يوميّات كورونا!
في برامج التدريب على الكتابة تبرز “الفكرة” على أنها عقدة تحول دون انطلاق الراغبين في الدخول إلى بلاط عالم يجعل صاحبه ملكًا وربما عبدًا حسبما يختار، ومن أكثر الحلول التي تنكسر عندها هذه المعضلة وقد تتلاشى للأبد كتابة اليوميّات ولو لم يكن فيها حدث ذو بال، فجريان اليد بالكتابة كفيل بتدفق سيل من الكلمات الواضحة، والأفكار المترابطة، مع فضيلتي كسر الحواجز، وبناء العادة الجميلة.
وحين ابتلي العالم بوباء كورونا وردتني عدة اتصالات من أصدقاء فيها مقترحات كثيرة، فجمعتها ثمّ أضفت عليها، وقررت الكتابة عنها ونشرها بين الزملاء والزميلات الذين شاركوا معي في برامج طويلة أو قصيرة حول التدريب على الكتابة ولغيرهم، فلربما نهضت همة بعضهم لعمل يكون سببًا لتعمقه في مهارات التأليف والكتابة، وهو عالم فاتن حتى مع كثرة أشواكه، وما يحيط به من تفسيرات وظنون يُجانب كثير منها التوفيق والعدل.
فلو تفرغ كاتب ساعة يوميًا أو ساعتين لرصد جميع ما يخصّ هذا الوباء، وجمع المعلومات الموثقة عن كيفية بدايته واكتشافه، ومكان ظهوره، وطريقة انتشار خبره في العالم، وكيف تلقاه الناس والمسؤولون أول الأمر، ثمّ كيف تطور وإلى أين انتقل في المراحل التالية، مع حصر الأعداد الأولى للإصابات والوفيات ومكانها وسمات أصحابها العمرية والصحية، ومصير الطواقم الصحية التي واجهته قبل فك رموزه، والجهود المرهقة التي بذلتها وزارات الصحة حتى أصبحت سيادية تأمر وتنهى وتقترح فيُستجاب لها.
ثمّ يقيّد المتابع النشيط تطور وباء كوفيد(19) المذهل وكيف قلب العالم وأوقف حركة النقل، وأصاب الاقتصاد في مفاصله، وألغيت بسببه جمع وجماعات ومناسبات ومؤتمرات ومباريات وغيرها من المحافل التي يجتمع فيها الخلائق باختلاف الأسباب، وما كان عقب ذلك من حظر التجول بأنواعه الزماني والمكاني، الجزئي والكلي، مع استثناء أفراد وأنشطة، ويسجل مستوى الوعي الشعبي في التفاعل مع قرارات تحقيق المصلحة العامة، وعقابيل المخالفة وعقوباتها.
كما يلاحظ كاتبنا الموفق ماذا تغيّر عند الناس سواء في شؤونهم الاجتماعية، أو الاقتصادية، أو التعبدية، وكيف صارت البيوت ملاذًا، والأسر محضنًا، وما ترتب على ذلك من جلسات أسرية، وإقامة الصلوات داخل البيت، واسترجاع المطابخ المنزلية لقيمتها بعد أن هُجرت بسبب سيطرة الخروج والمطاعم، وكيف استعادت الألعاب القديمة رونقها، وصار للعمل أو الدراسة عن بعد تطبيقات واسعة دفعة واحدة، مما جعل شبكة الانترنت شقيقة للماء والكهرباء في الأهمية.
أيضًا سيكون للإشاعات والتوقعات مكان متميز من عمل “جبرتي” الكورونا، والإشاعات منها السياسي مثل توجيه التهمة للصين أو أمريكا أو غيرهما بنشر الوباء، ومنها التمويني والأمني والصحي وهي مجال رحب فالاختلاق والكذب أمر سهل على البطالين والمغرضين، أما التوقعات فعن نهاية الوباء والإجراءات المرتبطة به، ومصير الناس في مواسم الصيام والحج والأعياد والإجازات والأعراس، وهذا طبعًا غير التكهنات بشكل العالم وتكتلاته عقب انقشاع هذه الغمة، ولا تزال أحداث كورونا الحقيقية والمتخيلة ساخنة، والله يبردها ويعيذنا من غليانها.
ولا تكتمل الصورة دون الطرائف التي ترافقت مع الكورونا، والموافقات العجيبة والمفارقات الغريبة، ومنها البلاء الذي أوكل بمنطق رئيس وزراء بريطانيا حتى هاجمه الفيروس وجعله طريح الفراش والأسوأ محتمل، واستهانة الرئيس الأمريكي بالوباء ثمّ ما أصابه من هلع جعله يتحدث للعالم بلغة غير دبلوماسية، وتخلي الحلفاء عن بعضهم، فضلًا عن الطرف الاجتماعية بين الأزواج، وحول السمنة، وهلع التسوق، وإبداع كورونا ولود يتصاعد، والفراغ يزيد من أوراه.
بينما تفرض بعض المشاهد نفسها؛ إذ حطم الكورونا مفاهيم، وجلب الشك نحو مسلّمات، وأصبح مصير الاتحاد الأوروبي متأرجحًا، وسمع صوت الآذان والقرآن في بلاد كانت تحظره، وارتفعت النداءات المنطلقة من أصل ديني ليس عند المسلمين بل من النصارى والهندوس، ووقع بعض المفروضين على الثقافة في ورطة التعاطي مع موجة الانكشاف وسرعة التراجع عن الركائز الإلحادية والعلمانية في الغرب، وما أعظم تقدير الله ومكره بأهل الشقاق والنفاق؛ حتى لكأنهم يتخبطون في جدر متلاحقة دون أن يجدوا مخرجًا آمنًا.
والله وحده يعلم كيف ومتى سينتهي، وكم ستبلغ خسائره من البشر والأموال، وماذا أنجز الناس إبان الحظر، وأيّ شيء سيصنعونه عقب خروجهم من محاجرهم، وماهي طريقة عودة العالم للحياة بعد ارتفاع البلاء، وهل ستبقى معهم التغييرات الإيجابية، إلى أشياء ووقائع كثيرة ستلفت نظر كاتبنا فيحفظ بقلمه الأمين، وعلمه المنهجي، وتحليله المنطقي، حكاية فجائية غريبة ربما يأتي بعدنا أجيال يتساءلون عنها، ويكون الجواب اليقين في أوعية منها ما سطره قلم هذا الكاتب البصير.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
ليلة الثلاثاء 14 من شهرِ شعبان عام 1441
07 من شهر إبريل عام 2020م