كذبة أبريل!
الكذب خلة قبيحة تسقي باب كلّ شر، ولذا فهو بريد الكفر، وعلامة النفاق، والمعين على الآثام والنقائص والمظالم، وتختلف دوافعه من كذب على المخالفين والمنافسين، إلى البحث عن إرضاء الآخرين، أو لغايات الإضحاك والمزاح، أو لأغراض الترويج السياسي والإعلامي والاقتصادي، أو لدفع الضرر والمساءلة، وهو حرام شرعًا إلّا في أحوال محددة مقدرة لا يجوز التوسع فيها، وفي المعاريض مندوحة للمضطر عن الكذب.
ومن أشنع صوره شهادة الزور، والافتراء، والمبالغة خاصة في المدح أو الذم، ومنها إخفاء المرض المعدي، أو ادعاء حظوظ النفس وحظوتها كما تفعل الضرائر وزملاء العمل والتخصص الواحد، ومن أكثره لؤمًا إيقاع الآخرين في ورطات ومقالب، وهو غدر قبيح، وسبب لسقوط المروءة في الدنيا، والحرمان من الكلام مع الله يوم القيامة.
كما أن الكذب طبقًا لما صح في الحديث الشريف يهدي إلى الفجور والآثام، وقد تركه أقوام تعبدًا لله، ثمّ أنفة من وضاعة هذا الفعل وحقارة أهله، بينما يقول بعض مفكري الغرب: تصبح الحياة مخيفة إذا درج الجميع على قول الحقيقة! وأصبح الكذب السلوى الوحيدة في حياة امرأة ارستقراطية أزعجت مجتمعها بأنواع البهتان اليومي الممتع لها! ويكشف لنا ذلك المفاهيم العريقة المرتبطة بالقيم الثابتة من المفاهيم المصلحية والزائفة.
بينما ذمه ولا يزال أعلام كثر لأنه يشين المرء، وينقص بهاءه، وفيه أنانية ونفاق وجرأة على الله، ومن العجيب أن الكذوب يبحث عن تصديق الناس له باختلاق الأكاذيب ولو صدق لكان خيرًا له وأكرم، وحبل الكذب قصير وشأنه مفضوح دومًا، بيد أن كذبة المنبر بلقاء مشهورة كما قال زياد بن أبيه، فاللهم اجرنا من الكذب مزحه وجده، سره وعلانيته.
أما كذبة أبريل التي انتجتها حضارة الغرب ونشرتها فيسمونها هي أو الواقعة عليه: ضحية، مغفل، سمكة، نكتة، ويعود ارتباطها مع أبريل لأنه أول يوم في موسم الصيد والإخفاق فيه وارد بنسبة كبيرة؛ ولذا جعلوا الإخفاق عامًا في الهدايا والمواعيد، وهو ملمح فيه أنانية ومقصد لئيم في تعميم الفشل، وقيل بأنها تهكم بالمحاكمة الظالمة للمسيح في مستهل أبريل، وهناك من يفسرها بأن الغرب يحتفلون بالربيع في الأسبوع الأخير من مارس ثمّ يختمونه بالكذبة، وما أخس حضارة تعبر عن فرحها بالكذب والخداع.
لكن الرأي الراجح فيها أن الملك شارل التاسع أعلن عام (1564م) بأن السنة ستبدأ من أول يناير بدلًا من أول أبريل، فنال بداية يناير خصائص بداية أبريل بما فيها الهدايا والزيارات، بيد أن فريقًا من المحافظين نقموا على هذا الإجراء وتمسكوا بالتقويم القديم، فاتخذهم أنصار التقويم الجديد مادة للسخرية في أول أبريل بإرسال هدايا كاذبة وأخبار ملفقة ليتضاحكوا بهم، والشيء بالشيء يذكر فالتقويم الميلادي فيه أعاجيب وترقيعات مع أن بعض الناس يتباهى بمعرفته واستخدامه ويمنحه موثوقية صارمة، في مقابل استخفافه بالتقويم القمري الهجري المرتبط بحضارته، وهو صنيع فيه مزيج من هزيمة داخلية ونقص معرفي وما أقبحهما اجتمعا أو تفرقا!
وربما يربط البعض هذه الكذبة بإحدى ملكات بابل التي أمرت أن يكتب على قبرها بأن فيه ما يسد الحاجات إذا فتح في أول أبريل، ولم يجرؤ أحد على فتحه زمنًا طويلًا حتى تشجع رجل فارسي ليكتشف في القبر رسالة مهينة له، ومحقرة لجشعه وحرصه، وهناك من يعيدها إلى أصل هندي قديم، وعلى أيّ حال فالكذب بلاء بشري عام، ومن فضل الله علينا أن حضارتنا الإسلامية وقيمنا العربية ترفضه وتزدريه، والله يلهمنا التمسك بتعاليم ديننا، وشرف قوميتنا، ومكارم أخلاق أوائلنا.
وللأديب المازني مقالة طريفة في تعرضه لكذبة أبريل عدة مرات في يوم واحد ضمن كمين محكم من أناس لم يراعوا واجب الديانة وحق الصداقة، فكذبوا عليه بخبر سياسي عالمي ولولا أنه تحوط وتأكد لوقع في معضلة، ثمّ بعثوا لبيته البرقيات والمهنئين بزواجه؛ فتميزت زوجه غيظًا، ومن المعلوم أن المرأة سريعة في تصديق الشكوك والمساوئ عن زوجها ولو كان أطهر من غيمة، وحين خرج الأديب من مكتبه أهداه رجل حلوى فوضعها في جيبه، فلما دخل إلى داره اكتشفتها زوجته فازداد يقينها بصدق خبر زواجه، ثمّ التهمت واحدة فإذا هي محشوة بثوم وفلفل ليستقر في روعها أن زوجها وعروسه أرادا الإضرار بها!
كما يلاحظ أن هذه الكذبة الغليظة أقل عند النساء والفتيات وأكثر لدى الرجال، وقيل في تفسير ذلك بأن المرأة تكذب طوال العام؛ وبالتالي فهي ليست بحاجة لتخصيص يوم للكذب، ومن اللافت أن الرجال في الغرب يستفيدون من هذا اليوم في رسائل الحب مع صديقاتهم لتحديد مستوى العلاقة، ولست بمغرب لو قلت بأن الرجل-جل الرجال- في علاقاته مع النساء والفتيات الغريبات عنه، يكاد أن تكون جميع أيامه مثل أول إبريل خاصة إن كان ينظر لتلك المسكينة على أنها-كما يصفون- مزُّة!
أشير إلى أن جلّ معلومات هذه المقالة منقولة عن كتاب لطيف عنوانه: كذبة نيسان في الميزان، تأليف محمد خير رمضان يوسف، صدر عن دار ابن حزم عام (1418=1998م)، ويقع في (129) صفحة، ويتكون من مقدمة حوارية بعنوان قال وقلت، ثمّ فصلين بعدهما فهرسان للمراجع والموضوعات، ومع أني اشتريته قبل عشرين عامًا إلّا أني لم أجد فرصة لقراءته إلّا ضمن موسم الحجر المنزلي خلال أيام حظر التجول المضروب على كثير من بلاد العالم لحماية الناس والمجتمعات من وباء كورونا، وتعمدت القراءة ثمّ الكتابة في هذا التوقيت المتزامن مع موسم عار هذه الكذبة.
انتشرت كذبة أبريل من فرنسا إلى العالم، وسماها الإنجليز يوم جميع المغفلين، وعبثت بعض وسائل الإعلام الغربية بالناس وجعلتهم مثل الحمير، ونشأت في أوروبا جمعيات لأبرع الكذابين، بل تسابقت حكومة اليونان مع شعبها للكذب في أول أبريل، وأعلنت كذبتها في وكالة الأنباء الرسمية، وكاد أن يذهب بسبب الكذبة الربيعية الزعيم الروسي المثير خروتشوف حين انتشرت شائعة عزله.
ولساسة الغرب ولع بالكذب والافتراء خلاف الصورة المنمقة عنهم لدى بعض الناس، فهم كذبوا في تصريحاتهم عن حقوق الإنسان، وزعموا امتلاك العراق أسلحة دمار شامل، وجزموا بخلوا إيران من السلاح النووي، ثمّ استبان كذبهم في الزعم والجزم، ولهم تصريحات مثيرة حول قيمة الأحلاف لديهم إذا تعارضت مع مصالحهم، وعن نظرتهم للاتفاقيات إذا ظهر لهم عدم جدواها إذ عبّر أحدهم بأن أوراقها أكثر مهانة من مناديل المراحيض!
فما أجمل الصدق في القلب واللسان والوجه، وما أكمل الأخلاق التي تجعل المرء يتفاخر بما أكرمه الله به من عقل ونقل تحمله على العفة والنزاهة، ولو كان الصدق شعارًا وشعيرة عند أكثر الناس لغابت عن الحياة شرور كثيرة اجترأ عليها بنو آدم تحت ذريعة اللجوء إلى الكذب للنجاة من توابعها، فاللهم اجعلنا من الصادقين ومعهم؛ فبه النجاة لا بغيره.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الثلاثاء 07 من شهرِ شعبان عام 1441
31 من شهر مارس عام 2020م
- التقييم أدناه أو عبر التعليق والمراسلة يشبه الحكم والشهادة، وهو فضل منكم خاصة حين يعبر عما تعتقدونه.