أمريكا..ذات الإبادة3/2
الإبادة الثقافية
يندر أن يكون احتلال الأرض، وقتل سكانها، هدفاً خالصاً يقف عنده الغزاة، ويتأكد ذلك في حق الغزاة العقائديين الذي ينطلقون من معتقدات في أنفسهم وعن الآخرين. ولذلك فغالباً ما يتبع الاحتلال عمليات تغيير في الثقافة، وهذا التغيير إما سلمي يسانده حسن المعاملة، وطول الملازمة، وعامل الزمن، وإما قسري كما يحدثنا التاريخ؛ ونراه في الواقع المصاحب للعدوان الصليبي على أمتنا.
وبين يدي كتاب يحكي مراحل تغيير قسري مروع، وعنوانه: أميركا والإبادات الثقافية: لعنة كنعان الإنكليزية، تأليف: منير العكش، صدرت طبعته الأولى عام (2009م) عن رياض الريس للكتب والنشر، وعدد صفحاته (307) صفحات، ويتكون من مقدمة، وتسعة فصول، ثم وثائق كاشفة، فملحقان ثم المراجع، يتلوها فهرسان للأعلام والأماكن؛ والأماكن كلها تشهد على الجريمة البشعة.
وهذا الكتاب محطة على طريق لا يعرف المؤلف نهايته كما قال في مقدمته، وصلب موضوعه عن كسر العمود الفقري للضحية؛ باستهداف اللغة والثقافة والتراث الروحي، وهي كما عبر عنها رسل مينز أحد زعماء الحركة الهندية “المحرقة الأخيرة للوجود”. ولطول هذه المسيرة استحقت أن يمضي المؤلف خمس سنوات من البحث والقراءة والتنقيب؛ ليس في الكتب والمجلات وحدها، بل في الوثائق الحكومية؛ وبعضها مكتوب بخطوط سقيمة، أو بلغة قديمة تحتاج إلى من يفك مغاليقها، ولذا فهذه السنوات الخمس كانت أطول من مجرد خمس سنوات.
الفصل الأول بعنوان التطهير العرقي، ونقل الباحث في مقدمته نصاً لتوماس مكولاي مهندس سياسة التعليم الإنكليزية للشعوب المستعمرة حيث يقول: ” لا أظن أننا سنقهر هذا البلد ما لم نكسر عظام عموده الفقري التي هي لغته، وثقافته، وتراثه الروحي”، وإذا وعينا هذا النص جيداً فسوف نفهم سر تركيز الغرب وأتباعه على مناهجنا؛ وكيل التهم لتعليمنا، ومنابرنا، وقنواتنا، ومؤسساتنا الدعوية والعلمية.
وتولى مكتبُ الشؤون الهندية كبر التطهير الثقافي بواسطة التعليم، والمكتب تابع لوزارة الحرب عام (1806م)، ثم ألحق بوزارة الداخلية عام (1869م)، وتولى رئاسته الأولى هندي نكرة يبالغ في تقليد الرجل الأبيض، والهروب من تراثه في المظهر واللباس والاعتقاد، وهذه عادة المحتل فيمن يستخدمهم من صنائع.
ولجأ هذا المكتب خلال أكثر من قرن إلى كل وسيلة متاحة بما في ذلك خطف الأطفال الهنود وهم في سن الرابعة، وشحنهم إلى معسكرات أشغال شاقة سميت مدارس، وفيها تعلموا كيف ينظرون لأنفسهم وللعالم بعيون الغزاة، وعملوا مسخرين فيما ألحق بهذه المدارس من مصانع ومزارع، وكان نظام المدارس عسكرياً صارماً.
وحسب الإحصاءات الرسمية مات نصف هؤلاء الأطفال في المدارس، وكان الآباء يقاومون خطف أولادهم في الخريف حيث موسم قطف الصغار، وعندما يلجؤون للقضاء تأبى الحكومة تنفيذ الأحكام التي تصدر لصالح الهنود! وزيادة في المكر نُقلت المدارس بعيداً عن القرى الهندية المعزولة للحيلولة دون تواصل التلاميذ مع أهاليهم، ولتسريع تغيير العقل الهندي، وتغيير العقل مفردة أمريكية رسمية قالتها كونداليزا رايس عن تغيير العقل العراقي تقدمة لتغيير العقل العربي.
أما عنوان الفصل الثاني فهو استباحة الجسد، وهو فصل يقشعر منه البدن؛ لأنه يحكي عن مناقضة الفطر السوية، فلم تخل مدرسة هندية واحدة من الاغتصاب الجنسي؛ حتى وصفت المدارس بأنها مؤسسات للإرهاب الجنسي. وقد اعترف ناظر مدرسة-قبحه الله-أنه اغتصب أطفال مدرسته الذين تقع أعمارهم بين السادسة والثالثة عشرة يومياً خلال عشرين عاماً! وأدين معلم في مدرسة أطفال باغتصاب (142) طفلاً! ويزداد الأمر قبحاً حين نعلم أنهم يفعلون ذلك دون تأنيب ضمير؛ بل ينتظرون ثواب عملهم! وأما اغتصاب النساء فأمر شائع، لكن المحزن أن تنطلي فرية الغزو “من أجل تحرير المرأة” على بعض المسلمين نساءً ورجالاً.
ومن أدبيات المحتل الأبيض أنه لا يوجد شيء اسمه فتاة عفيفة ملونة إذا ما بلغت الرابعة عشرة من عمرها، وللقارئ أن يقارن ذلك بقوانين الأسرة التي يريدون فرضها، وإجبار المجتمعات على رفع سن الزواج. ومن اعتقادات البيض أن أكل لحم الإنسان الأسود يقوي الباه ويطيل العمر، ولا يعتقدن أحد أن الأمر تاريخ مضى، ففي عام (2008م) خطف رجل أمريكي أبيض طفلاً ملوناً ثم اغتصبه، وذبحه وطبخه وأولم عليه لجيرانه؛ ومن ضمنهم أهل الطفل الضحية! وإن هؤلاء القوم ليرتضعون عقيدتهم تجاه الآخر من البيت والمدرسة والكنيسة والسياسة والإعلام.
من يأكل لحم البشر؟ هذا عنوان صارخ للفصل الثالث، حيث صورت أفلام هوليوود الهنود بأنهم أكلة لحوم بشرية في تطبيق فج لنظرية الإسقاط، ورمي الخصم بتهمة الرامي أحق بها، بينما تشهد الحوادث بأن الإنكليز هم الأولى بهذا الوصف، وقد وثق أحد الكتب أكثر من ثلاثمئة حادثة قتل فيها جون جونستون ضحاياه، وأكل كبودهم، حتى سمي جونستون أكّال الكبود، وأصدرت جامعة إنديانا كتاباً عنه وعن ملاحمه.
وحذر المؤلف من تعميم ما ينقله على جميع الإنكليز-وهذا من إنصافه-، وذكر أن هناك طقوساً إنكليزية لأكل لحم البشر؛ وثقها أستاذ قانون في جامعة ميشغان بكتاب منشور، وحدد الإنكليز فوائد صحية للحم البشري حسب العرق، وتفنن المطبخ الإنكليزي في صنوف أطباق اللحم البشري، وتكرر وصف لحوم البشر على أنها لذيذة؛ وأن أكلها مرة واحدة كفيل بإدمانها، وليست هذه الجريمة خاصة بالرجال فقد ضربت المرأة الإنكليزية بنصيب وافر من هذه العادة وطقوسها. ومن أدبيات البحارة الإنكليز أن غلمان السفينة زاد احتياطي من اللحم الطازج! وأن الإنسان الجسور لا يجوع؛ وبعد هذا الاستعراض الجالب للغثيان أيصدق أحدنا إفكهم عن حقوق الإنسان وأسنانهم جاهزة لمضغ قطع اللحم البشري؟!
عنوان الفصل الرابع الكنعنة سلاحاً، وهو من أخطر الفصول، فالغازي يشيِّد أسطورته على أساسين منطقي وأخلاقي، وبالتالي يمارس جنوده الفظائع دون ندم أو مشاعر إنسانية تجاه الضحايا، وكرر المؤلف هنا تحذيره من التعميم على الجميع، وذكر هوس البيض بكنعنة ضحاياه انطلاقاً من موروث ديني وعد العكش أن يبحثه باستفاضة في كتاب بعنوان “الدين في أمريكا”، ولم ينشر هذا الكتاب حتى الآن فيما أعلم.
ولازمت عقيدة ” الاختيار الإلهي” المحتل في جميع حروبه، ولذا لا ينتابه شك في أخلاقية حروبه وما رافقها من “أضرار هامشية”، وهذه الأضرار الهامشية تشمل القتل والاغتصاب والنهب والإفساد، وإذا كانت هذه هامشية فما هو الضرر الأصلي إذاً؟ وإن هذا الاعتقاد يشل جميع المشاعر الإنسانية في نفوس المؤمنين به، وبالتالي فلا تشعر بالذنب، ولا ترضى بمحاكمة عقلية لأفعالها، لأن معايير الضعفاء الأخلاقية غريبة على مسامعهم ولا يدركون معناها، فالقاتل المحتل لا يفهم الدعوة للحوار والتعايش، فلغته القوة، وفهمه محصور في القتل.
وسعى المحتل لتجريد ضحاياه من الإنسانية، تماماً كما يستميت في تفريغ عقولهم، ويتفانى في تشويه ماضيهم وديانتهم وثقافتهم، وعندما اعتبر جون سميث مؤسس أول مستعمرة في العالم الجديد أن الحرب على الهنود استمرار للحرب المقدسة على المسلمين فقد كان يحث جنوده على القتل بلا رأفة. وشيطنة الخصم حاضرة حتى يومنا في السينما الأمريكية، وفي السياسة العليا على لسان أربعة وعشرين رئيساً أمريكياً ألقوا أزيد من مائة خطبة قبل شن حروبهم، وأجمعت خطبهم على وصف الضحية بأنه خطر وشر، وأن طبيعته شاذة ثقافياً وجسدياً.
وقد جمع مؤلف أمريكي هذه الخطب في كتاب خاص بها عنوانه Calls To Arms ومؤلفه رَسل بوهايت، عميد كلية العلوم والفنون في جامعة ميزوري، وكان إبراهام لنكولن أبلغهم، وجورج بوش الابن أعياهم وأقبحهم مفردات؛ حيث استخدم خمس كلمات قذرة غير معهودة في البيت الأبيض، وأما المعاني فمشتركة، والعقيدة الحربية تكاد أن تكون واحدة، وهذا الكتاب قمين بالترجمة، وليت أحد المراكز الفكرية أو الخاصة بالترجمة أن تنهض له ولغيره مما ذكره المؤلف من مراجع.
“علم إنسان” لا إنساني هو عنوان الفصل الخامس؛ ويكفي من بلاء قراءة عنوانه! ويدور هذا الفصل حول استثمار الأنثروبولوجيا بعد تجريده من الإنسانية؛ كي يكون أداة في يد المحتل يبيد بها الأصناف الهمجية والبربرية من البشر؛ خاصة من لم تنفع معهم عمليات “التمدين”، والتمدين باختصار هو مسخ الضحية حتى تنسى ماضيها كاملاً؛ بل تعيش “فوبيا” من تراثها وثقافتها لدرجة أن تخجل من ذكره، وتكره الانتساب إليه، وتتوارى عن أي شيء يربطها به. وقد جعل الأنكلوسكسون لأنفسهم فوقية مقدسة-مع أنهم ليسوا عرقاً مستقلاً-وكان لهذه الفوقية سلطان وتأثير كما تأثير الدين، وظهر هذان التأثيران جلياً في الحروب الصليبية.
ولأن عرق الآخر منحط وسافل في ثقافة البيض فإن إبادتهم أعظم قربان، ولا عجب أن يفضل دارون الانتساب إلى نسل قرد شجاع؛ بدلاً من العودة إلى نسل إنسان همجي كما نقل المؤلف عنه في فاتحة هذا الفصل. ولأهمية الأنثروبولوجيين كتبت عنهم النيويورك تايمز أنهم جعلوا الاحتلال الأمريكي لأفغانستان والعراق أكثر فاعلية، وأنهم يشكلون سلاحاً حاسماً في الحرب.
وأشار المؤلف إلى مقالتين عن الثقافة العربية والإسلامية كتبها هؤلاء الذين يدَّعون الاختصاص بدراسة عالمنا، وأبان عن مستوى الانحطاط في الدراسات الجامعية عن العرب والمسلمين، وذكر في هوامش هذا الفصل-وهوامش الكتاب ثرية نافعة-تفصيلات يحسن الرجوع إليها خاصة من أولئك المفتونين بما يكتبه الغرب دونما فحص، أو تمحيص، أو تقليب النظر الناقد فيه.
الفصل السادس عنوانه الأرض مقابل الحضارة، وفي أول الفصل روى المؤلف عن الكابتن ريتشارد هنري برات وهو جنرال ومدير سجن عسكري اختارته الإدارة الأمريكية لإنشاء مدارس الهنود، ووضع نظامها وبرامجها-وعسكرة التعليم عملية قديمة حديثة-حيث يقول هذا الجنرال الآثم إن هدف هذه المدارس هو قتل هندية الهنود! والغاية ألا يفكر هندي واحد فيما يسمى بالقضية الهندية! ولابد من القضاء على الدين واللغة لأنهما خط الدفاع الأخير للهنود كما يقول الجنرال المعلم! واعتبر التعليم بهذه الطريقة الهجينة وسيلة تمدين، وتواتر عن غير واحد من الأنكلوسكسون مقولة معناها: الذبح أو التمدين! وهما خياران صعبان؛ بيد أن موت الجسد أهون من خواء الروح عند الأحرار على أقل تقدير.
ولأهمية إفساد الناس من خلال التعليم أقنع توماس مكنّي الكونجرس برصد ميزانية لتأسيس مدارس تبشيرية تمدن الهنود، ووافق الكونجرس على هذا المشروع شريطة أن يصبح الكتاب المقدس في أيدي الأطفال، واللغة الإنكليزية لغتهم؛ لأنها لغة الإيمان! وأواه من “إيمان” هذا صنيعه! واستجاب الرئيس غرانت لإقرار سياسة السلام التي تقوم على كاهل جيش مسيحي من المعلمين؛ مهمته كسب الحرب، والقضاء على البربرية.
وكان من نتائج هذا التعليم أن وضع الهنود سلاح المقاومة، واستسلموا لاتفاقيات السلام المخدرة؛ هذه الاتفاقيات التي قال عن أوراقها ريتشارد وايتسل مدير مكتب الشؤون الهندية: إنه لا يرضى أن يمسح بها مؤخرته! وعلى غيرها من اتفاقيات ومعاهدات يمكن القياس؛ وإن اختلف الزمن والحال وبعض الأطراف.
أولاد مكّولاي هو عنوان الفصل السابع، وكم لهؤلاء الأولاد الأوغاد من أثر سلبي على أقوامهم، وفي أول الفصل مقولة تختصره قالها توماس مكولاي: ” علينا أن نربي طبقة تترجم ما نريد للملايين الذين نحكمهم؛ طبقة من أشخاص هنود الدم والبشرة، لكنهم إنكليزو الذوق، والأفكار، والتوجه، والأخلاق، والعقل”، وهي فكرة تعني الاستعمار الداخلي، وتربية جيل من السماسرة يغنون الغزاة عن الجيوش الجرارة.
وقد أطلق مكولاي هذه الفكرة في مذكرة تربوية غدت الأساس التربوي للمحتل الأبيض في كل بلد زحف إليه، وصارت هدفاً تعليمياً يتلخص في تفريغ الجيل من ثقافته، وصنع جيل من العملاء أو الوكلاء. وللأديب الكبير الراحل محمود محمد شاكر كتاب موثق أجاد فيه استعراض تجربة الاحتلال الغربي لمصر في إفساد التعليم، وتفريغ مخرجاته من ثقافتها، وعنوان الكتاب “رسالة في الطريق إلى ثقافتنا” وقد طبع مستقلاً، كما طبع في مقدمة كتابه الحافل عن المتنبي، وهذه الرسالة القيمة يحسن اهتمام المحاضن التربوية بها؛ كي يعي الجيل مكر عدوه القديم المستحدث.
وأكد مكولاي في مذكرته الخبيثة على أهمية بذل الجهد في إعادة كتابة التاريخ والثقافة الهندية بأقلام هندية لكنها إنكليزية الهوى، ثم تسويق المكتبة الإنكليزية على أنها المرجع الأعلى للمعرفة، وكان لهذا الإنكليزي الماكر أثر فعال في نجاح الاحتلال البريطاني للهند بعدد قليل من الجند، واستثمار المدارس والاختلافات في تخريج جيل ممسوخ؛ منسلخ عن ثقافته، يتكلم ويفكر بروح إنكليزية، واختصر المؤلف أعمال مكولاي؛ ومن المناسب الرجوع إليها في الكتاب، فما فعله المحتل الأبيض من تشويه للتعليم وإفساد لمخرجاته أمر يتكرر بلا مواربة.
الفصل الثامن يحمل العنوان التالي: أطفال “الهمج” في جنان “المدنية”، وصدره المؤلف بنقل عن تقرير حكومي عام (1907م) يؤكد أن نسبة ضحايا الحروب أقل من نسبة ضحايا المدارس! وما أشنع المدارس التي هذه صفتها. وعندما يُخطف الهندي إلى المدرسة تحرق ثيابه أمامه وسط مشاعر الاشمئزاز والإهانة التي يبديها البيض، ويُغير اسمه الهندي إلى اسم إنكليزي رنان كأسماء الرؤساء والقادة الأمريكان، ويعاني الطفل الهندي حتى يتعلم اسمه الجديد؛ ويتقن نطقه والويل له إن نودي به ولم يجب! ثم يُقص شعره الطويل، والشعر الطويل عزيز جداً على الهنود، وغاية هذه الإجراءات العسكرية سحق النفس الأولى وبناء نفس جديدة تكره ذاتها القديمة؛ وتقرف من موروثها.
وفرض أعمال السخرة جزء من نظام هذه المدارس، حيث أثبتت جدواها الاقتصادية، وأصبحت ساعات العمل تزداد سنوياً على حساب ساعات الدراسة، وكانت الحجة الجاهزة لتفسير هذه السخرة هي أن عقول هؤلاء الهمج لا تطيق فهم الكثير من علم البيض، وليس من قبيل المصادفة أن تحمل جميع هذه المدارس أسماء حصون عسكرية أو “قديسين”، ومن الإفراط في تسخير التلاميذ أصبح دخل المدارس يفوق نفقاتها السنوية بأربعة أضعاف! وللقارئ-كي يتصور فداحة هذا العذاب-أن يزور مدرسة ابتدائية؛ ويتخيل أطفالها يؤدون عملاً شاقاً، ثم لا يكون طعامهم جيداً بل رديئاً وملوثاً، وله بعد ذلك أن يبحث عن مصداقية لما يقوله الغرب عن حقوق الأطفال والعمال.
ولأن هذه المدارس كانت معسكرات في حقيقتها، فهي خاضعة للنظام العسكري في العقوبة على أي “جريمة”، وأعظم جريمة وأخطرها هي أن يتكلم الهندي بلغته الأم-فهل يسمع الراطنون؟ -، وتشمل العقوبات التعرية وتقنيع الرأس، والحبس الانفرادي، والتحرش الجنسي، واستخدام الكلاب، وإجبار الطفل على لعق قيئه إن لم يقبل الطعام الرديء. وأكرهت هذه المدارس تلاميذها على الاحتفال بعيد كولومبوس منذ عام (1892م)؛ وأي مرارة يجدها الطفل وهو يحتفل بذكرى احتلال أرضه وإبادة أجداده؟ ولذا فالهروب من المدرسة هو أعذب أماني الأطفال، ومن لم يفلح حاول الانتحار فردياً أو جماعياً، وبسبب انتشار موات الطلاب فقد سُّخر التلاميذ لحفر القبور في المقبرة الملحقة بكل مدرسة، وكان نجار المدرسة لا يتوقف عن صنع توابيت الأطفال! ولعمر الله إن هذا الفصل لكئيب مظلم؛ بيد أنه يكشف جانباً من شخصية المحتل لمن شاء أن يعي.
أما آخر الفصول فعنوانه حصاد الأرواح، فلم تكن استباحة الجسد إلا بداية لما بعدها، وقد جهد البيض لتبديل دين الهندي، وكان المعلم يتلو الصلوات الدينية أمام التلاميذ وهم يرددونها بلا فهم لمعناها، وتضمنت مناهج المدارس في أول نشأتها تعليم اللغة العبرية، وحفظ مقاطع طويلة من التوراة، وفي النهاية يحول الغزاةُ التلاميذ المتنصرين إلى عملاء، وهذا جزء مما يفعله المحتلون بدين الناس مع أنهم بارعون في التباكي على الحقوق الدينية وحرية المعتقد. ولأن تاريخ أمريكا غاص بالإبادة الثقافية فقد مارست حكومتها ضغوطاً شديدة لمنع الإشارة إلى الإبادة الثقافية في ميثاق جنيف، ولم يشر إليه إلا بعد أربعين عاماً؛ وبعد إضافات أفرغته من محتواه.
انتهت الفصول القصيرة عند الصفحة (154)؛ لكنها فصول مليئة بما يجلب الهم، ثم يرفع الوعي، وقد يقود إلى المقاومة حتى لا نصبح في يوم قادم أمة بلا هوية. وبعد هذه الفصول أضاف الباحث الجاد وثائق بعنوان مميز “مشاهد من أحشاء الوحش”-والعكش أديب يجيد سبك العبارة واختيار العنوان-وقد التقط هذه الوثائق من سجلات رسمية صرم سنوات طويلة وهو ينقب فيها، وعانى من قراءة خطوطها الرديئة أحياناً، وفهم لغتها القديمة المندثرة، بيد أن نهمه المعرفي أمده بنشاط وصبر؛ فضلاً عن إحساسه تجاه أمته المبتلاة بذات السيناريو، وأشار إلى أن ترتيب الوثائق غير مقصود، ومن المفارقات أن هذه الوثائق تحكي حقائق مخالفة للرواية الرسمية الأمريكية؛ بل وتنقضها تماماً.
شملت الوثائق وصفاً للمذابح، وعمليات القتل والسلخ وقطع الأعضاء، وجمع الرؤوس بعد سلقها لإجراء بحوث علمية عليها! وكذلك حصار الحصون وإحراقها في منظر بديع كما تصفه الوثيقة! ومن الوثائق إعلانات عن جوائز مقررة لمن يقوم بعمل يساند الاحتلال كأسر الهنود، أو سلخ فروات رؤوسهم، وكم من إعلان يجلب الغثيان والقرف. وتتحدث وثيقة عن شوي أجساد الضحايا وأكل البطاطا المطبوخة بشحم بشري، وتتحسر وثيقة أخرى على قلة عدد الجنود؛ ولذا لم يتمكنوا من زيادة عدد القتلى، وأما إتلاف المحاصيل الزراعية، وحرق البيوت والقرى، فأمر كثير الورود في هذه الوثائق التي تدين البيض.
وفي نهاية الكتاب ملحقان؛ فالملحق الأول بعنوان مدنوهم ببندقية؛ وهي من أناشيد الجيش الأمريكي، والبندقية سلاح متغير بيد أن عقيدة الجيش الأمريكي ثابتة باقية، ومن التمدين ما طالب به أمريكي مقاتل في العراق بأن يُكفن المسلمون برقائق الخنزير! والعقيدة الحربية الأمريكية تقوم على أن “الآخر” جنس وحشي، وعرق منحط لا مناص من إبادته أو تمدينه، وأن وجوده في الحياة لا يخرج عن منفعتين اقتصاديتين للعالم القوي: إما مستهلكاً لمنتجاته، أو يداً عاملة مسخرة لنفع الأبيض. ويعتبر البيض أن الأراضي المسكونة من غيرهم مساحات بور، وأن اجتياحها تحرير وليس احتلال!
ومن افتراء الأمريكان الكذب الرئاسي على الشعب، فالرئيس مكنلي تحدث مع الله قبل حرب الفلبين، وبوش الابن تلقى أمراً مباشراً من الله لغزو العراق-تعالى الله عن إفكهم وما يفترون-وقد ذكر فريدريك تيرنر فيلسوف الثغور الحربية أن قدر الأمريكان هو ألا يطفئوا حرباً إلا بنار حرب جديدة! وتعبر قصة رمزية عن النظرة التجارية وراء الحرب والسلاح الأمريكي، حيث تاجر رجل ببيع الأحذية في بلد أهله حفاة، بيد أنهم لم يبتاعوا منه لانتفاء حاجتهم للانتعال! فزرع صديقه الأرض شوكاً ساماً فهرع الناس لشراء الحذاء راغمين، وكم من بائع وحذاء وشوك ومشتر، والله المستعان.
وأفاد البيض من مبدأ التطور الذي ابتدعه دارون وقضى على الضعيف بالانقراض الطبيعي، وأصبح الأنكلوسكسون يرون غيرهم أعراقاً جديرة بالفناء لأنهم منحطون لم يتموا مسيرة التطور، فانقراضهم أولى حفاظاً على النوع الإنساني؛ خاصة من لم يستجب لعمليات التمدين القسري. وطبق الإنكليز رؤيتهم في قارتين هما أمريكا وأستراليا، وكادت الصين أن تغرق بحرب الأفيون.
وفي الهامش قلل المؤلف من كتاب هنتغتون عن صدام الحضارات، واعتبر أن هنتغتون ليس له ولا لكتابه وزن أكاديمي، وقد رفضت مؤسسات أكاديمية انضمامه إليها على اعتبار أنه كاتب مشعوذ! ففكرة أمريكا منبثقة من عقيدة عنصرية قبل هذا الكتاب ومؤلفه. كما وضع المؤلف في الهامش روابط لدراسات تثبت وجود علاقة وثيقة بين الجيش الأمريكي وأعمال التبشير. وقارن بين ضحايا الأمريكان وضحايا غيرهم؛ واستنتج بأن ضحايا الجيش الأمريكي رقم ينحني له الطاعون الأسود تواضعاً! وفي هوامشه يؤكد على أن الأنكلوسكسونية كذبة بيولوجية لا أساس لها في الدراسات العرقية.
والملحق الثاني بعنوان افتراس قارة، وهو يحكي باختصار ما فعله الإنكليز بشعب أستراليا الأصلي حيث كرروا جرائمهم مع الهنود الحمر، وسمة العدوان الأنكلوسكسوني متكررة بدرجات متفاوتة في أيرلندا وقارات أمريكا وأستراليا، وفي الفلبين والعالم الإسلامي. ومنذ وصل الإنكليز إلى شواطئ قارة أستراليا في 12 يناير (1788م) شرعوا في عمليات الإبادة؛ فلم يبق من السكان الأصليين في إحصاء عام (1911م) سوى (31) ألف إنسان مع أن مساحة أستراليا أكثر (37) مرة من مساحة بريطانيا؛ وشعب أستراليا الأصلي مشهور بارتفاع نسبة تكاثره.
واستثمر المحتلون مرة أخرى نظريات دارون، واعتبروا الشعوب الأصلية هم الحلقة المفقودة بين الإنسان والقرد، ولأن البقاء للأصلح فقد صاغوا قوانين طبيعية تطبق عقيدة الاختيار الإلهي التي يزعمونها، وبموجبها أبادوا أمماً وشعوباً. واستخدم المحتل وسائل إبادة متنوعة لإفناء السكان الأصليين إلى درجة دس السم في دقيق الإعاشة! وظلت عمليات خطف أطفال أستراليا عملاً قانونياً حتى عام (1963م) حيث خُطف خلالها (90%) من أطفال القارة، وهذا الملحق المليء بخبر الإبادة جدير بأن يكون فصلاً في كتاب المؤلف المؤلم الذي سبق استعراضه: أميركا والإبادات الجماعية: حق التضحية بالآخر.
إن إشاعة هذا التاريخ المخزي للمحتلين البيض من التعاون على البر والتقوى، فهو يرفع الوعي، ويزيل الغشاوة، ويفضح تاريخ أمريكا وبريطانيا، وربما يسهم في تخفيف ولَه بعض المفتونين بتلكم الحضارة، وعسى ألا يكون أبناء أمتنا كغالب الشعب الفلبيني الذي يهيم بأمريكا؛ مع أنها أجرمت في بلادهم بأعمال قد يستحي من بعضها الشياطين والمردة، فلأمريكا أكثر من “هولوكوست” تربو على ما فعله النازيون؛ لكن ضحاياه لا بواكي لهم.
أحمد بن عبد المحسن العسَّاف-الرِّياض
الثلاثاء 04 من شهرِ الله المحرم عام 1436
28 أكتوبر 2014
One Comment