا التأكيد إلى مبحث عن مبدأ العدل المطلق في الفقه الإسلامي وصلته بنظرية التعسف، وتلاه عدة مباحث عن ذات الأمر، وفيها علو كعب علمي، مع اعتزاز بالدين والشريعة، وذكر أنه من المقرر في الشريعة بأن تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة، وهي العدل، وكل تصرف يصدر عن ولي الأمر أو أعوانه يجب أن يكون باعثه تحقيق المصلحة الشرعية، ومن هنا تدخل السياسة الشرعية التي أساسها المصلحة والعدل.
وعلى ولي الأمر التدخل لتحقيق العدل والمصلحة، رعاية للمصالح العامة، التي هي قطب الرحى لأحكام السياسة الشرعية، ويجب درء التعسف إبان استعمال السلطة، بالاعتماد على أمرين هما طهارة الباعث، وشرف النية، والنظر إلى مآل التصرفات، فكل ما غلبت فيه المفسدة كان غير مشروع، وعلى ولي الأمر درء هذه المفاسد، بمنع أسبابها، ولو كانت في الأصل مشروعة.
وتعمق الشيخ الأصولي في بحث مؤيدات مبدأ العدل والمصلحة من مصادر التشريع فيما لا نص فيه، وذكر أن الأصوليين أتوا بنظريات أو معايير مستندة إلى روح الشريعة وقواعدها العامة، ومقاصدها الكلية، واعتمدوها أصولاً لاستنباط الأحكام، لأنهم أدركوا بملكتهم الفقهية، وثاقب نظرهم أنها تحقق المصلحة والعدل، وضرب أمثلة لهذه المؤيدات بالاستحسان وسد الذرائع الذي استخدمه المالكية كثيراً.
فالاستحسان يدرأ التعسف في الاجتهاد، عن طريق الاستثناء، وهو ضرب من النظر في المآل، جرياً على سنن الشارع في اعتبار المسببات عند تشريع الأسباب، وهو شبيه بما يسمى في الاستخدام المعاصر: الاتجاه إلى روح القانون.
والفرق بين الاستحسان وسد الذرائع: أن الأول استثناء من الأصل الذي يقضي بالمنع من أجل رفع الحرج، وأما سد الذرائع فهو المنع من الجائز لئلا يفضي إلى مآل ممنوع، فكلاهما استثناء من الأصل العام، توثيقاً للمصلحة، أو درءاً لمفسدة راجحة.
ومن تتبع مقاصد الشرع في جلب المصالح، ودرء المفاسد، حصل له من مجموع ذلك اعتقاد بأن هذه المصلحة لا يجوز إهمالها، وتلك المفسدة لا يجوز قربانها، ولو لم يكن فيها نص أو إجماع أو قياس؛ كما يقول الإمام العز بن عبد السلام.
وبعد ذلك كتب أ.د.الدريني مبحثاً عن العدالة في تشريع المعاملات المدنية، وذكر أن الفقه الإسلامي احترم القوة الملزمة للعقد إعمالاً لمبدأ الرضائية والتراضي بين أطرافه، لكنه رهن ذلك ببقاء الأحوال التي تم فيها العقد، فإذا تغيرت بما يضر بأحد طرفيه فإن العقد يُفسخ أو يُعدل، حتى لا يختل ميزان التعادل بين طرفي العقد.
وفي الفقه الإسلامي قيود على مبدأ الرضائية عند التعاقد، ومن أبرزها نظرية العذر في عقد الإيجار عند الحنفية، والجوائح والثمار عند الحنابلة والمالكية، والعذر والجائحة تعتبران فرعين عن نظرية التعسف، مراعاة للتعادل في الالتزامات المتبادلة بين أطراف العقد عند تنفيذه، منعاً للتعسف، وتحقيقاً للعدالة. وختم مبحثه الذي أنهى به هذا الفصل النفيس بقوله: إن ارتباط السياسة الشرعية بالخلق والمصلحة والعدل ارتباط وثيق، إصلاحاً للفرد والمجتمع، وارتقاءً بهما في معراج الحضارة الإنسانية.
عنوان الفصل السادس هو الواقعية في الفقه الإسلامي، حيث أن مثالية الفقه ليست مغرقة في الخيال، بل واقعية في نظرته إلى الفرد ومصالحه والمطلوب منه، وفي نظرته إلى المجتمع، واعتباره ذا مصلحة جوهرية مستقلة، وليست حصيلة مصالح أفراده، بدليل تعارض المصلحة العامة مع المصلحة الفردية أحياناً، مما جعل في الفقه قواعد للتنسيق بين هذا التعارض، وتقديم المصلحة العامة، وفي سمو نظرة الفقه الإسلامي تفوق على المذهب الفردي المغرق في الأنانية، وعلو على المذهب الاجتماعي المجحف بمصالح الأفراد.
ثم بحث المؤلف الملكية العامة على أنها أقوى مظهر لمصلحة المجتمع، حيث أقر الفقه الملكية العامة من خلال حماية الرسول صلى الله عليه وسلم لأرض النقيع لخيل الجهاد، وشرع بذلك الحمى للأئمة من بعده لتحقيق مصالح المسلمين. كما تظهر الملكية العامة في الوقف، وتقييد حق التملك للمصلحة العامة، ولا تعرف الشريعة تصرفاً مطلقاً في الحق الذي لا يراعي الصالح العام؛ لأن حاجة المسلمين مصلحة عامة، وقد تنزل الحاجة منزل الضرورة إذ عمت بلواها، وتعسر الانفكاك عنها، وأوقعت الناس في حرج عظيم وضيق شديد.
وتطرق الباحث إلى الواقعية في نظر الإسلام إلى المال، حيث جعله مستخلفاً فيه؛ للتثمير والإنفاق، فهو بمنزلة الوكيل عن مال الله الذي في يده. وينظر الفقه إلى الإنفاق في حدود المشروع، والتثمير على أنهما وظائف اجتماعية للمال، ولم يقصر وجوب الإنفاق على أداء الزكاة، بل فرضه بما يسد حاجة المجتمع، ولو زاد عن قدر الزكاة.
ومما يؤكد على وظيفة المال الاجتماعية أمران: الأول: أن تضييعه في غير مصلحة محرم، والثاني: أن النيابة في التصرف بالمال لا تصح إلا إذا كان النائب ذا أهلية كاملة. فالأمة مسؤولة عن تصرف أفرادها بالمال، ومنع السفهاء من إفساده، والسفه يشمل معنيين هما: إنفاق المال فيما لا ينبغي، والعجز عن تثميره وإصلاحه وحسن التصرف فيه.
الحق والإباحة في الفقه الإسلامي هو عنوان الفصل السابع، فالحقوق أنواع هي: الحق الذاتي، والحق الغيري أو الوظيفي، والحق التقديري. والمصلحة في الحقوق ليست ذاتية دوماً، بل قد تكون المصلحة للغير، كحقوق الأسرة مثلا؛ إذ المصلحة فيها لعموم الأسرة وللمجتمع، وهذه الوظيفة الاجتماعية للحق واجبة الأداء، ويجب على أصحابها مباشرتها واستعمالها، فهي مزيج من الحق والواجب.
والحق الذي يعود بالنفع على المصلحة العامة ليس ميزة لصاحبه، بل هو وسيلة لتحقيق غاية ووظيفة اجتماعية، مثل حق التأديب للأب والزوج، وحق الكفاءة في الزواج وهو من حقوق الأسرة، وإذا تعسف الولي بالعضل جاز للقاضي تزويج المرأة من الكفؤ صوناً لمصلحة البنت والأسرة والمجتمع، ومثل حقوق الأسرة الحدود التي يسميها الأصوليون حقوق الله، ولا يجوز إسقاطها أو التهاون في إقامتها، وإنما يجوز تأخيرها للمصلحة العامة.
وإذا كان الحق المشروع لا يفضي إلى تحقيق المقصود، صار استعماله تعسفاً وإن كان الفعل مشروعاً في حد ذاته، ومستخدماً في نطاق الحدود الشرعية، وضرب لذلك مثالاً بمنع ضرب الولد إذا كان الضرب لا يجدي معه.
وكل تصرف تقاعد عن تحصيل مقصوده فهو باطل، ولذا فالحقوق كافة؛ بما فيها الحقوق الفردية، والحقوق الغيرية، والحقوق التقديرية، والمنزلة الوسطى بين الحق والرخصة، والحريات العامة، والمباحات، كلها خاضعة لأحكام نظرية التعسف، لأن الحقوق وسائل لتحقيق مصالح، فهي مقيدة بما يحقق هذه المصالح.
وأما الفصل الثامن والأخير فعن الأسس التي يستند إليها تقييد الحق في الفقه الإسلامي، وهي كالتالي:
الأساس الأول: المصالح معتبرة في الأحكام، والحقوق مقررة كوسائل لتحقيق تلك المصالح، ويتفرع عن هذا أهمية الباعث على استعمال الحق، وأن يكون موافقاً لقصد الله في التشريع، مع ضرورة النظر في مآلات الأفعال.
الأساس الثاني: أصول التكافل الاجتماعي في الإسلام، حيث عبرت الشريعة عن التضامن المادي الذي تقتضيه ضرورات العيش ليس كفلسفة فقط، بل جاءت به عملاً تشريعياً منبثاً في جميع فروع الفقه، ولا يقتصر هذا التضامن على الضرورات المادية، بل يشمل حفظ الدين، والنفس، والمال، والنسل، والعقل، وعليه فالتكافل الاجتماعي في الإسلام وليد أصول عامة هي الرحمة، والأخوة، والولاية والتناصر، والمحبة، والتعاون على البر والتقوى ومجانبة الإثم والعدوان.
الأساس الثالث: التضامن الاجتماعي وأثره في تقييد الحق الفردي بالنسبة للمصلحة الخاصة، فإن لم يتحقق التضامن الاجتماعي تلقائياً وبوازع الدين، فيلزم ولي الأمر تنفيذ ذلك بقوة السلطان، وإجبار الأفراد عليه، وضرب المؤلف أمثلة لهذا الأساس كمنع تلقي الركبان، ونزع الملكية للصالح العام، وإجبار العمال على العمل بأجرة المثل إذا امتنعوا وتضرر الناس، وتضمين الصناع، والحجر على السفيه، وبيع طعام المحتكر، ولولي الأمر العادل التدخل في الحقوق والإباحات وشؤون الأفراد، وله سلطات تقديرية واسعة للنظر فيما يحقق المصلحة العامة.
الأساس الرابع: أثر التضامن الاجتماعي المادي في تقييد الحق الفردي بالنسبة للمصلحة الخاصة، حيث يبرز هذا القيد في حق الملكية، فيجب على المالك السماح لغيره بالارتفاق بملكه إذا لم يعد على الأول ضرر، وأن يمتنع عن أي تصرف في ملكه يضر بغيره، ومنه المعاملة بنقيض القصد كما لو تبرعت الزوجة بكامل مالها لتحرم الزوج منه؛ فلا يمضي من تبرعها إلا مقدار الثلث فقط، ومنه إنظار المعسر فلا يجوز حبسه ولا مطالبته؛ لأن استعمال الحق الذي عُلم بأنه لا يحقق مقصوده محض تعسف.
الأساس الخامس: الخلافة الإنسانية في الأرض، فالمطلوب من الفرد أن يكون قائماً مقام من استخلفه، ويجري أحكامه ومقاصدها على الوجه الذي أراده وشرعه.
الأساس السادس: الاعتدال والاقتصاد في التصرف أو الوسطية، حيث أمر الشارع بالتوسط حتى في الانفاق على أوجه الخير، ومنع الإسراف فيها وفي المباحات، فضلاً عن غيرها، وهي تؤيد فكرة تقييد الحق؛ لأن إهمالها يؤدي إلى الاكتساب أو الاستعمال المذموم.
وهذه الأسس التي يقوم عليها تقييد الحق، هي ذاتها عماد نظرية التعسف في استعمال الحق، التي مؤداها أن الأصل في الحق التقييد لا الإطلاق. وقد أبدع المؤلف رحمه الله وأجاد في جمع جزئيات ومسائل توصل بها إلى كلية ونظرية فريدة سباقة، ثم أتم جهده بكتاب آخر خاص عن نظرية التعسف في استعمال الحق-ولعله أن يُعرض لاحقاً-.
وكم هو جدير بالفقهاء والأصوليين أن يكون لهم مثل هذه النظرات التي تجمع المتفرق، وتنظمه في عقد واحد واضح، تجعل الناظر إليه يسبح بحمد ربه كثيراً، والناظر فيه يزداد إيماناً بربانية هذه الشريعة، وسموها، وتفوقها، ومن أحسن من الله حكماً؟
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرِّياض
الأحد 11 من شهرِ رمضان عام 1436
28 يونيو 2015 م
One Comment