سياسة واقتصاد

هنا وزير الإعلام!

هنا وزير الإعلام!

استمعت إلى محاضرة مسجدية قديمة، ألقاها أحد المشايخ الحاذقين في تعبير الرؤى وتأويلها، وكانت عن علم التأويل الذي يتلاعب به البعض، ويستهين به آخرون، ويلهث خلفه غالبية الناس حتى أشدّهم استهانة به في العلن، وفي نهاية المحاضرة فتح المجال للأسئلة، ومن حسن حظّ السائلين أن عددهم الضخم حال دون المشافهة، وكان من ضمن الاستفتاء المكتوب سؤال عن تعبير رؤيا قصيرة أسعدت صاحبها أيامًا فيما يبدو، ولكنّ التعبير حطّم آماله، فقد رأى نفسه وزيرًا للإعلام، وأجابه العابر من فوره ناصحًا إياه بقوله: ابتعد عن النميمة هداك الله!

إن شؤون الإعلام ملتبسة جدًا، ومن التباسها تداخلها مع وزارات الخارجية والاستخبارات والداخلية والثقافة، وتعدد تسمياتها ما بين أنباء، وإرشاد، وتوجيه، والتحامها في بعض البلاد مع الثقافة أو الرياضة أو الاتصال وربما تنفصل، بينما تجعلها بعض الحكومات تحت إدارة رئيس الوزراء كما في عدة حكومات لبنانية، وهي وزارة موجودة في بلاد، غائبة عند غيرها، وتطفو تارة ثمّ تنغمس في بلاد أخرى وقد تعود للظهور من جديد، وليس الشأن في بقائها من إلغائها، وإنما في وجود نظام متبع، وميثاق واضح، وحريات مسؤولة مكفولة محميّة.

ويُعدّ الإعلام قوة ناعمة لأيّ دولة إذا أحسن سدنة هذا القطاع إدارته وتوجيهه واستثماره وفق أهداف واضحة متوافقة مع ثقافة البلد ومصالحه وأمنه القومي، فمثلًا يهدف الإعلام الإسرائيلي إلى إظهار الطابع الخاصّ بإسرائيل، وإعلاء شان كفاح اليهود وإبداعاتهم وأهم إنجازاتهم، مع تعميق الانتماء، والدعاية للحياة الثقافية اليهودية، وبثّ البرامج لأجل ترويض الجمهور العربي، وترويج السردية اليهودية، والدفاع عن السياسات الإسرائيلية، وتصوير أعمال العدوان والإرهاب والتهويد على أنها حقّ شرعي لإسرائيل، أو دفاع ضروري عن النفس لا مناص منه.

أيضًا يظهر الارتباط الكثيف بين منصب وزير الإعلام وعدد من الأعمال، فكثير من الدبلوماسيين في العالم أصبحوا وزراء للإعلام والعكس، وسيطر عدد من العسكريين على هذه الحقيبة خاصة في البلاد الانقلابية، وآلت أحيانًا إلى كتّاب وشعراء ومثقفين، وفي بعض الأحوال تجري مناقلة بين الإعلام والخارجية كما في حال الصحاف الوزير العراقي، ومحمد حسنين هيكل الوزير والكاتب المصري، وفي المملكة أصبح عدّة سفراء وزراء للإعلام.

ويشتهر عالميًا وزير الدعاية الهتلرية “جوبلز” الذي احترف التضليل وسار على منهجه كثير ممن خلفوه في أصقاع الدنيا وإن ذموا صنيعه علانية، وكانت نهايته كئيبة إذ خدّر أولاده الستة ثمّ قتلهم بجرعة من السم، وخرج مع زوجته وانتحرا بعد يوم واحد من انتحار هتلر في مخبئه تحت الأرض، وأما عربيًا فيبرز لنا اسم وزير الإعلام العراقي محمد سعيد الصحاف الذي كان الناطق الرسمي أثناء العدوان الأمريكي البريطاني عام (2003م)، ومن تصريحاته عرف العرب والعجم كلمة “العلوج”، ثمّ أنجاه الله عبر طائرة نقلته وأسرته إلى الإمارات، وسلم من مشاركة رفاقه في العذاب المهين.

ومن أوليات وزراء الإعلام أن أول وزيرة خليجية للإعلام كانت وزير الإعلام والثقافة في دولة البحرين الشيخة مي بنت محمد آل خليفة التي سميت وزيرة عام (2008م)، وأول عضو توفي من الضباط الأحرار ومجلس قيادة الثورة في مصر هو وزير الإرشاد القومي (الإعلام) صلاح سالم وكانت وفاته سنة (1962م)، ومما يتعلق به أنه كان لا ينزع النظارة السوداء عن عينيه، وحين عبرت جنازته من طريق جديد في يوم الانتهاء من تجهيز الطريق والفراغ من أعماله سمي الطريق عليه وهو شارع قاهري طويل شهير، وربما أن وزير الإعلام المصري صفوت الشريف من أطول الوزراء العرب مكوثًا في هذا المنصب لمدة اثنين وعشرين عامًا (1982-2004م)، وهو ضابط مخابرات سابق يحمل الجنسية الأمريكية، واستقالت وزيرة الإعلام اللبنانية منال عبدالصمد على الهواء المباشرة دون مثال سابق فيما أعلم.

كذلك من الطبيعي أن ترتبط الطرائف بعمل وزير الإعلام لأنه في مرمى شريحة واسعة تجيد التربص والاقتناص والتلوين وصناعة الحبكة واختراع الرواية، ومن ذلك أن أحد وزراء الإعلام في موريتانيا تفاخر بأنه الوزير الوحيد الذي استدعاه رئيس الوزراء ليخبره بانتهاء تكليفه وخروجه من الحكومة تكريمًا له حسب زعمه؛ فكان جواب المراقبين الصاعق له بأنه هو الوزير الوحيد الذي خرج من الحكومة القديمة ولم يرجع للحكومة الجديدة، فلا موضع للتباهي.

كما تأخرت طائرة هندية استقلها وزير الإعلام البنغالي لأن النحل غطى المرآة الأمامية للطائرة بكثافة غريبة، فاضطرت أجهزة المطار الهندي لمحاولة طردها بأكثر من طريقة سواء عن طريق مساحات الزجاج، أو بواسطة رشها بخراطيم المياه، وبعد ساعة من استخدام مياه إطفاء الحرائق طارت أسراب النحل عن الزجاج المواجه لقائد الطائرة، وتمكنت من الإقلاع بعد أن تأخرت عدة ساعات بسبب اعتراض النحل، وغدت القصة موضعًا للمتابعة الإعلامية آنذاك.

ثمّ قرأت والعهدة على الراوي أن الزعيم الليبي معمر القذافي ظنّ أن الممثل المصري عادل إمام يسخر منه في إحدى مسرحياته؛ فشرع في تدبير كمين لاستضافة الممثل بطرابلس ثمّ قتله على يد إحدى العصابات، ولما علم المتعهد بذلك استنجد بوزير الإعلام الليبي عبدالله منصور فبادر إلى منع إقامة الحفلات والمسرحيات ليقطع الطريق على خطة العقيد الذي سيطر عليه الغضب فسجن وزيره مدة من الزمن، وفي هذه القصة نكارة من باب جرأة الوزير على إبطال مخطط شخصية مثل القذافي.

وسمعت أن الرياح جرت بما لا تشتهي السفن في بلد عربي ففاز بالحكم فريق عانى من الإقصاء والتهميش عقودًا، وأصبحت وزارة الإعلام من نصيبهم، وفي أول يوم لدوام الوزير الجديد المنتمي للحزب الحاكم دخل إليه أحد قدماء موظفي الوزارة من ذوي المناصب مقترحًا عليه إنتاج فلم وثائقي عن شخصية تاريخية من رموز توجه الوزير الفكري وحزبه، فقال له الوزير متهكمًا: أنت تعمل في وزارة الإعلام منذ عدة سنوات فلماذا لم تنفذ هذه الفكرة الجاهزة لديك من قبل؟!

وذكر الكاتب والمؤرخ ناصر الدين النشاشيبي في تقديمه للسيرة الذاتية للإذاعي الفلسطيني عيسى خليل صباغ بعنوان: “من بين أوراقي: 50 عامًا من الإعلام والدبلوماسية” أن هذا الرجل الغساني الذي يحفظ القرآن الكريم وديوان المتنبي خلب لبّ ملك الأردن عبدالله الأول عام (1949م)، وأسر الملك للنشاشيبي -وهو مستشاره الأول في البلاط- بأنه سيعين عيسى صباغ وزيرًا للإعلام فور حضوره إلى الأردن، ولم يبلغ المؤرخ صاحبه الإعلامي إلّا بعد عشرين عامًا حين قابله في السعودية، وأصبح اسم عيسى صباغ أكبر من اسم الوزير وأوسع حدودًا ومساحة من تلك الوزارة؛ لأنه عمل في إذاعتي لندن وَ واشنطن، ثمّ صار مترجمًا للقنصلية الأمريكية بجدة، وترجم في البيت الأبيض بين عدد من رؤساء أمريكا وضيوفهم من الزعماء العرب، ولي مع الكتاب المذكور قصة سأوردها في مقالة أخرى بإذن الله.

أما محليًا فأعتقد أن معالي الشيخ محمد عبده يماني من أكثر وزراء الإعلام تعرضًا للمواقف خلال عمله وربما يعود ذلك لأنه صرح بها في بعض محاضراته ومقالاته، وليته كتب سيرته الذاتية لكانت ماتعة مشرقة، فمن مواقفه أنه أعلن تفاصيل قرارات مجلس الوزراء السعودي فور نهاية أول اجتماع حضره بصفته وزيرًا للإعلام خلافًا للمعهود، واصطحب رؤساء تحرير الصحف المحلية مع الوفد المصاحب للملك خالد في رحلة رسمية ولم يكونوا من أعضاء الوفود الملكية فيما مضى، وأصبحت تصرفاته “الخاطئة” في وقتها هي عين الصواب المعمول به حتى الآن.

ولخطورة الإعلام وحساسيته يكون لبعضهم أعمال ذات أثر كبير، فأيّ خيرية وأجور ينالها الوزير الذي أدخل ضمن الجدول التلفزيوني برامج دينية واستضاف مشايخ ذوي أحاديث حلوة جذابة كالشيخ علي الطنطاوي، أو الوزير الذي ساند فكرة إذاعة القرآن الكريم المسموعة في أنحاء الدنيا وسعى لجعلها واقعًا، أو الوزير الذي افتتحت في أيامه قنوات تبث تلاوات قرآنية وأحاديث نبوية مع صور حيّة للحرمين الشريفين، والباب مفتوح واسع لمن رام أن يدخله من أيّ جهة وبأيّ صفة، فربّ عمل صغير تعظمه النية الحسنة.

حقًا إن الإعلام مهنة المصاعب والحرج والصداع للفرد الذي لا يتجاوز سلطانه وحدود مسؤوليته وسيلة واحدة، فكيف بالوزير المسؤول عن قطاع عريض فيه شركاء متحالفون ومتشاكسون ومتخالفون، وحسابات خفية أو موهمة، ومنافسون يتكاثرون ولهم تأثير وحضور، وفوق ذلك رقابة شعبية ورسمية، وغضب هنا، ومساءلة هناك، ولن يرتاح شاغل هذا المنصب إلّا بالوضوح في النظام والعدالة في الإجراء، أو بالذهاب إلى بيته تاركًا الكرسي كثير الوخزات والمواجع لمن يتشجع للجلوس عليه بعده!

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الاحد 25 من شهرِ محرم عام 1442

13 من شهر سبتمبر عام 2020م 

 

Please follow and like us:

One Comment

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)