صالح كامل: القمر الذي غاب!
همس في أذني أثناء حضوره مجلسنا الأسبوعي قائلًا برفق: كنت وزملاء البعثة في دوريتنا العتيقة نتداول مقالك الحديث عن شخصية عامة راحلة؛ فذكر أحدهم بصيغة الاعتراض: ليس في مقالة فلان نقد للشخصية أو إبراز لسلبياتها! فأخبرت الجليس العزيز أن ما أكتبه ليس ترجمة كاملة، وإنما أركز على الجوانب الحسنة التي تفيد من أراد الاقتداء، وتعزز الثقة بخيرية المجتمع، وأما المآخذ التي لا يسلم منها أحد فيمكن طرقها في سياق آخر؛ لأن الاستقصاء غير مراد هنا.
تذكرت هذا الحوار القصير وأنا أكتب عن الشيخ صالح بن عبدالله كامل (1360-1441) الذي توفي بالأمس، وصلي عليه ظهر اليوم الثلاثاء في المسجد الحرام بمكة. وفي التاريخ شخصيات يتنازع فيها الناس فيضعهم البعض في مرتبة القداسة ويرفعهم إلى أطراف السماء، بينما يهبط بهم آخرون إلى قعر الأرض ليحشرهم حيث صنفهم، ولعلّ ذلك ألّا يضير الراحل شيئًا إذا كان محسنًا مقبولًا عند الله، فضمن هذه القائمة التاريخية التي لن تغلق أسماء عظماء يجزم المعتدلون ببراءتهم من ظنّ الفريقين وغلوائهم مدحًا وقدحًا، حتى وإن وافقوهم على بعضها.
كان الشاب صالح كامل ذا وعي تجاري ورثه عن أسرته المكية وعن منافع موسم الحج الميمون، وقرأت في غير ما سيرة سعودية أنه استثمر دراسته الجامعية في بيع المذكرات للطلاب علمًا أنه من أوائل الدارسين في جامعة الملك سعود، وفي مرحلة لاحقة استثمر فرصًا في البريد وغيره، وبعد أن أثرى صار الشيخ كامل منقذًا لأيّ مشروع يفشل تجاريًا، حتى قيل بأن الشيخين صالح الراجحي وصالح كامل يجلبان معهما الأرباح للأعمال التي يشاركان فيها ولو ضربا بسهم واحد فيها فقط، ومع براعته التجارية إلّا أنه ألزم مركزًا طبيًا كبيرًا كان تحت ملكه ألّا يرهق المرضى بمصاريف إجراءات طبية لا داعي لها؛ ليقفل الطريق على المتاجرة بالمرض، والتلاعب بالمريض وأمواله وصحته.
ويبدو أن هذا الوعي المالي تصاعد معه حتى صار مع آخرين على رأس الصامدين في خندق حرب الربا من خلال المصرفية التي تقترب من المنهج الشرعي، وأيّ شيء أعظم من مقاومة هذا المنكر الصريح الذي فيه محادة لله وحرب معلنة عليه، وتسانده دول كثيرة، وتعيق ما سواه أنظمة رسمية معمول بها! وإذا كُتب عن تاريخ الاقتصاد وفق هذه النظرة فسيكون الشيخ صالح أحد أوائل أعلامه وخبرائه بل وفرسانه أهل الإقدام النظري والعملي.
لأجل ذلك أسس معهد الاقتصاد الإسلامي بجامعة الملك عبدالعزيز بجدة ودعم بناءه بأربعين مليون ريال، وأنشأ مركزًا مماثلًا في جامعة الأزهر، وله كرسي في جامعة اليرموك يُعنى بالدراسات الاقتصادية، وفتح فروعًا لمجموعة البركة المصرفية في عشرات الدول، وعقد ندوة البركة للاقتصاد الإسلامي دون انقطاع منذ أربعين عامًا، ويجزم الذين شاركوا معه في العمل أو الندوات أن الرجل يحمل همّ نجاح هذه المصرفية، ومسكون بتنقية الاقتصاد من وباء الربا، ولذلك فبعدما دخل شريكًا رئيسيًا في بنك الجزيرة عام (1997م) أسهم بصورة مباشرة في تحويله للمصرفية الإسلامية فصار أول بنك في العالم يتحول إليها من المصرفية التقليدية.
كما قاده هذا الوعي إلى بصيرة نافذة في أهمية الوقف والعمل الخيري فغدا من المشاركين في هذا المجال الرحب علميًا وعمليًا، وله أوقاف ضخمة، أشهرها وقف اقرأ للإنماء والتشغيل الذي تتجاوز قيمته مليار ريال، وذكر الاقتصادي د.عبدالرحمن الزامل أنه أوقف ثلث ماله قبل سنوات قليلة، وتحفظ عنه أعمال خيرية فردية ومجتمعية ومؤسسية، محلية وإقليمية ودولية، وأسهم في هذه الحقول قبل أن تصبح رافدًا مهمًا في كثير من البلاد، وإن شرف الابتداء، وفضيلة الثبات، وصعوبة التأسيس، وقيمة العمل زمن غربة الشيء لمنقبة عظيمة لمن تدبر وأنصف.
ولم يغفل الشيخ الراحل عن أمته الإسلامية العريضة، فسعى لتعظيم التجارة البينية فيها، وترأس غرفة التجارة الإسلامية، ومجالس تجارية ومصرفية وزراعية، ولو وجد هذا المشروع عناية أعظم من رجال الأعمال، والاقتصاديين، والدول، لأصبحت الكتلة الإسلامية أقوى مما هي عليه الآن، وعسى أن ينجح الاقتصاد فيما فشلت فيه السياسة والرياضة، وهو نجاح مضمون إذا وجد أدنى حد من النوايا السليمة، وأقل قدر من الاستقلالية عن الأفلاك غربيها وشرقيها.
بينما نال الإعلام من اهتمامه سواء بالوقف عليه، أو إنشاء قناة اقرأ الشهيرة، والإسهام مع عدة صحف، وله صلات إعلامية كبيرة مع عدد ليس بالقليل من أقطاب الإعلام على تباين وجهاتهم وبلدانهم، ولربما أنه أراد تقديم مثال إعلامي مرئي يقترب من النقاء ويفيد المشاهدين مع إمتاعهم في زمن يفيض فضاؤه المرئي بالموبقات التي لا تخفى على مثله.
أيضًا له عناية فائقة بالتعليم والبحث العلمي، والتكفل بمصاريف الطلاب الدراسية، ومساندة الدعوة الإسلامية، وبناء المساجد، ومحاربة الإلحاد، وإغاثة المسلمين، وعلاجهم، ونجدتهم، ونصرة الأقليات، وبناء المراكز العلمية، ومساندة الأنشطة المباركة حتى وهو في الطائرة كما فعل مع المركز الإسلامي الأفريقي حين تبرع له بمبنى جميل جاهز كان مخصصًا لأحد أعماله التجارية، ثمّ تحول هذا المركز إلى جامعة أفريقيا العالمية، وظلّ يؤازرها ماديًا باستمرار كما يروي الشيخ د.إبراهيم أبو عباة، وهو شاهد عيان على هذه القصة كاملة.
ثمّ إنّ ما كتبه في شرط وقفه المبكر بهذا الخصوص واضح جدًا، ويصلح أن يكون من النماذج التي يحسن بذوي الأوقاف الالتفات إليها في توسيع مصارف الوقف، وتنويعها، وتعميمها، مع الحرص على أن تكون وفق الكتاب والسنة منطوقًا ومفهومًا، والله يوفق الأثرياء حتى يصبحوا من أسمح الناس وأجودهم وأسرعهم للخير والعطاء، فالعطاء لذة، والاكتناز غم وداء.
ويروى عنه التشبث بمشاريع نظافة الحرمين، فخدمة الأماكن المقدسة شرف يتسابق له أصحاب القلوب السليمة أو التي فيها بقية من فطرة، وفي ذلك اعتزاز بما تعبر عنه هذه البقاع الطاهرة من دين خاتم، ودعوة عالمية، وجناب رفيع كريم صدع بدعوة الله في أرجائها، وجاهد لأجل إبلاغها، فأيّ خير يناله من شارك في هذه الفضائل ولو بأقل القليل، فكيف إذا كانت المشاركة في كثير غير مستكثر أو منغص بالمنة والأذى؟
بينما وصفه عارفوه بأنه ذو قلب يحمل هم تغيير الأمة الإسلامية، وإعادة بعث حضارتها، لقيادة الأمم كما في سالف أيامها المجيدة بعد أن عانت قرونًا من التخلف والتبعية، وقد اجتهد الرجل فأصاب حتى صار من أئمة بعض المفاصل الحياتية المهمة، وكل عامل سيخطئ ولابد، وإنما الشأن المطلوب من ذوي القدرة بعلم أو سلطان أو مال أو قوة مهما خاضوا وخلطوا أن يقدموا لآخرتهم شيئًا، ويصنعوا لأمتهم فرقًا، فما يدري أحد عما يبقى من أثره، ولا يعلم الإنسان أيّ صنيع له عند الله يُقبل وينمى.
ثمّ ابتلي الشيخ في أواخر عمره بنازلة عصيبة، وتمحيص شديد، وعسى أن تحسب له من المكفرات ورفعة الدرجات، وأن تكون خاتمته حسنة إذ أنّ صلاة التراويح في يوم الاثنين الخامس والعشرين من شهر رمضان المبارك عام (1441) هي آخر عهد الرجل-رحمه الله- بالدنيا، حيث حان أجله وهو يؤديها إمامًا، ثمّ أعلنت وفاته من أحد مستشفيات جدة بعد سويعات من نقله إليه، وهو الآن بين يدي العليم العزيز الرحيم الكريم، ونسأله أن يتقبل منه أحسن الذي عمل، ويتجاوز عن سيئاته، وأن يلهم ورثته تعظيم آثاره المباركة وزيادتها والحفاظ عليها، وطمس ما سواها.
ولربما أن أمثال جليسي الأول وأصحابه يتبادر إلى أذهانهم مواقف، وأقوال، وأعمال، تعدّ من المآخذ؛ بيد أني سأظلّ على طريقتي، ولا أزكي على الله أحدًا، ولا أدعي براءة إنسان أو إدانته، فلن ينجو بشر من الخطأ، ومن لاحظ الخير والشر فعليه ألّا يكتفي بالنقد والمعرفة، بل يتحتم عليه أن يلزم الصراط المستقيم ويلتزم به قدر المستطاع مع استقبالنا لهذه الليلة الشريفة، حتى يلقى الله ثابتًا عليه، ومع ذلك فمهما بلغ حرصنا وجهدنا فلن يوجد في الناس صالح كامل!
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الثلاثاء 26 من شهرِ رمضان المبارك عام 1441
19 من شهر مايو عام 2020م
3 Comments
عندما تموت شخصية مثيرة في المجتمع أو على الأقل حصل عليها استقطاب، مباشرة يسترحع المستقطبون ذاكرتهم ناسين دراسة الشخصية كاملة.
مباشرة أتاني هذا الخاطر بعد سماعي لخبر وفاة صالح كامل رحمه الله، ولم يستقر ذهني على جادة حتى قرأت هذا المقال.
بعد أن أنهيت المقال المنتهي بعبارة (مهما بلغ حرصنا وجهدنا فلن يوجد في الناس صالح كامل)
أيقنت اني اتلقى درسا ولست أقرأ مقالا……
شكرا أباعبدالمحسن
بسم الله الرحمن الرحيم
قرأت موضوعك عن صالح كامل يرحمه الله كان أول موضوع أقرأه لك وانجذبت نفسي جذبا للاستمرار بالقراة ، لقد أعجبني اسلوب الطرح
والتعابير.
رحم الله صالح كامل وأسكنه فسيح جناته،
ولعلها تكون من إحدى حسناته إن شاء الله إن اتعرف على مدونتك وأقول لك (إن احسنتم احسنتم لانفسكم).
رعاكم الله د.أحمد، وحياكم الله دوما قارئًا ومفيدا.