عرض كتاب قراءة وكتابة

في تجربة الكتابة

في تجربة الكتابة

انتهيت من قراءة كتاب مختصر عنوانه: في تجربة الكتابة، تأليف س.ر.مارتين، ترجمة تحرير السماوي، أصدرته دار المدى في طبعة خاصة لها عام (2001م)، ويقع في (168) صفحة من القطع المتوسط، ويقف مع تجارب عشرة كتّاب عالميين، ويبدو أنه ضمن سلسلة عنوانها “الكتاب للجميع” ورقمه فيها (13)، وهذا مسار تُشكر عليه الدار العراقية حتى تعم الثقافة وينتشر الفكر بأيسر السبل وأقلها كلفة كما قال فخري كريم في كلمته المختصرة على الغلاف الخلفي.

جاء في التقديم أن هذا الكتاب رصد لتجربة الكتابة بمجالها الناجح والمؤثر، واستقصاء لحالات الكتابة وشيوع الإبداع، وفيه إبحار مع مؤلفات وروايات عبرت طرقًا متعددة وصولًا إلى القارئ محدثة تفاعلًا دون أن يعرف القراء سلوك كتّابها خلال إنتاجهم ذلكم العمل الذي لفت انتباههم وبهرهم، وهو ما فعله المؤلف باستخدام التتبع والتحليل، أو باستثمار العلاقات الشخصية مع بعض أولئك الكتّاب.

فمثلًا يمنع “آرنست همنجواي” زيارته دون موعد، ودخول مكان الكتابة الخاص به محرم على كلّ أحد، والكتابة بالنسبة له حرفة بإمكان الإنسان تعلّمها، وقد نصحه خبير بترك الألفاظ المدويّة، ووصف الأشياء دونما تعقيد، وأضاف ناصحًا له: صِف حياة الناس وليس دواخلهم، ودع الحقيقة تبرز من ذاتها، وتلك إشارات ثمينة فكم يئد التكلف من إبداع، أو يقضي على جمال أعمال وسلاستها.

وفي مكتبته عشرة آلاف كتاب، بيد أنه يفضل أن يقرأ في الرياضة والقضاء لأنها مجالات تصور ما حدث فعلًا لا ما يفكر فيه الناس، ومن خلال إعادة الصياغة تعلّم الكتابة؛ وإنما سر الكتابة يكمن في إعادة الكتابة، ونجح في التخلّص من كل الفائض وغير الضروري من كلمات ومعاني، وتحاشى أيّ شيء يذكّر القارئ بوجود المؤلف، وفي ختام تجربته اعترف الحائز على جائزة نوبل أن الكاتب يعمل باستمرار في عقله الباطن.

بينما تعلّق “أريش ماريا ريمارك” بمهنة الكتابة ولم يستطع الانعتاق منها، وقرأت “مرغريت ميتشل” كافة الكتب التي أحضرها زوجها إبان تمريضها من إصابتها بحادث اصطدام مع سيارة، حتى اقترح عليها زوجها قائلًا: لم لا تكتبين؟! وبعد معاناة فعلت وجزمت بأن كتابة أول جملة عملية صعبة للغاية تشبه القفز في ماء متجمد، وحين أيقنت أن كتابها لن يرى النور أصبحت أكثر جرأة وثقة بقلمها وهذه من فوائد المسودات على الكاتب، وبتدفقها الكتابي حكمت للنص بأنه أقوى من صاحبه، ومن الموافقات أنها كتبت بسبب حادث أقعدها مدّة من الزّمن، وماتت بسبب حادث آخر.

أما “توماس مان” فهو يتأمل كثيرًا ولا ريب أن التأمل من أسباب تفرد الكاتب، والكتابة لديه أمر شاق، وشيء لا يمكن التلاعب به، وإذا أزال وشاحًا من الماضي عن ذكرياته شعر بفرح لما تختزنه أعماقه من ذكريات فالذكريات منجم خصب للكتّاب، وكلّما استمر في الكتابة انتفت عنه مشكلات هذه المهنة من أثر التدريب والمران، ولأهمية الملاحظة عنده فإن شخصياته الروائية تنتمي له وليس للواقع؛ إذ يُجري عليها أحكام قلمه وإبداعه فتغدو أعمق من واقعها الحقيقي.

وكتبت “هارييت بيتشر ستاو” روايتها وهي لا تعلم منها إلّا النهاية، وأصبح فعل الكتابة يستثيرها، وكي تكتب فلابدّ من توافر شيء واحد هو: غرفة لها وحدها، ويمنع “جورج سيمنون” الزيارات إذا شرع يكتب، ولا يفتح الرسائل، ولا يجيب الهاتف، ويعيش كالرّاهب فلا يغادر غرفته إطلاقًا، وإذا مضى زمن دون كتابة تفرض الأشياء الصغيرة نفسها عليه ولو كانت رائحة وردة، وبالتالي يتحرك ذهنه مما يؤدي إلى تداعي سلسلة من الأفكار الكتابية، وحين يشعر بالقلق يعلم يقينًا أنه ينبغي عليه الكتابة؛ فيصبح إذ ذاك شخصًا غير مستحب! وبتراكم الخبرة يتمثل عمله كله في اللاوعي، ويقتبس شخصياته من الحياة بعد أن يدوّن ملاحظاته عليها حتى يعيد صناعتها وإنتاجها من جديد.

كما سأل نفسه في بداياته الكتابية: إذا كان الآخرون قادرون على الكتابة فلم لا يكون هو كذلك؟ ومن طريقته أنه إذا كتب عملًا دون المستوى وقعه بأسماء أخرى حتى يحتفظ لاسمه بأشياء أفضل في المستقبل، ويرى بأن الكاتب يجب عليه أن يعرف حتى ما في قمامة الأوساخ، وأن مهنة الكتابة تشبه دعوة للتعاسة! وصار يدخل في جلد كلّ شخصية من شخصيات رواياته، ويتحسس ما وراء الواقع ليكتشف نوازع البشر، وفي عمله يستخدم الكلمات الواضحة، ويبتعد عن الكلمات التجريدية، وهو رقيب حاذق على أعماله؛ فأيّ شيء ليس له ضرورة يحذفه مهما كان.

وتأتي أفضل الأفكار إلى “أجاثا كريستي” وهي في الحمّام ولذلك تطيل المكوث فيه، ويثير الطبخ خيالها، وتبقى وحيدة لأنها تحتاج لتركيز محكم، ويعدّ “أدغار والاس” البداية من أصعب الأمور عليه، وينعدم الإحساس عنده بالزمن والمحيط، فلا يسمع ما يدور حوله حتى لو وقع بقربه زلزال، ويهتم بإشغال ذهن القارئ أطول مدة ممكنة، ويحرص “أدغار رايس بوروز” مكتشف شخصية “طرزان” على أن يكتب ما تتقبله الورق فليس لديه قواعد كتابية أبدًا، ومن رواج رواياته عن “طرزان” أن أصبحت أرباحها تكفي لدفع رواتب مجلس الشيوخ الأمريكي!

كذلك تدور كتابات “فرانسواز ساغان” حول تجاربها؛ فكتبت كلّ ما تستطيع كتابته، وبدأت تراقب الناس وترسم لهم أقدارهم المتخيّلة في عقلها الذي وصفه أساتذتها بأنه استنتاجي، وكانت منذ صغرها شغوفة بالأدب، بارعة في الاستماع والملاحظة، ولهذا السبب أجادت في وصف المشاعر الإنسانية من خلال أحاديث صديقاتها حتى لو لم تجربها، ومن طريقتها أنها تنتقد عملها بقسوة حتى تحسنه وتتقنه وتظهره على أتمّ وجه.

ما مضى هو أبرز ما بدا لي من أفكار هذا الكتاب المختصر وفوائده لمعشر الكتّاب، بعد أن عاش مؤلفه في عقول عدد من كتّاب الروايات وفتش في رواياتهم، ثمّ اقترب من بعضهم، وعرف حياتهم، وعايشهم، وكم يحتاج الكاتب إلى قراءة السير الذاتية للكتاب والمثقفين، فهي من أنفع وسائل تعليم الكتابة والتدريب عليها، فالتجارب البشرية سلسلة ذات حلقات متشابهة ومختلفة، بيد أنها دون استثناء متاحة معروضة للكافة، وحقّ الانتفاع منها بأيّ قدر وكيفيّة مشاع لمن يروم إتقان صناعة الكتابة.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

 ahmalassaf@

الخميس 19 من شهرِ بيع الأول عام 1442

05 من شهر نوفمبر عام 2020م 

Please follow and like us:

One Comment

  1. مقال ممتع ومفيد حفظ الله ا لكتاب اللذين يكتبون با اخلاص وهمة عالية . ويسهرون الليالي ويرفدون القارئ بالمتعة والفائدة . لقد قرات الالاف الكتب منذ طفولتي . واستفدت منها كثيرا في تعاملي مع الناس شرقا وغربا وفي تربية ابنائي . ونقلت لهم خبرتي التي عايشتها وانا اتنقل من شمال العراق وجنوبه واخرى في البلاد العربية وبلدان اخرى . لم تتح ظروفي للاستقرار . والتفرغ . ولكن امل ان يكون احد من ابنائي الخمسة كاتبا . لقد وفرت لهم الحب و الاستقرار والدعم والتشجيع والثقة بالنفس . وجنبتهم المنغصات . ا ختصاتهم تفيد عدد محدود من الناس . ولكن كتابة الكتاب المتميزون تفيد كل شرائح المجتمع من وزيرهم الى خفيرهم . اذا علموا قيمة القراءة . التي انزلها الله بالقران بسورة العلق اقراء باسم ربك الذي خلق خلق الانسان من علق . اقراء وربك الاكرم الذي علم بالقلم علم الانسان ما لم يعلم . هذه من وجهة نظري مع احترامي لا اراء القراء ووجهة نظرهم. وفقك الله لما يحبه ويرضا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)