العيد الأصيل يتألق
يجزم فئام من ذواقة الشاي الذين تركوا شربه بعد إضافة السكر إليه أنهم وجدوا الطعم الحقيقي لمشروبهم المفضل واكتشفوه طبيعته الأساسية بعيدًا عن المحسنات التي سيطرت على لذة الطعم الأصيل حتى أخفته، ولذلك أصبحوا لا يستسيغون شربه بمضافات تغيّر طعمه أو رائحته أو لونه، وهو رأي لا يوافقهم عليه جمع ممن لا يستطعمون الشاي بغير الزيادات تلك، والأمر واسع، فالشاي لذيذ عريق بحد ذاته، وربما تزداد لذاذته إذا كانت الإضافة إليه مناسبة وبمقدار.
أسوق هذا المثال بعد أن قُضي الأمر، إذ سيكون عيد الفطر المبارك عام (1441) مختلفًا عما سبقه من أعياد بسبب الاحترازات الاحتياطية الوقائية من جائحة كورونا، فهو عيد غير مسبوق عند عامة الناس بما فيه من انقطاع عن الاجتماعات، والاحتفالات، وصنوف الملابس والمطاعم، وغيرها من مظاهر الفرح التي لا بأس بها في أصلها المباح، بل هي مطلوبة لأن عيدنا يوم فرح وجوائز وسعادة.
لأجل ذلك يناسب أن نعود إلى أصل العيد لعلنا نمسك بمعناه الباسق، ونسترجع حكمته الشرعية، فنفهم المراد من هذا اليوم الجميل، يوم الزينة والبسمة، ومظهر القوة والاستعلاء، وموسم الاجتماع والفرحة، وموئل اللُحمة والرحمة، عسى أن نقتبس من هذه المفاهيم في عيدنا السعيد ولو كانت الأحوال غير معتادة، فإن أساس العيد أن تفرح القلوب بإتمام طاعة الله، وإكمال شهر الصيام، وتملأ البهجة الوجوه، ويعلو التكبير وذكر الله مرضاة لمولانا، فالله أكبر كبيرًا، وما سواه فصغير مهما تشامخ.
كما أن هذا اليوم الشرعي العظيم موسم تعبدي تطيع فيه أمة الإسلام ربها، وتتبع سنة نبيها، وهو نموذج شرعي جدير بالمسلمين أن يحموه من محاولات التحطيم أو التشويه، وأن يستغنوا به عن شهود الزور وأعياد التلبيس والبهتان حتى تنكسر في نفوسهم قوالب ثبتت في أركان الحياة بقوة أهلها وهي ليست من شأننا، فمن سمو عيدنا أن معانيه تحضر معه كل مرّة حضورًا حقيقيًا، فهي ليست مثل غيرها مجرد ذكرى قد زال أصلها وبقيت منها أطلال بحسب ما يقع في النفوس من وفاء وتقدير.
كذلك تفيدنا هذه النازلة الجديدة على موسم العيد بأهمية الأسرة، والعائلة، والوطن، ففي أزمنة سابقة كان العيد فرصة عند البعض للسفر والابتعاد عن الأهل والمرابع، مع أن سمة العيد التقارب والتزاور والالتصاق بالمكان إنسانًا وثقافة وموضعًا، وترك الصوارف التي يمكن تأجيلها دون ضرر، ولعلّ هذا الدرس الإجباري أن يوقفنا على طعم العيد والسرور بجوار شركاء الدم والمكان والنسب، وعسى أن تصير أعيادنا مناسبة نلم فيه شعثنا المتفرق في أطراف الدنيا وشؤون الحياة.
بينما تفرض قلة الحركة أيام العيد الإفادة القصوى من وسائل التواصل حديثها وقديمها، لأداء واجب، أو تجديد عهد، أو نسيان ماض، أو صفح وعفو عما كان كيفما كان، أو ابتداء صفحة نقية، فما يدري الناس عن الغيب وتقلباته، ومن الخير لنا جميعًا أن نغمس قلوبنا في نهر العفو، ونسكب على ألسنتنا أجود أنواع العسل؛ فالكلمة الطيبة لا تضر، ولا تكلف شيئًا، وهي منة من رب العالمين على جميع ساكني الجنة، ومن الهناء أن نحوز نصيبًا منها في الدنيا، وفي العيد الذي يشبه الجنة سانحة لاكتسابها لما ينبعث في النفوس من صفاء، وفي الأذهان من نقاء.
وفي هذا العيد الجديد مزية حين ندرك أثر المعنى من العيد، فالعيش بحياة ذات معنى تحول دون القنوط واليأس، وأعظم معانيه أن نفرح بالإسلام فنرضى بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد -صلى الله عليه وسلم- نبيًا ورسولًا، ثمّ الفرحة بعد صحة الدين وتصحيح المفاهيم بالأمن في الديار والأوطان، وبالسلامة في الأبدان، ومنها فرحة تلو فرحة بدفء الأسرة، وعناية القرابة، وترابط الجيران، والتئام الشمل، وعسى أن تستدعي هذه الأفراح أخواتها، فنحيا بفرح يغمر القلوب، ويظهر على الوجوه، وتلهج بحمد الله عليه الألسنة والجوارح الطائعة.
أيضًا يتجلى سمو العيد في نشر مشاعر الأنس عند الكافة دون استثناء، فإذا شئت قياس فرحة أيّ مجتمع بأعياده فانظر إليه في بهجة الطفل، وأنس الوحيد، وانشراح الكبير، وغنى الفقير، ونشاط العاجز، وتكاتف الكتل والجموع، واندماج الغريب، والتغاضي مع شيوع التغافر، فإن المعاني القلبية أعظم في ديننا مما يظهر على الجوارح، وهي الباعث الصادق لما يبدو من المرء، فإن معاني العيد داخل النفوس تجعل مظاهره الجليّة عامة عند الضعيف، والصغير، والفقير، والغريب، والنائي، وكل ذي كسر يجبره العيد، فقيم العيد أسمى من قيمة العيدية، وأنفس من ثمن الملابس والحلوى والألعاب.
هذه معاني مشتركة يقدر عليها العامة غالبًا، وتصنع من عيدنا عاملًا مؤثرًا يعيدنا لأصولنا المعتبرة، وقيمنا النبيلة، وأصالتنا التي نفاخر بها، بيد أن الكبير في مقداره وقدراته ينتظر منه أن يكون كبيرًا في آثاره وبركاته، ولربما أن الله يلهم كبراء المجتمعات بجعل فرحة من دونهم مضاعفة، بخير يعم، وشر يزول، وغائب يعود، وأزمة تنفرج، واطمئنان يسود، وغيرها مما يفتح الله به على من يستطيع من آباء، وكبار الأسر، وشيوخ القبائل، وأثرياء المجتمعات، ووجهاء المدن، وزعماء الدول، ومن نظر بعين الرحمة أو الحكمة فلن يسعه إلّا أن يفعل، ليكون العيد عيدين أو عيد الأعياد جميعها.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الخميس 28 من شهرِ رمضان المبارك عام 1441
21 من شهر مايو عام 2020م
5 Comments
عيدكم مبارك وعساكم من العوادة
تهنة من القلب لكل لكل القراء ولكافة المسلمين في ارجاء العالم . سائلة العلي القدير ان يرفع الغمة مال فايروس كورونا عاجلا غير اجلا . ولنتفائل جميعا . لاان مع كل محنة منحة . وان مع العسر يسرا . الله العزيز القدير وحده القادر على ذلك ودمتم برعاية الله وحفظه
كم هي رائعة تلك الأحرف فلك منا الشكر أستاذنا أحمد ..
عيدكم مبارك تقبل الله منا ومنكم صالح الاعمال . وينعاد علينا وعليكم وعلى جميع المسلمين بالخير والسلامة
وعيدكم مبارك سعيد ميمون.
عيدكم مبارك للكاتب احمد وللقراء الكرام .تقبل الله منكم ومنا صالح الاعمال . وينعاد عليكم وعلينا وعلى جميع المسلمين اينما كانوا بالخير والسلامة والرخاء . اللهم احفظ بلاد الحرمين حكاما وشعبا . وزدها امنا واستقرارا ورخاءا . بلاد قبلة المسلمين التي نتوجه اليها في صلاتنا اينما كنا