لذة معايشة النَمِرة
هذا الكتاب البديع عنوانه: معايشة النمرة وأوراق أخرى، تأليف: جبرا إبراهيم جبرا، صدرت طبعته الأولى عام (1992م) عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في (296) صفحة من القطع المتوسط، مكونة من (23) عنوانًا تطول وتقصر، بعضها مقالات، أو نصوص ندوات، أو حوارات، وفي آخرها تعريف بإنتاج المؤلف، وهو إنتاج كبير متنوع ما بين ترجمة، وكتابة إبداعية أو نقدية عن فنون شتى، ولا ريب فهو أديب كبير من نصارى فلسطين (1920-1994م)، عاش وعمل في العراق، واشتهر بترجماته المتقنة، ودراساته المتينة.
يعود العنوان إلى اختيار الشاعر والروائي اليوناني “نيكوس كازانتزاكيس” في كتابه “ترحال” حين سمى الكتابة “النمرة ورفيقتي أينما ذهبت”، وصوّر صراعه معها غالبًا ومغلوبًا حتى اعتاد عليها وصارت علاقتهما أشبه بالعشق فقال: يا له من فرح عظيم يا إلهي أن أحيا وأرى هذه النمرة الرائعة وألاعبها وأجد أني ما عدت خائفًا منها! ويكمل: ما أعظم الفرح عندما ينهض المرء ذات صباح ويهتف: كلمات! كلمات! أنا أتحكم بثمانية وعشرين جنديًا… سأحشدهم وسأقيم منهم جيشًا.
أما في أول الكتاب فيبدى أبو سدير عجبه ممن لا يحب القراءة، فإدمان متعتها تشفي الغليل وتثيره معًا، ويعلن حزنه على من لا يقرأ ويرجع هذه العلة الثقافية إلى فشل المدارس في زرع شهوة القراءة النبيلة في نفوس طلابها، حتى باتوا يعيشون في عوز ذهني أفقر حياتهم وجردها من لذة أساسية من لذات البقاء، وصاروا كمن حُرم من الحب وعميت عيناه عن رؤية الجمال، ولا تكاد شؤون القراءة أن تغيب عن جلّ موضوعات الكتاب.
فلا غرابة أن يؤكد المؤلف بأن تواصله مع الحياة بكلّ طاقاتها يكون عن طريق الكتاب، وعندما يغيب عن القراءة يبقى في شوق لجوج يغالبه منتظرًا ساعة اللقاء، وليس أكبر من متعة القراء إلّا متعة الكتابة؛ فهي المتعة الأعظم والأعمق والأندر، لأنها متعة ليست كأيّ متعة، فهي وجد صوفي، وعذاب عذب، وهي مثل حورية رائعة تذهب بالنفس في طرقات الجنة ودركات الجحيم.
لذا فالمبتلى بعشق الكتابة كمن أصيب بجوع جحيمي، أو برغبة لاهثة وراء سراب، وإذا أمسك بها فلا شيء عنده مثلها لأن فيها الفرصة للصنع والخيال، والمجال للحسّ والعقل، وأثر الوحي والنشوة، ولا يخرج المرء من هذه الوليمة المليئة بالعجائب إلّا مضطرًا؛ فيرجع إلى عالم باهت حتى تعاوده حمى الكتابة من جديد، وتستبد به بعذابها وعذوبتها.
وقال: بعد كلّ كتابة أنجزها يتجدد شعوري بالهم الذي أحمله لكتابات أخرى تنتظرني بل تلّح عليّ، ومع ذلك فلم أصل لحال الرضا بعدُ عن أعمالي؛ فكلّ عمل يبدو كأنه منطلق لعمل لاحق، وأنه إنما أزاح نفسه ليفسح الطريق لمن بعده، فالكتابة ضرورة فكرية وضرورة نفسية معًا، وهذا المعنى عميق يشاطره فيه أهل هذا البلاء جميعهم.
ثمّ يصف الكلمة بأنها شرسة ناعمة، تتوالد وتنشطر وتتلظى إلى مالا نهاية، ولها سطوة قوية، ويحثّ الكاتب على أن يتمسك برؤيته هو ولا يماليء المجتمع، حتى لو كسر ضروبًا شتى من القيود، ويشبّه لحظات الإبداع بالحمى التي تستبد فجأة بالكيان، أو بنوبة الصرع التي تأتي دونما سابق إنذار، وبعد الفراغ من العمل الكتابي يصبح الشعور لحظة انتهاء الكتابة هو شعور العائد إلى وعيه بالضبط.
أيضًا أشار إلى إحساس يراود الكتّاب فحواه أنهم كمن يصرخ وحيدًا في غرفته دونما تأثير لما كتبوه وجهدوا في صناعته وصياغته، ويجزم بأن المكافأة الوحيدة للكاتب هي وجود جمهور يقرأ، ومن خلال تجربته عبر المحاضرات أو مع رسائل البريد، وجد من نقاش القراء شفاهة أو كتابة ما عزّز لديه أن هذه النتيجة المحببة هي التجربة الأغنى، وأقرّ أن القراء ربما أرشدوه لأمور في أعماله لم تخطر بباله لدرجة تصيبه بالاندهاش.
كما تجلّى في حوار مع مجلة مغربية، وقال إن الكتابة الجيدة نضال لا يقلّ درجة عن أيّ نوع آخر من النضال، واعترف بعسر الكلمات الأولى التي لا تأتي، وأن مشكلته هي الأسطر الأولى! وأما الأفكار فترد عليه أثناء المشي، وربما داهمته الشحنة الفكرية والكتابية خلال قراءة أو حديث أو استعداد للنوم، وأسدى للكتّاب خلاصة عمليّة جديرة بأن يلتفتوا إليها وهي أنه يحيل أيّ شأن كتابي صعب على الطبّاخ الأمهر لديه وهو اللاوعي؛ فعند اللاوعي مصانع وعمّال وشغل دائب لا يكلّ ولا يتوقف.
كذلك عرّج على الثقافة ورأى أنها هي التي تحدد هوية الأمة على حقيقتها، وتبرز وجهها بين شعوب الأرض، وسوف يستعيد العربي وعيه حين يستعيد قدرته على القراءة، فاليقظة الفكرية الناجمة عن القراءة والوعي تؤكد تمسكنا بشخصيتنا، وأبان من خبرته المشهود لها بترجمة أعمال شكسبير وغيره أن تحدي الترجمة يكمن في أن يكتب المترجم النصّ بلغة تماثل قوته بلغته الأصلية، وفي الكتاب فوائد عملية للمترجمين.
من لطائف الكتاب أن زوجة المستشرق المشهور رتشارد بيرتون (1821-1890م) مترجم كتاب ألف ليلة وليلة وكتب أخرى من العربية إلى الإنكليزية حرقت بعد وفاته أوراقه ومذكراته ومخطوطة ترجمته لكتاب “الروض العاطر” التي عكف عليها أربعة عشر عامًا؛ وسبب تصرفها الأرعن هو شدة ضيقها باهتمامات زوجها الراحل الغريبة، وشدة غيرتها بوجه خاص من اهتماماته الجنسية، ومن اللطائف أن ماكس برود لم ينل الشهرة من كتاباته بل من كونه الرجل الذي حفظ الإرث الكتابي لصديقه كافكا.
هذه قراءة عاجلة قد لا تغني الكاتب والمترجم والناقد والرسام عن النظر في هذا الكتاب الذي هو أشبه بسيرة ثقافية مختصرة لرجل وجد راحته في الكتابة والقراءة والترجمة، وعاش وهو يطلب المعرفة بعقل منفتح، وكان خياره الأهم أن يكتب ويقرأ شريطة أن يستمتع بما يقرأ وإلّا ترك الكتاب إلى غيره، ولأجل هذا المنهج أجاد الكاتب في أعماله السردية والنقدية، حتى أن أجمل إطراء في حياته سمعه من فتاة قالت له: ليس الذهب ما تملكه يدك، بل ما تملكه في رأسك وأشارت بأصبعها إلى صدغها.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الإثنين غرة شهرِ ربيع الآخر عام 1442
16 من شهر نوفمبر عام 2020م
2 Comments
ركز الكاتب على الثقافة التي تعتمد بطبيعة الحال على القراءة المتنوعة التي تحدد هوية الامة على حقيقتها . وتبرز وجهها بين شعوب الارض . صحيح ان ليس الذهب ما تملكه يدك .بل ماتملكه فى راسك .رجلا او كان امراة . وفقك الله لما يحبه ويرضاه
يا روعة هذه المقالة.. تصف شيء يشبه شيء، وتذكرني بقمر هذا المساء لتفردها بين المقالات.. صدفة وقعت عليها.. وصف يسلب العقل لتلك النمرة رفيقته أينما ذهب”، ما ألذ تصويره حينما صوّر صراعه معها غالبًا ومغلوبًا حتى اعتاد عليها وصارت علاقتهما أشبه بالعشق فقال: يا له من فرح عظيم يا إلهي أن أحيا وأرى هذه النمرة الرائعة وألاعبها وأجد أني ما عدت خائفًا منها!
ثمّ يصفها!
بأنها “شرسة ناعمة”، تتوالد وتنشطر وتتلظى إلى مالا نهاية، ولها سطوة قوية عليه، وأن مشكلته معها حينما تداهمه الشحنة الفكرية والعاطفية والكتابية خلال استعداده للنوم، حتى أن أجمل إطراء في حياته سمعه من فتاة قالت له: ليس الذهب ما تملكه يدك، بل ما تملكه في رأسك وأشارت بأصبعها إلى صدغها!!.