رمضان الخالد معنا
هل سبق أن زارك في مجلسك ضيف كثير البركة، غزير الفائدة، عظيم الأثر، ثمّ انفتل قائمًا للمغادرة وأنت تحاول تثبيطه وإطالة مدة جلوسه، وربما تمسك بأهداب ثيابه وأطراف يديه برفق حتى لا يذهب، وإذا أصر على الانصراف عزمت عليه أن يكرر العودة لتأنس برؤيته، وتسعد بأحاديثه، وتقتبس من بهائه، فلا تتركه حتى تظفر منه بالوعود الأكيدة على المجيء ثانية؟
هكذا حال الموفق مع رمضان، ورمضان لا يعود خلال العام إلّا مرة واحدة مهما حرصنا، ومع ذلك فيمكننا أن نمسك برمضان، ونستمسك بمعانيه العظام، ، ونمسِك عن الآثام، فالقبض على آثار رمضان ليس أمرًا مستحيلًا أو عسيرًا للغاية، ومن وجد اللذة المعنوية، وسرت في كيانه المعنوي والمادي، فلن يدخر وسعه في استبقائها؛ فهي خير زاد، وأحسن وسيلة للنشاط، ومدافعة غصص الحياة وأكدارها.
فحين تقضي وقتًا مع القرآن الكريم تتلوه، وتتدبره، وتقف مع معانيه ومراميه، وتشعر بهيبة خطاب الرب الكبير لك ولعباده، ثمّ تبتهج بختمته مرة أو أزيد، فما الذي يحول بينك وبين النظر الدائم في المصحف، حتى تجلو عينيك، وتهذب روحك، وتصلح قلبك؟ والأمر يسير إما بتخصيص وقت يومي ثابت، أو التبكير للصلوات المفروضة، أو إطالة القيام، أو الانتظام مع حلقة قرآنية، ومن وجد نعيم الجنة فكيف يخرج منها؟
ومما يتقاطع مع الكتاب العزيز صف القدمين للقيام بين يدي رب العالمين، والسعيد من خرج من شهره بالمحافظة على قيام الليل ولو بأقل عدد من الركعات، ولا يستغني إنسان عن مولاه البتة، وما أعز الخلوة به سبحانه، ومناجاته، وسؤاله، وخيرها أثرًا ما سلم من التكلف والتفاصح، فربنا الرحيم السميع يحب أن نطلبه، ونشكو إليه، ونسأله كلّ شيء، ويا خسارة من فوّت على نفسه هذه الفرصة وهي لا تكلفه شيئًا، وإنما هي ركعة أو أكثر بعد صلاة العشاء أو قبل النوم، وفيها راحة البوح، وسعادة القرب، وفرحة النوال.
كما أن المرء خلال صومه يتسامى عن حب المال، وإيثار الأنانية البغيضة المفرطة، فيتصدق، ويطعم، ويخرج زكاة ماله، وزكاة فطره، وإن للعطاء طعم فريد يجده أهله ولو كان بشق تمرة، وأوسع الخلق حظًا من استدام فعل المعروف وإطعام الطعام لذوي الحاجة، ابتغاء وجه الله وطلبًا لمرضاته، وخوفًا من يوم عبوس قمطرير، وأتعس الخلق من اكتنز المال ولم ينفق منه لآخرته، وكان في متناول يده وطوع أمره صنع معروف، أو إجراء صدقة، أو إنجاز وقف.
أيضًا تغدو نفس الإنسان في هذا الشهر المبارك مقبلة على الخير، جافلة عن الشر، مرهفة السمع للنصيحة، قريبة الدمع، سهلة الانصياع للذكرى، سريعة للعفو، وهي مواقف قوة يقهر المسلم بها شيطانه وهواه، ويخضع للحق وهو أشرف خضوع، وجدير بالعاقل استصحاب هذه المعاني معه ولو خالفت هواه ومشتهياته، فيكفي أن الحق أبلج مريح للخاطر، والانصياع له طاعة لربنا وإن الإنسان لكادح فملاقيه، ومن الغبطة أن نلقاه بالرضا منه، والإخبات له ولشريعته.
لأجل ذلك كله، فحري بنا التلذذ بهذه المشاعر، والقبض عليها حتى لا تفلت من أيدينا، وأن نعزز انتصاراتنا الرمضانية على أخطر عدو لأبناء أبينا آدم عليه السلام، فالعاقل ينقذ نفسه من كيد الشياطين ويبتعد عن مسالكهم المردية، ومن فضل الله أن جعل لنا هذا الموسم البهي كي نبني فيه العوائد الحسنة، ونراكم أعمال الفلاح، ونعيد ترتيب أعمالنا وأولوياتنا، كي نوازن المعادلة بين الروح والجسد؛ فالجسد يبلى، والروح تبقى أرضية أو علوية سامية.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الإثنين 11 من شهرِ رمضان المبارك عام 1441
04 من شهر مايو عام 2020م
One Comment
ما اجمله من تعبير ووصف شهر رمضان بالضيف الكثير البركة . الغزير الفائدة . العظيم الاثر . شوقتنا له كثيرا . وانتظار مجيئه . ليدخل البهجة على قلوبنا . اللهم لا تحرمنا من صومه واجره وايداء ضيافته.وفقك الله لما يحبه ويرضاه . وجعل ماتكتب وتذكر في ميزان حسناتك وحسنات والديك