صلوا في رحالكم…
ما أعظم أحكام الشريعة في العزيمة والرخصة، وما أحسن غاياتها في رفع الحرج حتى مع أجلّ العبادات البدنية الظاهرة كما في جمع الصلاة وقصرها، وصلاة الخوف، والصلاة في الرحال، مع أن الصلوات الخمس المفروضة، وصلاة الجمعة، وصلوات الاستسقاء والكسوف والخسوف، صلوات جامعة للمسلمين والاجتماع غاية بحد ذاته؛ إلّا أن للضرورة أحكامها، فالحمدلله على تمام النعمة بإكمال الدين فلا مكان فيه لمزيد أو مستزيد أو متزيد.
ومع أن نداء إيقاف الصلاة في المساجد يحزن أفئدة المؤمنين إلّا أنه سيفطر أكباد المنافقين حين تُعمر البيوت والقلوب بالذكر والقرآن والصلاة والعودة إلى الله، مع صدق النية بكثرة الخطى إلى المساجد لاحقًا، وستكون مدة التوقف فرصة للشحن العاطفي بالحنين الكبير لبيوت الله حتى لا يكاد أن يفارقها الناس بعد العودة إليها، ولربما أصبح من روادها من كان لا يأتيها إلّا لمامًا قبل نداء الصلاة في الرحال.
ثمّ ما أحوج البيوت التي سيطرت عليها وسائل التواصل وقنوات الإعلام إلى أن تنبعث فيها الحياة بالصلاة والذكر والقرآن والابتهال؛ حتى تسكن الدور وأهلها، وتخنس الشياطين أو تُطرد من منازل البشر، ويضعف أثر الشياطين الإنسية، وأي بركة سيجدها من اتخذ في داره موضعًا يقيم فيه الصلوات المفروضة والراتبة والنافلة، ثمّ يستمر على أداء الرواتب والنوافل فيه بقية عمره حتى يشهد له بالصلاة والسجود أكثر من مكان على هذه الأرض، وتبكي عليه بقعة شريفة إذا فقدته.
كما أن في هذا الحدث الذي شمل الصلاة والدراسة والعمل وربما يتطور إلى غيرها فرصة لاجتماع الأسر، وتبادل الأحاديث، ومعرفة فضل الأمهات، وميزة الدراسة، وأثر العمل، والله يعجل برفع هذه الغمة ووباء الكورونا عن عالمنا كي يعود إلى حال ترضيه سبحانه، ويعلو به الحق وأهله، وتنطمس معالم الفساد وتخبو مظاهر التمرد على أمر الله ونهيه، وليس ذلك على مولانا بعزيز، فكل حدث عظيم مؤشر على تغيير إن في العاجل المنظور أو الآجل المنتظر، ولا يغير الله حال الناس إلّا بعد أن يغيروا ما بأنفسهم كما في الذكر الحكيم.
بينما تجدر الإشارة إلى أمرين أولهما أن هذا الترتيب جاء في سياق متصل مع إجراءات أخرى مماثلة وسبقتنا إليه عدة بلاد، ولم يتطرق للصلاة وإنما لإقامتها جماعة في المساجد لزمن لن يطول بإذن الله، والثاني أن بعض أصحاب المواقف لم يلتزموا بالموضوعية في تفسير هذا الإجراء، وحاولوا اتخاذه طعمًا يصطادون به المؤيدين، أو يسيئون لمن يخالفونه، وليس في منهجهم هذا إحسان ولا إنصاف، وقد يكون أثره عليهم عكسيًا تمامًا.
وإن إيقاف الجماعة مؤقتًا لا يعني التفريط بالرواتب أو الأوراد القرآنية والذكر والوتر، بل إننا في حال ضرورة تستوجب من الكافة الالتجاء إلى الله بالدعاء والاستغفار والخروج عن المظالم الخاصة والعامة، وعسى أن يسعى كل أحد في عمل يرضي به الله على حسب طاقته ووسعه، ويطلب منه رحمة العباد فنحن مثل النفر الثلاثة في الغار، وما أحوجنا إلى خبيئة صالحة، أو شأن عام مبارك، فتسعد البيوت، وتبتهج المجتمعات، وتستعاد الألفة، وتقوى اللحمة، والله بيده مفاتيح الفرج وقلوب العباد، وأمره قريب لا راد له ولا معقب عليه، فالبعيد بقدرته قريب ، والعسير بقوته يسير، فأحسنوا الظن، وانتظروا البركات المتوالية.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الأربعاء 23 من شهرِ رجب عام 1441
18 من شهر مارس عام 2020م
2 Comments
بارك الله فيكم أبا مالك
وآجركم
بارك الله فيك الكاتب الحكيم احمد وحفظه الله ورعاه . وجعل ماتكتب من مقالات هادفة في ميزان حسناتكم وميزان حسنات والديكم