ناصر بن حمد الراشد: الرئيس المؤتمن
يبدو لي أن معالي الشيخ د.صالح بن عبدالله بن حميد قد تسامى حين شرع في التقديم لهذا الكتاب بِرًا بالعلم وأهله، ومن ضمنهم صاحبي السماحة والده الشيخ القاضي، والشخصية المترجمة، وبينهما إلف ومحبة فيما أحسب، ولذلك نحت بأحرفه كلمة من طراز رفيع على غرار ما يلقيه باقتدار فوق منبر الحرم المكي الأقدس من متين العلم، وشريف اللفظ، وبديع المعنى.
أشار الشيخ ابن حميد في تقديمه إلى أن أجلّ أحوال التراجم هي أن ينبري الخاصة لتدوين سير من لازموهم في ميادين الحياة والعلم والعمل، ووصف المترجم له بأنه من رجالات الدولة الأفذاذ، إذ يتسم بالتوازن ورعاية المصالح، مع قوة ديانة وحسن إدارة. وأجزم أن لو دوّن كلّ قادر ذكرياته مع الشخصيات المؤثرة التي عاصرها، أو عن الأحداث التي عايشها؛ لحفظنا للأجيال التاريخ، والقدوة، والعبرة، وأصبحت هذه المؤلفات مادة أولية لمن رام دراسة العصر أو تحليله، والإفادة من صوابه واجتناب عثراته.
أما المؤلف الأستاذ عبدالعزيز بن محمد المشعل فضرب مثلًا في سمو الوفاء والنبل الذي لا يُرجى منه شيء في الدنيا؛ لأن الشخصية المترجمة راحلة عن الدنيا منذ زمن، وظهر سموه هذا في كتابه الصادر مؤخرًا بعنوان: ذو الرئاسات صاحب المعالي والسماحة الشيخ ناصر بن حمد الراشد (1340-1422)، تقديم معالي الشيخ د.صالح بن عبدالله بن حميد إمام المسجد الحرام وخطيبه والمستشار في الديوان الملكي، ويقع الكتاب في (191) صفحة على ورق صقيل، وتتوسط صورة صاحب المعالي في شيخوخته غلاف الكتاب الأمامي.
أهدى المؤلف كتابه لأسرة الشيخ ومحبيه، ورأى أنه يرد شيئًا من فضل سماحة الشيخ عليه، بعد أن مكث عشر سنوات مديرًا لمكتبه، وظلّ مديرًا أو مشرفاً على مكتب الرئيس العام لتعليم البنات مع جميع الرؤساء الخمسة الذين خلفوا معالي الشيخ الراشد، وربما تكون هذه الصفة فريدة إداريًا أو من النوادر، خاصة مع تفشي حمى التغيير السريع للعاملين بحجة أنهم محسوبون على الإدارة القديمة، وكم في مثل هذا الإجراء أحيانًا من هدم للخبرة المتراكمة، وشيء من الجناية والظلم والاستعجال.
وإذا أردنا الوقوف أمام شخصية مثل سماحة الشيخ ناصر بن حمد الراشد (1340-1422) فسنجد نموذجًا من العلماء، والقضاة، ورجال الدولة، والمديرين، وأهل الغيرة، وهو نمط نادر عزيز تزداد الحاجة إليه لعظم أثر العالم الصادق الناصح الأمين، الذي يحسن الإدارة، ويبدع في التواصل، ولا يخشى من التوازن مادام أنه يراعي المصالح ويحققها، وينصب في سبيل ذلك سواء بغرس الرجال، أو وضع الأنظمة والضوابط بما يضمن أكبر قدر من الخير والمحاسن، ويدفع نقيضهما حسب الوسع والطاقة.
ويُعدُّ معالي الشيخ الرئيس المؤسس الفعلي لمنظومة تعليم البنات في المملكة، مع أنه الثاني في الترتيب؛ بيد أن سابقه لم يطل المكوث. وحظي الراشد بالثقة والعون من الملك فيصل وسماحة الشيخ محمد بن إبراهيم، وحمل هذا العبء الثقيل الذي ألقي عليه خلال سبعة عشر عامًا (1381-1397) فكان أهلًا للحمل والأداء، ومن شدة هذا التكليف رآه -طبقًا لما في كتاب “حكايات رجال” تأليف د.زياد الدريس– أصعب من رئاسة ديوان المظالم، مع أن العمل في الأروقة العدلية بين الخصوم والمتنازعين أمر مرهق يغضب نصف الأطراف المعنية على الأقل.
لكن الشيخ كان يواجه آراءً مجتمعية متباينة تجاه مدارس البنات؛ ففهم تلك الآراء ومسوغاتها، وأجاد في التعامل معها وطمأنة الخائفين، ولم يُحفظ عن الشيخ المكين الأمين كلمة تندر واحدة تجاه سلوك الناس الطبيعي في عادات كثير من الشعوب والأمم، مع أنه عانى من آثاره، ولنا أن نقارن موقفه السامي مع بعض المتفكهين وهم على الآرائك يتغامزون دونما إنجاز!
كما كان للشيخ نظرات بصيرة حصيفة، منها سعيه لتخفيف المناهج حتى تكون مفيدة غير معيقة، واجتهاده في افتتاح كلية للبنات في الرياض وجدة، وصارت الأولى نواة لحلمه في إنشاء جامعة للبنات. وتجاوب مع طلبات عامة الناس وخاصتهم، مبتغيًا نشر التعليم فأبعد من حامت حوله الشكوك أو تتابعت عليه الشكاوى، وخصص حافلة تنقل بنات رجل واحد، وتعيدهن من البيت إلى المدرسة وبالعكس لأن عددهن اثنتان وعشرون، وهذا الإجراء يسّر عليهن ابتداء التعليم وإكماله في سنوات نشأته الأولى.
وواجه الشكوك المسيئة بثبات، وأوفد للقرى والمدن أهل الحكمة والكياسة من الرجال، وبعضهم صار وزيرًا فيما بعد، وله سبق في بناء المجمعات التعليمية، وشراء الأراضي بأسماء أفراد تجنبًا لجشع التجار لو علموا أنها للحكومة، وفي مقترحاته وآرائه أبعاد مستقبلية تجاوز بها معاصريه والآفاق الرائجة آنذاك؛ واجتهاده هذا منبعه النصح، ومعرفة المآلات التي ستأتي في يوم ما ولا محالة.
ثمّ قرأت في سيرة الشيخ محمد بن إبراهيم الخضير وهو من قدماء رجال التعليم أنه أبرق للملك فيصل طالبًا أن تؤول مسؤولية مدارسه الخاصة إلى الحكومة؛ لأنه عجز عن مصاريفها، فزاره الشيخ ناصر بنفسه، وتجول داخل المدارس، وناقشه عن طريقة التعليم والتعاقد والأنشطة، وحين فهم المشكلة قرر أن تبقى المدارس تحت ملكية مؤسسها، على أن تتحمل الحكومة قدرًا من رواتب المعلمات وإيجار المباني، وكانت غاية الشيخ تنشيط القطاع الأهلي في التعليم، وإيجاد منافسة بين القطاعين، والحفاظ على المشروع الطموح من الزوال، ومن فضل الله ثمّ من حسن نية الرجلين الكبيرين -فيما أعتقد- أن بقيت المدارس، وتعاظمت، وهاهي اليوم شامخة في التعليم، والوقف، وسوق الأسهم.
ولم يحجز الشيخ نفسه في مكتبه ويستعين بجيش من الموظفين، بل حرص على متابعة بعض الموضوعات بنفسه، والوقوف على المشروعات ليراها بعينيه، ويقابل بعض المرشحين ليبرئ ذمته، وينتقي طواقمه من المناسبين المؤهلين السالمين من المكدرات. ومن عجيب شأنه ممارسته الاحتساب على الشباب الذين يتسكعون عند مدارس البنات، وكم من مرة ومرة أنقذ الله على يديه فتاة بريئة من براثن شاب غليظ أسكرها بوهم الحب وكلماته وأشعاره، ولو علمت المسكينة معنى الحب الذي يقصده؛ لهربت منه فرار الوجل من الأسد المفترس أومن الذئب الضاري.
كذلك من مزايا الشيخ عنايته بالعلم الشرعي، واللغوي، والبلداني، وعلاقته الوثيقة بالكتاب حتى صورت لنا رواية ابنته فلوة الكتب المرصوصة على منضدة بجوار سريره، وأثبت المؤلف بعض تعليقات الشيخ العلمية في مجالات عدة، وأشار لبعض ما نشر منها، ومما يؤكد مكانته اختياره ضمن علماء راسخين لعضوية هيئة كبار العلماء في المملكة، وإيكال رئاسة شؤون الحرمين حال تأسيسها إليه، وترشيحه للمشاركة في جهود الوساطة لإيقاف الحروب المستعرة بين بلاد مسلمة.
أيضًا للشيخ تفاعلات طريفة وراقية مع الطلبات والمشكلات الإدارية، فحين طلب بعض الموظفين الموافقة على شراء دفايات وقع على الطلب كاتبًا: المربعانية انتهت! وعندما ألحت إدارة على مطلوبها أكثر من مرة جاء تعليقه المضطر بقوله: لابد من صنعاء وإن طال السفر! وأُهدي إليه ذئب حي اصطاده أحد محبيه؛ فرأى أن الجامعة في الرياض، أحقّ منه بهذا الحيوان لأبحاثها ودراساتها، فوهبه لهم وكانوا له من الشاكرين.
ومن المواقف التي تصف الرقي والتجرد، أنه وجه كتاب لوم لأحد كبار موظفيه في منطقة ما، ولما راجعه الموظف وأبان له وجه الحقيقة سحب كتاب اللوم وليس هذا فقط، بل استبدله بكتاب شكر وتقدير منتصرًا على عزة النفس التي تحجز بعض الأكابر عن المكارم. وأرسل موظفيه في رحلات خارجية لأمريكا وغيرها للاطلاع على التجارب التعليمية، ولم يحل دون حصول طاقمه الإداري على فرص تدريبية محلية ودولية، ومن تأهل منهم مُنح السلطة مع مسؤوليتها، وهكذا يُصنع الرجال.
كذلك من فرائد سماحة الشيخ التي تستحق الوقوف عندها، أنه ترأس جهاز تعليم البنات دون مثال عالمي أو إقليمي سابق، وحرص على نشر التجربة أمام وفود اليونسكو والدول الأوروبية وغيرهما. ومنها أنه صار أول رئيس لرئاسة شؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي، وعاصر فتنة احتلال الحرم الشريف غرة المحرم عام (1400). وربما يضاف إلى فرائده أنه عمل في التعليم، والدعوة، والحسبة، والفتيا، والقضاء، والمظالم، وعضوية اللجان الإدارية والعلمية العليا، فكان مباركًا نافعًا.
وعلى الصعيد الشخصي فللشيخ أربعة أولاد، وست بنات جميعهن حاصلات على درجة الدكتوراه، وهنّ من ثمار جهوده التعليمية المبكرة، وقد حثّ المتزوجات منهن وهنّ طالبات في المرحلة الثانوية على مواصلة الدراسة، ولعل الله أكرمه بتميزهن وتفوقهن لقاء حدبه على تعليم المرأة المسلمة وحياطتها، حتى وصفه د.زياد الدريس بأنه ناصر المرأة الراشد، وماعند الله خير وأبقى.
ومن خاصة أمره عنايته ببلدته حريملاء وإسهامه ماليًا ومعنويًا لافتتاح مدرسة للبنين فيها عام (1369)، وتكرار المطالبة بفتحها. وغيرته على اللغة العربية، وعنايته بتجويد الخط وجماله، والتفاته لمهارات الكتابة مقترحًا على الأديب الكبير الأستاذ عبدالعزيز الرفاعي طباعة كتاب عنها يفيد الشداة والناشئة فمن فوقهم، وفي هذا دليل على صواب تقديره، ودقة تصوره لخطر الكتابة ورفعة شأنها.
إن رجلًا هذا شأنه ليس غريبًا أن تثبت له المحبة في القلوب حتى عند مخالفيه الذين وجدوا منه صدق الموقف دون مراعاة لمكانتهم المجتمعية، وقربهم من صناعة القرار، ومع المحبة يكاد يجمع غالب الناس على براعته الإدارية، وكفايته وأمانته، وأهليته للمسؤولية، حتى نال التقدير من أكابر علماء البلد، ووزرائه، وأمرائه، سواء على صعيد الزيارات الخاصة والتشاور المستمر، أو حين رقد على فراش المرض، أو بعد أن سُجي على نعش الموتى، ولا يضيع العرف عند الله والناس.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الخميس 22 من شهرِ محرم عام 1442
10 من شهر سبتمبر عام 2020م
One Comment
رحمهم الله جميعاً.. رجال مخلصون لدينهم ووطنهم..