صالح بن صالح: مصباح عنيزة الوهاج
لو استعرضنا خريطة العلم والثقافة والمناصب في المملكة العربية السعودية، ثمّ وزعناها بلدانيًا على هيئة مصابيح فوق الخريطة، فلربما أضاءت عنيزة بوضوح ظاهر، ومن الطبيعي أن تنير بقع أخرى غيرها، بيد أن عنيزة ليست كبيرة المساحة، أو بقعة مقدسة، أو مدينة ساحلية، أو عاصمة لإقليمها الكبير، وهذا الذي يلفت إليها النظر، ويمنحها وهجًا خاصًا، مع التقدير والتوقير لباقي المواضع القريبة من عنيزة والبعيدة عنها، ففي كلٍّ خير وبركة.
ولا أظنّ تفسير هذا التميز بعسير؛ فهو يرجع إلى عوامل على رأسها طبيعة شخصية إنسان عنيزة بما فيها من نهم للمعرفة، وجرأة ممزوجة بمغامرة، وسفر وتواصل، مع حبٍّ فيّاض للدار وديّارها، ثمّ يأتي عقب ذلك وجود اسم كبير لامع هو حبر عنيزة الأعظم الشيخ العلامة عبدالرحمن بن سعدي الذي ورث العلم وورثه لمدرسة مستمرة عبر عدد كبير من العلماء والقضاة، ومع ابن سعدي تبرز لنا أسماء قامات من الرجال والنساء الذين حملوا أمانة التعليم في المنازل والمساجد والكتاتيب، وحاز التفرد والإبداع منهم الشيخ الكبير الأستاذ صالح بن ناصر بن عبدالمحسن بن صالح (1322-1400) الذي غدا في عنيزة مصباحًا يشعّ في العقل والقلب، ولا يكاد نوره أن ينطفئ، ولا زيته الوضاء أن ينتهي، فأجياله العملاقة الأولى أحسنت في الحمل وصدقت في الأداء حتى استبان الأثر وتسلسل فلا ينكره إلّا مكابر.
ولد صالح بن ناصر بن صالح بعنيزة عام (1322) وهي سنة مفصلية في تاريخ عنيزة الحديث، وتعلّم في كتاتيب بلدته المجمعة، وفي عنيزة التي يقطنها أخواله، وأقام فيها فيما بعد. ولأنه لم يقتنع بالقدر اليسير من التعليم سافر سالكًا دروب التحصيل، فمكث في الكويت عدّة سنوات، ثمّ انتقل إلى مدينة الزبير العراقية النجدية، ودرس في مدرسة النجاة الشهيرة التي أسسها العالم محمد أمين الشنقيطي وبعض وجهاء الزبير حتى تخرج فيها، وعمل عقب ذلك في المدرسة الخليفية بالبحرين، وفي دبي، ولعلّه كان يمرن نفسه على هذه المهنة السامية قبل أن يقفل بمشروعه إلى مرابعه.
لذلك لم يضع الوقت حين عاد إلى عنيزة عام (1347)، وأجزم قياسًا على الإمكانات المتوافرة آنذاك مع انشغال الغالبية عن تشجيعه أنه واصل العمل وضاعف الجهد حتى تمكن من افتتاح مدرسته عام (1348)، وهي تُعد أول مدرسة حديثة في نظامها، ومناهجها، وطريقة التدريس، واختط المعلم الأستاذ من خلالها منهجية غير مسبوقة في نجد مستعينًا بشقيقه الشاعر والمعلم عبدالمحسن الصالح لتدريس المراحل الأولى، حتى أصبحت مدرسته مثالًا ينسج الآخرون على غراره، وما أسعد المرء إذا صار إمامًا في الحق والفضيلة والمكارم، وإلى تلك المفاخر يسابق العقلاء.
ولأن الرجل صاحب مشروع ورسالة، وذو نفس طويل، ونظرة بعيدة، لم يدركه اليأس أو يفتّ من عزيمته انضمام تلميذ واحد فقط إلى مدرسة ابن صالح في عامها الأول، وأتصور أنه استفرغ الوسع في تعليم هذا التلميذ الوحيد، مع السعي لإشاعة فكرته داخل المجتمع العنيزاوي الذي انبهر بالمدرسة الجديدة، فأقبلت البيوت طائعة مختارة على إلحاق أبنائها من مختلف الأعمار فيها، واقترب عدد طلاب المرحلة الأولى من مئة تلميذ مع أن المدرسة بالكاد أكملت عامها الأول، وإن التلميذ الأول، والمئة الذين لحقوه، لجديرون بالتوثيق حفظًا لتاريخهم وتاريخ التعليم الحديث في عنيزة.
ومن حصافة المعلم الأستاذ ابن صالح أنه بنى جسورًا راسخة من العلاقة الوثيقة مع الشيخ عبدالرحمن السعدي؛ ففاز بمؤازرته له ولمدرسته لدرجة تخصيص الشيخ وقتًا لحضور بعض احتفالات المدرسة، ولربما أن هذا التأييد السعدي أضاف للمدرسة الصالحية قبولًا شعبيًا ومجتمعيًا أكبر، وأزال ما قد يوجد في نفوس بعض الأهالي من توجس نفهمه ولا نزدريه، ففي أيّ مجتمع تراتيب وأعراف وتقاليد، والحنكة تقتضي التعامل معها بحكمة، فالمعروف والحَسن يبقى، وغيره سيتلاشى.
ثمّ أوجد الشيخ المربي رباطًا قويًا مع بيت الإمارة في عنيزة، ولم يحرص على هذا الرباط لأجل نفسه أو مصالحه أو مكانته الخاصة، بل لمساندة المدرسة، وتمكينها في بواكير انطلاقتها، ومعالجة أيّ إشكال قد يطرأ؛ وعلاج أيّ قصور محتمل، ودفع أيّ معضلة، فحظيت مدرسة ابن صالح بمواقف مؤيدة من أمراء آل سليم كالأمير عبدالعزيز العبدالله، والأمير عبدالله الخالد، ومن القطعي أن وقوف السلطة بحزم رفيق خلف الإصلاح الرشيد سيمهد له الطريق ليمضي قدمًا دون عوائق وإن طال به المسير، فتجنب المصادمة سياسة مطلوبة وهي لا تعني الضعف أو التهاون.
كما استثمر الأستاذ صالح جهوده التعليمية، فاستقطب نوابغ الطلاب والنابهين منهم الذين تخرجوا في مدرسته وتعلموا على يديه ويدي أخيه، ومنحهم الفرصة لتحمل المسؤولية معه وتدريس زملائهم الجدد، حتى لو صادف أن بعض الطلبة في عمر أستاذه الجديد لأن الأوضاع استثنائية، وفي هذا المسلك فوائد منها إنضاج أكبر عدد من الجيل الشاب للمشاركة في رفع راية التعليم، وبثّ روح المسابقة والمنافسة بين الأسر، وفيه إشارة إلى سلامة طويّة الرجل ونقاء نفسه من الهوى وحسن نيته كما نحسبه؛ فليست مقاعد الدنيا هدفًا له، ولا يعلو على همّ التعليم لديه شيء، وأسعد أوقات أمثاله من المخلصين حين يرتقي تلاميذه ومريدوه، وقد مدّ الله في عمره حتى رأى منهم الكتّاب والأساتذة والوزراء والوجهاء، ولم يحتكر الأستاذ حقّ التعليم لنفسه ولأخيه ولطلابهما؛ بل استضاف أيّ زائر مؤهل ليُلقي على الطلاب درسًا أو دروسًا، وهكذا تفعل النفوس العالية البهية.
أما اليوم الدراسي في مدرسة الشيخ صالح بن صالح فهو فريد سابق على مستوى عنيزة وعموم نجد، إذ يبدأ منذ طلوع الشمس بالاصطفاف في طابور الصباح الذي لم يعهده أهالي عنيزة أو القصيم والمنطقة المحيطة، وبعد الطابور يجري الأستاذ الرياضي المحب للمشي ومعه تلاميذه حول المدرسة، وفي الجري تنشيط واستعداد وطرد لبقايا النوم والكسل، وللقارئ أن يعجب من أداء التمارين السويدية في عنيزة تلك الأيام الخوالي، ومن الترنم الجماعي بأناشيد ذات معاني سامية وكلمات شريفة.
ومن حنانه على طلابه أنه يغطيهم بالقماش والخياش إذا نزل المطر، ويوصلهم إلى بيوتهم بنفسه ليضمن سلامتهم ولو اضطره ذلك إلى ذرع عنيزة طولًا وعرضًا، ومن ولعه بالتعليم أنه درّس التلاميذ وهو على فراش المرض، وطلب حضورهم لبيته كي لا يتأخروا ويضيع عليهم إتمام المنهج بسبب وعكته التي حالت بينه وبين الذهاب للمدرسة، ويتأكد هذا الولع بانصراف الشيخ عن التأليف كتابة، أو النظم شعرًا، مع إجادته لهما، بيد أنه قدّر أنّ تخريج الأجيال وتعليمهم وتربيتهم أجدى وأخلد من تصنيف أحسن كتاب، أو ترك أجود ديوان شعر، ومنه أنه كان في جلساته العامة، ورحلاته البرية أو الخارجية يصطحب الكتاب معه، ليرتقي بذائقة مرافقيه، ويفيدهم بما يزيدهم علمًا ووعيًا.
أيضًا من طريقته التربوية والمجتمعية أنه يستعير أيّ كتاب غير ملائم يراه مع تلاميذه، ويعوضهم عنه بكتاب أنسب لعقولهم وأفهامهم، ويحذف الأبيات الشعرية المغرقة في الغزل من القصائد حتى لا يعترض الآباء عليها، أو لأنها لا تناسب إدراك الطلاب حينذاك، ومن نصحه عنايته بمادة الخط فجودة الخط منقبة، واهتمامه بمادة الحساب لما فيها من منطق، وابتهاجه بالطلاب النجباء، وصرف جزء من وقته لصالح المسرح المحفز للوعي، وإتاحته للطلاب أن يمارسوا الرياضة واللعب بكرة جلبها من الخليج.
وله تجاه مجتمعه أعمال ربما يأنف منها من هم دونه بينما لا يجد المربي المعلم حرجًا في تنظيف الشارع، والدعوة للاقتصاد في الماء والطاقة والمأكل والمشرب، هذا غير أنه لم ينافس على منصب إداري، ولا في تجارة رابحة، ولم يمارس حتى شراء ما يخصه بعد أن كفاه شقيقه وتوأمه الشاعر عبدالمحسن أمر شؤونه الخاصة، والشيخ عبدالمحسن بالمناسبة شاعر شعبي، وصياد نبيل التزم ألّا يصطاد حيوانًا وهو نائم؛ وإنما يوقظه أولًا، ويعطيه فرصة للهرب ثانيًا، قبل أن يصوب عليه نيران بندقيته ثالثًا.
كذلك امتلأ قلب الشيخ المربي بحبّ عنيزة حتى وُصف بأنه مغرم بها، ومن أصدق دلائل هذا الحب أن الملك عبدالعزيز أعجبه ابن صالح ونظامه التعليمي حين زار عنيزة، فاقترح عليه أن ينتقل معه إلى الرياض العاصمة ليشرف على تعليم الأمراء، بيد أن الشيخ الأستاذ آثر البقاء في عنيزة معتذرًا بأنه ربما لا يناسب في تحقيق ما يريده الملك المؤسس، ورشح للملك أخاه المعلم والمربي الشيخ عثمان الصالح، وهو ما كان حتى أصبح الشيخ عثمان في الرياض مثل أخويه في عنيزة الشيخ صالح والشيخ عبدالمحسن الذي كان يبري الأقلام للطلبة إضافة لجهوده التعليمية.
تقاعد الشيخ الأستاذ صالح عن العمل الحكومي عام (1392)، وتوفي نتيجة حادث سيارة في عام (1400)، بعد أن أحسن في تربية ليس بنيه وآله فقط، بل أبناء عنيزة حتى لا يكاد يخلو بيت من تلميذ له مباشر أو غير مباشر، ولأنه رحل بهذا الإرث النفيس تنادى الكرام من أهل عنيزة عام (1403) وأقاموا صرحًا خيريًا باسم معلمهم ورائد التعليم في بلدتهم صالح بن صالح، فكانت الجمعية الصالحية ومركز ابن صالح، والمكتبة التي يهدي لها المثقفون كتبهم وخزائنهم الثمينة، وسبحان الذي كتب للشيخ المصباح المضيء أن يرحل من هنا، وتبقى آثاره في العلم والمجتمع والخير خالدة غير منقطعة بواسطة طلابه، والجمعية والمركز والمكتبة، ودعوات عامة أهل عنيزة، والفضل من واسع الفضل لا يستغرب.
ثمّ هاهنا كلمة يحسن ألّا يغادر القارئ أينما كان قبل قراءتها، فلكل البلاد أو جلّها رواد في التعليم والعمل المجتمعي والخيري ونشر الوعي والمعرفة والإحسان إلى الإنسان والمكان، وحقيق بكلّ المواضع أن تحتفي برموزها الكبار الذين كانوا مصابيح أنارت ظلمة الدجى سواء من علماء الشريعة أو من المعلمين وناشري المعرفة والثقافة، أو من الوجهاء والأثرياء والحكام المحسنين السباقين بالمعروف والعدل، فهذا الصنيع فيه وفاء وعراقة، وفي عنيزة لمن شاء قدوة.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الإثنين 02 من شهرِ ربيع الأول عام 1442
19 من شهر أكتوبر عام 2020م
5 Comments
جزاك الله خيرا الكاتب احمد وانت تكتب للقراء هذه الشخصيات الجديرة بالقراءة . والاعتزاز والاحترام رحم الله الرجل الصالح والحكيم والمربي والمعلم .صالح بن صالح واسكنه فسيح جناته وبارك الله له في اهله وذريته .
بارك الله في جهودك أستاذنا الكريم وجزاك خيراً علي نشر جهود الرواد والعاملين المخلصين من مختلف أرجاء الوطن.قطعة أدبية شائقة وإيجازٌ وافٍ وتحويل الرمز الي أمثولة تغري بالإقتداء وهذا هو الهدف المرغوب في تحفيز الأجيال الجديدة للخروج من الذاتية المفرطة الي العطاء البحت مرتبطاً بحب الوطن والمواطنين لتبقي بصمة الإنسان بعد الغياب فذاكرة الوطن لا تنسي ولا تغفل مهما طال الزمن.أما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض.بوركت وبورك قلمك الأنيق
أهلا وسهلا ومرحبًا بكم.
اخي الاستاذ. احمد سلمه الله
يعجز القلم عن شكركم والأمتنان لكم على هذا الموضوع القيم والذي لاتستيع ان تترك كلمة اوسطر حتى تتمنى ان تعيده لما تجده فيه من شوق لمعرفة الكلمه التي بعدها لانسجام القارئ بهذا المقال الشيق والذى سطر حقائق واقعية عن حياة هذا السيخ الكريم والذي نتمنى اننا كنا شهدنا هذا الشيخ وسيرته العظيمة في التعليم المحفوفة بالصبر والتضحيات
الف شكر لك وعظيم الأمتنان لشخصكم العزيز
لك حبتي ودعواتي بالتوفيق
احمد عبدالعزيز السلوم
جزاكم الله خيرا